فلاسفة فرنسيون: حذارِ من كتب «التنمية الذاتية»

تثير غضبهم بـ«سطحيتها» ويرون أنها تشكل خطراً على ذكاء القارئ

إيف كوسي
إيف كوسي
TT

فلاسفة فرنسيون: حذارِ من كتب «التنمية الذاتية»

إيف كوسي
إيف كوسي

الظاهر أننا وصلنا إلى زمن أصبحت فيه الحدود غير واضحة بين ما تسمى «التنمية الذاتية» والفلسفة... كيف؟ نظرة سريعة في رفوف المكتبات توافينا بالجواب. كتاب اختاروا عناوين تجعلك تتساءل عما إذا كنت حقاً في رف الفلسفة، كبيتر سلوتردايك الألماني وكتابه: «عليك أن تغير حياتك»، والفرنسي ألان باديو في: «ميتافيزيقا السعادة الحقيقية»، أو جاك آتالي بمؤلفه: «تحكم في حياتك... أو كيف تصبح أنت». أما إذا فتحت مواقع التواصل الاجتماعي فقد تُصدم بالكم الهائل من «مدربي التنمية الذاتية» الذين يستشهدون بأبيقور أو أفلاطون وإيمريسون وبالفلسفة الرواقية ليشرحوا لك وصفة السعادة والسلام الداخلي. البعض قد يتبرأ من هذا «التقارب»؛ مُشيدين برقي وتفوق الفلسفة أمّ العلوم، وفريق آخر قد يرى فيه إيجابيات بحسبان أن البعض يهرب من قراءة النصوص الفلسفية لأنها تبدو صعبة الفهم، فماذا لو ساهمت التنمية الذاتية في تبسيطها وتعميمها؟ الفكرة ترتكز على الإقبال الكبير الذي تحظى به التنمية الذاتية، فكتبها غالباً ما تتصدر قائمة الإصدارات الأكثر مبيعاً. في الولايات المتحدة مثلاً قفزت أرباح هذه النوعية من الكتب من 9.9 مليار دولار في 2016 إلى 13.2 مليار في 2021، وهي تشكل أكثر من 30 في المائة من سوق الكتب في فرنسا؛ حيث إن 33 في المائة من الفرنسيين سبق أن قرأوا على الأقل كتاباً للتنمية البشرية في السنة؛ حسب دراسة أخيرة صدرت في صحيفة «لوفيغارو».

                                                                                  تشارلز بيبان
يرى الباحث في جامعة بروكسل، نيكولا ماركي، في كتابه «من السعادة إلى سوق الابتئاس... أو مجتمع التنمية الذاتية» - دار نشر «بوف»، أن «قراءة هذه الكتب لا تأتي على سبيل التسلية، فالإقبال عليها هو نتيجة (حاجة)، أو (طلب) الهدف منه التغلب على مشكلة ما: ضائقة مادية، نقص الثقة بالنفس، العزلة الاجتماعية... إلخ. وهي في الأخير تمجد النزعة الفردانية عند الإنسان المعاصر، هذا الإنسان الذي قيل له إنه قادر على كل شيء بفضل ما يتمتع به من موارد خارقة، وغير مستغلة». ولا عيب بالطبع في أن يحاول شخص تطوير نفسه وتجاوز الصعوبات بمجهوده الخاص، لكن المشكلة تبدأ حين تتجاوز هذه الكتابات حدودها وتتخطاه لفضاءات معرفية أخرى ناشرة مفاهيم محدودة أو خاطئة. وهذا هو هو على الأقل التحذير الذي أطلقه فريق من الفلاسفة هاجموا بشدة التنمية الذاتية وكتبها؛ على رأسهم الفيلسوفة والباحثة جوليا دو فيناس، التي تقول في كتابها «التنمية غير الذاتية... نجاح الخدعة» - دار نشر «لوبسرفاتوار» - ما يلي: «ما يحدث هو أن كُتاب التنمية الذاتية يستعملون مفاهيم فلسفية لسقراط وأبيقور وكثير من الفلسفات القديمة كالبوذية فيما يشبه بالعملية (الترقيعية) لتناسب خطابهم من دون دراسة عميقة لأعمالهم». وتواصل الكاتبة: «خذوا مثلاً مقولة سقراط: (اعرف نفسك بنفسك)، كُتاب التنمية الذاتية يرونها دعوة للتأمل الباطني وتطوير الذات، بينما تعريف سقراط لهذا المفهوم بعيد كل البعد من (النرجسية) التي يتحدثون عنها. سقراط كان يرى أن معرفة (الذات) لا تأتي من الداخل؛ بل من الاحتكاك الواعي بالعالم». جوليا دو فيناس انتقدت أيضاً مفهوم التنمية الذاتية لـ«العقلانية» ومفاده بأن الإنسان سيغير حياته إذا أعاد برمجة عقله نحو ما يجب فعله، وواجهته بآراء فلاسفة مثل ديفيد هيوم وديكارت، وتصورها للإنسان الذي لا يمكن أن يكون عقلانياً على الإطلاق، فبين العقل والقلب غالباً ما نختار القلب، أو رأي نيتشه في الوضع الوجداني الذي يكون وراء كل قرار.... مفاهيم أخرى كثيرة مثل «الذات» أو «الإرادية المطلقة» و«الإيجابية» قُدمت في كتب التنمية الذاتية بمنظار محدود وسطحي، بينما الفلسفة تدعونا إلى التفكير النقدي ومقابلة الآراء بعضها ببعض. وخلصت الكاتبة إلى أن ما يجمع التنمية الذاتية والفلسفة هو البحث عن أجوبة؛ لكن الاختلاف في المنهج.

