أعلن الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا، الخميس، حل مجلسي الشيوخ والنواب، وتنظيم انتخابات مبكرة يتوقع عقدها في الخريف. وقال ماتاريلا إن «الوضع السياسي أدى إلى هذا القرار»، في إشارة إلى استقالة رئيس الوزراء ماريو دراغي بعد انسحاب ثلاثة أحزاب كبيرة الخميس من ائتلافه الحكومي. وأوضح أن «المناقشة والتصويت وكيفية التعبير عن التصويت في مجلس الشيوخ»، الأربعاء، أثبتت عدم وجود «دعم برلماني للحكومة، وانعدام إمكانات نشوء غالبية جديدة». وأضاف ماتاريلا أن «هذا الشرط جعل حل البرلمان أمرا لا مفر منه»، مؤكدا أنه «دائما الخيار الأخير».
وقدم دراغي استقالته بعد فشل الجهود لإيجاد أرضية مشتركة بين الأحزاب المنقسمة في البلاد، في خطوة أثارت استياء كثيرين. فكتبت صحيفة «لا ريبوبليكا» على صفحتها الأولى «إيطاليا تعرضت للخيانة»، فيما عنونت «لا ستامبا» «عار عليكم». ويبدو ائتلاف «يمين الوسط»، الذي يضم حزب «فورتسا إيطاليا» اليميني بزعامة سيلفيو برلوسكوني واليمين المتطرف الممثل بحزب الرابطة الشعبوي بزعامة ماتيو سالفيني، الأوفر حظا في الانتخابات المقبلة.
- فما الذي تسبب في هذه الأزمة الإيطالية المتجددة؟
ينقل المؤرخون عن الطاغية الفاشي بنيتو موسوليني أنه عندما سئل عن الصعاب التي تعترض الحكم في بلد بركاني البنية مثل إيطاليا، أجاب بقوله: «ليس الأمر مستحيلاً، إنه بلا جدوى على الإطلاق».
وليس مستبعداً أن ما يشبه هذا القول يتردد اليوم في ذهن ماريو دراغي، وأذهان غالبية الإيطاليين الذين كانوا يؤيدونه، بعد أن انسدل الستار على ملهاة الأزمة التي أنهت سبعة عشر شهراً من ولاية أنجح حكومة عرفتها إيطاليا خلال العقود الأخيرة، واستردت خلالها قسطاً كبيراً من ريادتها الأوروبية والدولية بفضل الحاكم السابق للبنك المركزي الأوروبي الذي أنقذ اليورو في أصعب الأزمات التي مر بها، والذي كان سادس رئيس وزراء إيطالي على التوالي لا يخرج من صناديق الاقتراع بسبب من العقم الذي تتخبط فيه الأحزاب السياسية الإيطالية وعجزها عن الحد الأدنى من التوافق ومعالجة الأزمات المستعصية في القوة الاقتصادية الثالثة في أوروبا.
ثمة ذهول يتملك الإيطاليين منذ أيام أمام تعاقب فصول هذه الأزمة السوريالية التي يعجزون عن فهم أسبابها، ويتساءلون بقلق شديد عن مصير إرث هذه الحكومة التي كانت قطعت شوطاً بعيداً في مسيرة تجديد الجمهورية المؤجل منذ عقود. وتقول السيدة المسنة ماريا، التي درست لسنوات علم الاجتماع السياسي في جامعة روما، إن دراغي الضالع في الرياضيات والمعادلات المالية، أخطأ في حساباته عندما ظن أنه قادر على ترويض «وحش السياسة الإيطالية الذي يتقن رياضة تدمير الذات، بقدر إتقانه لعبة الطعن بالخناجر المسمومة».
في أقل من ثلاث سنوات، تعاقبت على إيطاليا حكومتان متضاربتان في الاتجاه السياسي، لكن في الحالتين كان عمادها حركة النجوم الخمس الشعبوية التي لطالما فاخر مؤسسها الممثل الهزلي بيبي غريلو بأنها ليست من اليمين ولا من اليسار، بل من الاثنين معاً، وكان رئيسها جيوزيبي كونتي الذي دخل المعترك السياسي برمية نرد جعلت منه رئيساً للوزراء، ليصبح بعد سقوط حكومته الثانية زعيماً للحركة التي كانت بدأت شعبيتها بالأفول.
