الأخطبوط ****
صمت البحث في بيروت مهدومة
تبعدنا أيام قليلة عن الذكرى الثانية للانفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت ودمّر الجزء القريب من المدينة. تعالت الاحتجاجات وارتفعت المطالبات وأعلن رئيس الجمهورية بأنه سيحقق في أسباب الانفجار وسيجلب الفاعلين للعدالة. لم يتحقق شيء من هذا ولا الاحتجاجات والمطالبات استطاعت، حتى الآن، من تحويل الكارثة إلى مناسبة لتعزيز قواها والإجابة عن الأسئلة المتعددة المتناثرة حول من فعل ماذا ولماذا. على العكس ازدادت التبعات وهبط البلد درجات أكثر إلى الهاوية. البعض يقول إنه وصل للهاوية فعلاً.
فيلم اللبناني كريم قاسم، «أخطبوط» لا يقول شيئاً في صدد البحث عن الفاعلين وتسديد التهم. لا يتناول الحدث من خلال مقابلات كل واحدة تصف ما عاشته وتطالب بتحقيق عدالة ممنوعة. لا يُجري استفتاءً بين الناس أو يترك لهم السجال وتراشق المسؤوليات والتهم.
يذهب الفيلم إلى ما هو أبعد من ذلك و- فعلياً - لما هو أجدى. يلتقط المخرج المدينة والمرفأ والبحر والمنازل المهدومة وما بقي منها واقفاً من دون أبواب أو نوافذ. يصوّر وضعاً يشبه حكاية خيالية عن مدينة دمّرتها حرب طاحنة أو تعرضت لنيزك من الفضاء. يلتقط مشاهد طويلة لأشخاص يجلسون في بيوتهم المخلوعة ينظرون إلى الفضاء في صمت. لامرأة تجلس على رصيف منزلها وأخرى تقف في صحن دارها مستندة إلى باب داخلي أو جدار شرفة ما زالت عالقة. ينتقل إلى سائق شاحنة ومنه إلى عمّال يحاولون تصليح ما يمكن تصليحه. كل هذا من دون اللجوء إلى بلا حوار أو تعليق أو مقابلات
ينزل الفيلم البحر مع رجل وابنه الشاب وحين يغوص الشاب تحت الماء تلحق به الكاميرا. ها هو غاطس في الماء مختاراً ألا يتحرّك. يفرد ذراعيه ويترك للماء الساكن تحريكه ببطء. يبدو كما لو كان ميّتاً كالمدينة أو كما لو أن الغاية تصوير رجل يريد أن يبقى تحت الماء لينسى ما فوق الأرض.
«أخطبوط» يعمد إلى وصف شعري لكارثة وما بعدها. ليس لديه ما يقوله كلاماً. يترك للصورة أن تنوب وهي تنوب بصمت مؤلم مصحوبة بموسيقى حزينة تأبى أن تترك المُشاهد طليقاً. المناخ المسيطر أمامنا هو مناخ مدينة ماتت. في الثلث الأخير من الفيلم نشهد محاولات البعض منعها من الموت إذ يحاولون إصلاح ما يمكن إصلاحه.
لهذا المناخ طبقة أخرى. فهذا الشعر الماثل والصورة التي تبدأ داكنة وتنتهي كذلك، يوحيان بعالم بائس ويائس. فاسد ومخرَّب. فضاء اللقطات تتدخل لكي تثبت هذا الوضع والمخرج ليس مستعجلاً لرسم لوحاته ولو أن هناك فترة من الفيلم يتمنّى فيها المُشاهد لو يأتي فيها بجديد مُضاف. لكن إذا ما كان الواقع كذلك فأي جديد يمكن للفيلم أن يأتي به؟ (مهرجان IDFA للسينما التسجيلية).
THE VISITOR
إمبرتو العائد إلى حيث ترك
«الزيارة» لمارتن بولوك إنتاج مشترك بين بوليفيا وأورغواي لأحداث تقع في بلدة بوليفية بطلها إمبرتو (إنريك أراوز) الذي خرج لتوّه من المصحّة. يعود إلى منزله المهجور ويبدأ لفوره بمحاولة إعادته لحياة ما. سيتطلب الأمر منه أكثر من تنظيف المكان وترتيب حاجياته، إذ سيجد نفسه يسعى للعودة إلى حضن الأسرة التي هجرها. دخوله المصحة كان بسبب إدمانه الشرب. الآن هو في كامل وعيه ولا ينوي العودة إلى تلك الفترة من حياته ثانية. ما يسعى إليه هو التقرب من ابنته وتعويضها بعض الحنان الذي تفتقده. لكن الأمور ليست سهلة وموقع أمبرتو دقيق. هو لا يملك ما يعاونه على كسب ثقة ابنته أكثر من حنانه ورعايته. مطلّقته تطالب بها وهو يريد أن تبقى معه.
لا يعلم كيف سيعوضها ما افتقدته أو كيف سيكسب ثقتها. هو مجرد رجل بسيط يواجه حياة اجتماعية صعبة. وهو قد ينهار مجدداً مُلاحظاً أن ما أودى به إلى آفة الشرب ما زال ماثلاً.
فيلم بولوك أيضاً عن هيمنة الكنيسة الأنجليكية على الناس. في مشهد دال، يحاول إمبرتو الحديث للجالسين في الكنيسة عن تجربته الخاصّة، لكن المبشّر الأنجليكي يخطف منه الميكروفون عنوة، راغباً في ممارسة شعائره. يضع يده على جبين إمبرتو ويصرخ طالباً من الشيطان الذي يعتقد أنه يعيش داخل إمبرتو للخروج حالاً. لكن ماذا لو أن أمبرتو ببساطة لا يخفي شيطاناً في داخله؟
تصوير المخرج لمشاهده يتم بلقطات ثابتة غالباً ولقطاته بعيدة ومتوسطة وعندما يختار الاقتراب من الوجه فإن ذلك لكي يعكس مدى الألم الذي يشعر به إمبرتو. وهو يشعر بألم كبير بالفعل يزداد ثقلاً عليه من حين لآخر. على أن هذه الحسنة ذات أثر ضائع. سيناريو «الزيارة» وإخراج بولوك يقومان على عرض حال ماثل من دون التوسع في أسبابه. يتجاهل حاجة الفيلم لتقديم موجز عن تاريخ شخصيته ويسل عليها ستاراً، مما يجعل النبش عن مبررات ما يقع غير مجد. العرض هو لما يقع من دون سؤال حول أسبابه الدفينة.
إنريك أراوز يحمل الشخصية بجسده وملامحه. يؤدي دور إمبرتو بواقعية وطواعية. هو قابل للتصديق من اللقطات الأولى وحتى النهاية. الصلعة الأمامية. الشعور بالوهن الدائم. الوجه العريض الذي يبدو حائراً. العينان الواسعتان اللتان لا تعكسان تحدياً بل قبولاً، كلها، كما الجسم المائل إلى البدانة وثقل الخطى، ملامح لا يمكن تأليفها بل تجسيدها (مهرجان تريبيكا، نيويورك).