                                                                              جوليا دو فيناس
أما إيف كوسي؛ الفيلسوف والفنان، فيضيف في كتابه الساخر: «انجح في حياتك من الوهلة الأولى» - دار نشر «فلاماريون» - : «التنمية الذاتية تعتمد على آيديولوجية (السرعة)؛ فمن يعدك بأن تصبح مليونيراً في 6 أشهر، أو ناجحاً في عملك وعلاقاتك في 20 يوماً... وهو ما أسميه (وصفة الوصفة) والذي يتم من خلالها تحميلك مسؤولية نجاحك، علاوة على تأنيب الضمير في حالة الفشل... هذا كله خطير؛ لأنه يحد من حرية الشخص ويضعف ذكاءه».
الفيلسوف والأستاذ تشارلز بيبان يُركز على تفوق الفلسفة في مقابل غياب الشرعية العلمية للتنمية الذاتية، حيث يكتب في: «الفلسفة... لقاء» - دار نشر «آلاري» - ما يلي: «هيغل يدعونا إلى الحركة: لا تكتفِ بقناعاتك الداخلية، حاول أن تبرهنها بشكل موضوعي، بعد أن أمضي ساعتين في شرح هذه المقولة الفلسفية لأحد الطلاب، أقول له: والآن هل تفهم أنه عليك الخروج من البيت والتحرك؟ هذه النصيحة تكون أقوى تأثيراً من مدرب التنمية الذاتية الذي لم يقرأ أكثر من 3 كتب في حياته والذي يدربك على الرياضة الصباحية بقوله: والآن تحرك!!!». ويضيف بيبان: «لا توجد حرب بين التنمية الذاتية والفلسفة. لا توجد إلا كتب رديئة لا تساعد أحداً؛ لأنها مكتوبة بطريقة سيئة».
وفي كتابه: «لقد فهموا كل شيء... التنمية الذاتية حسب المفكرين القدامى» - دار نشر «هاشيت» - يرى نيكولا ليزيماشيو أن «الفلسفة اهتمت بمشكلات الفرد والمجتمع على حد سواء منذ البداية، وعندما نتوجه لمدرب التنمية ليساعدنا؛ فنحن نعلق أمل تطوير ذاتنا على شخص آخر. الفرق مع الفلاسفة أننا حينما نقرأ أعمالهم، ندرب أنفسنا بأنفسنا؛ لأنها تدعونا إلى التأمل في الذات وتدفع بنا إلى التفكير لا إلى تقبل فكرة جاهزة».
من ناحيته، يذكرنا نيكولا ماركي بأن «الفلسفة لم تنتظر القرن العشرين لتجعل من (العمل على الذات) أحد موضوعاتها الأساسية؛ ففي (نقد العقل العملي) كانت مهمة كانط الإجابة عن سؤالين مهمين هما: «ماذا يتوجب علي فعله؟»، و«ماذا يمكنني توقعه؟»، وفي الضفة الأخرى من الأطلسي كان (الكمال الأخلاقي) لإيميرسون بمثابة الطريق إلى حياة أكثر معنى. ورغم اليقين بأن تناول الفلسفة هذه الموضوعات أرقى وأعمق بكثير؛ فإن كثيراً منا يجد نفسه منساقاً لسهولة كتب التنمية الذاتية».
ما تغير اليوم أيضاً هو تفاقم النزعات الفردانية في المجتمعات العصرية، وهذا الشعور العام بأن العالم في أزمة وبأن علينا التحرك بسرعة لإيجاد حل ودون انتظار مساعدة خارجية، وهذه هي الثغرة التي استغلتها كتب التنمية الذاتية.



تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه

هيثم حسين
هيثم حسين

أحلم بسوريا جديدة تُعاد صياغتها على أسس المواطنة الحقيقيّة، حيث ينتمي الفرد إلى الوطن لا إلى طائفة أو عرق أو حزب... أتوق إلى وطنٍ لا يُجرّم فيه الحلم، ولا يُقمع فيه الاختلاف، وطنٍ يكفل لكلّ فرد حقّه في التعلم بلغته الأم، وفي التعبير عن هويّته وثقافته من دون خوف أو وصاية أو إنكار.

أحلم بسوريا تصان فيها الحريات العامّة، حيث يصبح احترام حرّية الرأي والتعبير قانوناً لا شعاراً أجوفَ، وحيث يُحمى المواطن لا أن يُساق إلى السجون أو المنافي لمجرّد مطالبته بحقوقه. سوريا التي أتمنّاها هي التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون، حيث لا تفضيلات ولا محسوبيات، لا فساد ينهش موارد البلاد ولا استبداد يدمّر مستقبلها.

أحلم ببلد يُدار بقوانين عادلة مستمدّة من حقوق الإنسان والمواثيق الدولية، لا بقرارات فردية تُصادر الحياة برمّتها؛ حيث سيكون لكلّ فرد حقّه في التعلم والعمل والتعبير عن رأيه، وستُحترم لغات السوريّين وثقافاتهم كما تُحترم حياتهم. لن يُضطهد الكرديّ بسبب لغته، ولا أيّاً كان بسبب اختلافه أو رأيه أو معتقده، ولن يُنظر إلى الأقلّيات وكأنّها مُلاحقةٌ في وطنها، لن يكون هناك من فرق بين سوريّ وآخر. سوريا التي أنشدها ستُعيد الاعتبار إلى حقوق الجميع من دون تمييز، بحيث تُعتبر الحقوق واجبات تضمنها الدولة وتحميها.

أحلم أن تكون سوريا ما بعد الاستبداد دولة القانون والمؤسّسات، لا الفوضى والاستئثار بالسلطة. دولة تكفل لمواطنيها حرّية الاختيار وحرّية النقد، وتتيح لهم المشاركة الفاعلة في صنع مستقبلهم. لا أريد أن تُستبدل ديكتاتورية بأخرى، ولا أن يُعاد إنتاج التهميش تحت مسمّيات جديدة. أريد لوطني أن يتخلّص من إرث الديكتاتوريّة والعنف، وأن ينطلق نحو حياة كريمة يعلو فيها صوت الإنسان فوق أصوات السلاح والتناحر.

أحلم بسوريا تتجاوز «ثأراتها» التاريخية، سوريا التي تتصالح مع ماضيها بدل أن تعيد إنتاجه، فلا يكون فيها مَن يتسلّط على قومية أو لغة أو مذهب، سوريا التي تُبنى بالشراكة لا بالإقصاء.

سوريا التي أنشدها هي تلك التي لا تُعامل فيها لغة على أنّها تهديد للدولة، ولا يُعتبر فيها الكردي أو الأرمني أو الآشوري أو أي أحد آخر ضيفاً في أرضه.

لقد حُرمنا لعقود طويلة من التعلّم بلغتنا الكردية، ومن كتابة أحلامنا وهواجسنا بتلك اللغة التي نحملها بصفتها جزءاً من كينونتنا. لا أريد أن يُحرم طفل سوري - أياً كان انتماؤه - من لغته، لا أريد أن يُضطرّ أحد إلى الانكماش على ذاته خوفاً من رقابة السلطة أو وصاية المجتمع.

لا أريد أن تُلغى الذاكرة الكردية أو تُهمّش، بل أن تُعاد إليها قيمتها من دون مِنّةٍ أو مساومة، أن تُعاد اللغة إلى أصحابها الحقيقيِّين، أن تُدرَّس الكردية والعربية والآشورية وغيرها من اللغات في سوريا، وأن تكون كلّ لغة جسراً للمحبّة لا سلاحاً للتمييز.

أحلم بوطن تُرفع فيه المظالم عن كواهل السوريّين، فلا أرى مشرَّدين بين الأنقاض، ولا أسمع أنين أمّهات يبحثن عن جثامين أبنائهنّ المفقودين في كلّ مكان.

أحلم بوطن يتنفّس أبناؤه جميعاً بحرّيَّة، وطن يضمّد جراحه التي خلّفتها أنظمة الاستبداد، ويُفسح مكاناً للكرامة والحرية لتكونا أساسَين صلبَين لعقد اجتماعيّ جديد.

آمل أن تكون سوريا الناهضة من ركام نظام الأسد - الذي أعتبره تنظيماً مافيوياً لا غير - فضاءً يتّسع لاختلافنا. أن نستطيع العيش بوصفنا مواطنين كاملين، لا غرباء في أرضنا.

ولا يخفى على أحد أنّه لا يمكن بناء سوريا جديدة دون مواجهة الماضي بشجاعة وشفافية. العدالة الانتقالية ستكون الخطوة الأولى نحو تضميد جراح السوريين، لا بدّ من محاسبة عادلة لكلّ من ارتكب انتهاكات في حقّ الإنسان والوطن.

في سوريا التي أحلم بها، ستكون الثقافة حرّةً ومستقلة، مسرحاً للحوار والاختلاف، وفسحة لتجسيد التنوع السوريّ بجماله وثرائه. أحلم بروايات ومسلسلات تُحكى بكلّ لغات سوريا، ومعارض فنية تعبّر عن هموم السوريين وأحلامهم، ومسرح يضيء بصدق على المآسي والأمل معاً. الثقافة ستصبح أداة بناءٍ لا هدم، وحافزاً لإعادة اكتشاف الهوية المشتركة.

أحلم بوطن يحترم يحترم المرأة كإنسان وكشريك فعّال في بناء الحاضر والمستقبل، حيث تكون القوانين الضامنة لحقوقها جزءاً أصيلاً من بنية الدولة الجديدة. المرأة السورية التي واجهت الحرب بصبرها وشجاعتها تستحقّ أن تكون في مقدمة صفوف التغيير والنهضة.

أحلم بدولة تُوظّف مواردها لخدمة المواطنين، وتعتمد على طاقات الشباب والكفاءات السورية لتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية تعيد الأمل وتكفل حياة كريمة للجميع. أحلم بوطن يعيد احتضان أبنائه المهاجرين المتناثرين في الشتات، ويفتح لهم أبواب المشاركة الفاعلة في إعادة البناء.

سوريا التي أحلم بها هي وطن يليق بتضحيات شعبها، وطن تتجلّى فيه القيم الإنسانية العليا، ويُعاد فيه الاعتبار إلى العدل والحرية والسلام.

كروائيّ تأخذ أحلامي شكل الوطن الذي حُرمت منه، وحُرم معي ملايين من السوريين من أبسط حقوقهم في الوجود، من حرية اللغة، والهوية، والانتماء الذي لم يكن يوماً خياراً، بل قيداً مفروضاً.

قد تبدو أحلامي رومانسيّة وبعيدة المنال، لكنّ الأحلام هي بذور المستقبل، وهي الأسس التي سنبني عليها غدنا المنشود.

هل سيظلّ هذا كلّه حلماً مؤجّلاً؟ ربّما. لكن، على الأقلّ، صار بإمكاننا كسوريّين أن نحلم!

* روائي سوري