تلك كانت سنوات مضطربة على الصعيد السياسي وحافلة بالتهديدات الموجهة إلى الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، زادتها حدة جائحة (كوفيد - 19) وتداعياتها، قبل أن تنهار الحكومة الثانية أيضاً تحت وقع المكائد والطعنات الداخلية. يومها، ألقى رئيس الجمهورية سيرجيو ماتاريلا نظرة على ما يسميه الإيطاليون «احتياط الدولة»، واختار منه الرجل الذي يتمتع بسمعة طاهرة ومكانة دولية مرموقة، ماريو دراغي. تردد الحاكم السابق للبنك المركزي الأوروبي بعض الوقت قبل أن يتجاوب مع دعوة ماتاريلا له ليرأس حكومة إنقاذ حتى نهاية الولاية التشريعية، خشية منه أن يغرق في أوحال السياسة الإيطالية. لكنه اقتنع في النهاية بفكرة تشكيل حكومة وحدة وطنية تعطيه الشرعية الديمقراطية التي لم يحصل عليها من صناديق الاقتراع، ليكتشف بعد سبعة عشر شهراً أن لا شيء يقوى على الطبائع المتأصلة في السياسة الإيطالية، وأن الشعبوية والنزوع إلى تدمير الذات ليست هي السقم، بل هي أعراض المرض الذي يعاني منه الجسم السياسي الإيطالي.
اختار دراغي تشكيلة وزارية من التكنوقراط والسياسيين، ونجح في إرضاء الأحزاب السياسية إلى جانب اعتماده على شخصيات مرموقة من المجتمع المدني وقطاع الأعمال كلفها معظم الحقائب الأساسية مثل الاقتصاد والانتقال البيئي والابتكار الرقمي. أعاد تصويب الخطة التي كانت وضعتها الحكومة السابقة لمشاريع النهوض من تداعيات الجائحة، التي أتاحت لإيطاليا الحصول على حصة الأسد من المساعدات الأوروبية التي تزيد على 230 مليار يورو. وباشر بالإصلاحات الاقتصادية اللازمة للحصول على هذه المساعدات، وفي طليعتها إصلاح النظام القضائي، والإدارة العامة، ونظام الضرائب، فيما كانت تزداد كل يوم دهشة الإيطاليين الذين لم يتعودوا على رئيس للحكومة ينجز هذا القدر في مثل هذا الوقت القصير.
أمسك دراغي بزمام الحكم في إيطاليا بهدوء وبعيداً عن الصخب الذي اعتاد عليه الإيطاليون، وقاد الجهود الأوروبية في تعميم التغطية اللقاحية ضد (كوفيد - 19) بعد أن كانت إيطاليا بين أكثر بلدان العالم تضرراً من الجائحة، وكان أول من فرض شهادة التلقيح كشرط للسفر وممارسة جميع الأنشطة المهنية تقريباً، رافضاً تخفيف القيود الوقائية حتى مرحلة متأخرة جداً برغم الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي تعرضت لها الحكومة.
إلى جانب ذلك، كانت مكانة إيطاليا الأوروبية والدولية ترتفع بسرعة، بعد الإصابات القاتلة التي لحقت بها بسبب سياسات الحكومات الشعبوية، وقبلها زلات وأخطاء الرئيس الأسبق برلوسكوني. وفيما كانت ألمانيا وفرنسا منهمكتين في شؤون الانتخابات المحلية، اندفع دراغي نحو صدارة المشهد الأوروبي على مسافة واحدة من برلين وباريس.
وعندما اندلعت الحرب في أوكرانيا، كان دراغي حازماً في موقفه إلى جانب كييف، طاوياً صفحة الغزل التي فتحتها كل الحكومات الإيطالية السابقة مع موسكو، وراهن على دعم أوكرانيا بالأسلحة، ما تسبب له بأول أزمة مع حركة النجوم الخمس التي تعارض هذا الاتجاه. وكان لافتاً أن بين الزعماء الدوليين الذين اتصلوا به مؤخراً لثنيه عن الاستقالة، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، الذي صرح بعد ذلك أن استقالة دراغي هي أفضل هدية يمكن تقديمها لفلاديمير بوتين هذه الأيام.
من المقرر أن تجرى الانتخابات المسبقة في النصف الثاني من سبتمبر (أيلول) المقبل، ما يعني أن الأحزاب الإيطالية ستمضي عطلة الصيف بين لظى الحملة الانتخابية ولهيب موجة الحر التي تضرب أوروبا، بحثاً عن إطفائي آخر يخمد الحرائق المشتعلة باستمرار في الجسم السياسي الإيطالي.
الرئيس الإيطالي يحل البرلمان تمهيداً لانتخابات تشريعية مبكرة
عقب انسحاب 3 أحزاب من ائتلاف دراغي الحكومي
الرئيس الإيطالي يحل البرلمان تمهيداً لانتخابات تشريعية مبكرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة