سعاد ماسي لـ «الشرق الأوسط»: لماذا لا يفكر غيرنا بالهجرة؟

تترجم في «ارسملي بلاد» قلقها حول مستقبل الشعوب

في «ارسملي بلاد» تترجم الفنانة حلمها في وطن يسكنه السلام (الشرق الأوسط)
في «ارسملي بلاد» تترجم الفنانة حلمها في وطن يسكنه السلام (الشرق الأوسط)
TT

سعاد ماسي لـ «الشرق الأوسط»: لماذا لا يفكر غيرنا بالهجرة؟

في «ارسملي بلاد» تترجم الفنانة حلمها في وطن يسكنه السلام (الشرق الأوسط)
في «ارسملي بلاد» تترجم الفنانة حلمها في وطن يسكنه السلام (الشرق الأوسط)

تهندس سعاد ماسي أعمالها الفنية فتقدمها بمقاييس معينة وتزخرفها بصوت يتسم بالقوة والحنان معاً. فهي استفادت من شهادتها الجامعية في مجال الهندسة المدنية، كي تسطر أغانيها وتقولبها تماماً كمنزل يتألف من سقف وجدران وتطوف فيه روح الفن الأصيل. تميزت بموهبة غنائية لا تشبه غيرها فخاطبت من خلالها الكبار والصغار والحكام والبلدان. قدمت أعمالاً غنائية على أنغام آلة الغيتار التي ترافقها في حفلاتها. وبين موضوعات الحب والطفولة والهجرة وغيرها، بنت قاعدة جماهيرية طالت المشرق والمغرب. صارت واحدة من أشهر الفنانات العربيات اللاتي ينتظر الغرب صدور أعمالهن بالفرنسية والعربية والإنجليزية.
الطفلة الجزائرية التي ولدت في بيت موسيقي تستقر اليوم في فرنسا، ولكن ذلك لم يبعدها عن أجواء الشرق والأزمات التي تسكنه. أصدرت أخيراً، واحدة من أغاني ألبومها العاشر «سيكوانا» تحت عنوان «ارسملي بلاد». ورافق الأغنية كليب مصور ضمن فكرة بسيطة. فنراها تجلس على مقعد في غاليري فني وهي تنظر إلى لوحة تتبدل مشهدياتها ورسوماتها لتواكب كلمات الأغنية، وتتحدث فيها عن بلاد سعيدة يعيش أهلها بهناء وسلام.


حصدت سعاد ماسي جوائز عالمية عن أعمالها الغنائية

وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، تخبرنا سعاد ماسي عن أغنيتها الجديدة التي تنتقد خلالها اللاأمان في بلادنا. ونسألها عما إذا هي تترجم فيه قلقها ومخاوفها من الغد، فتقول: «رغبت من خلال هذه الأغنية التعبير عن قلقي على مستقبل أطفالنا وشعوبنا وأمتنا. واقع بلادنا بات قاسياً. وعدم النظر إلى هذا الواقع وجهاً لوجه يتحول بطريقة ما إلى حالة نكران. وأنا بطبعي لا أحب التستر على المشكلة أو أن أغض النظر عنها. وكي نحل مشاكلنا علينا أن نحددها أولاً ونضع إطاراً خاصاً بها، كي نستطيع الانقضاض عليها. لذلك ترينني في أغنية (ارسملي بلاد) أتحدث عن الواقع كما هو، ومن دون مواربة».
سعاد التي هاجرت إلى فرنسا منذ مدة، تقول: «إن ما نراه للأسف هو هروب من بلادنا أكثر مما هو هجرة. وهذه الظاهرة موجودة فقط في بلدان النصف الجنوبي من الكرة الأرضية. والسؤال الذي يجب علينا طرحه على أنفسنا هو، لماذا هذه الظاهرة تعم فقط بلداننا ودول العالم الثالث؟ لماذا السويديون أو الدنماركيون أو الكنديون وغيرهم لا يعرفون هذا النوع من المشاكل؟ وعندما نعرف الإجابة على هذا السؤال وبصدق سنكون بدأنا نتلمس بداية الحل لها».
يلعب النص في أغاني سعاد ماسي دوراً أساسياً في أعمالها الغنائية، لذلك تسرق اهتمام الناس لأنها تخاطبهم بلسان حالهم. فهي بعيدة كل البعد عن الأغاني التجارية المسطحة. وفي «ارسملي بلاد» يحضر الحلم بقوة في كلام الأغنية حول الوطن الذي رسمته في خيالها. وتعلق: «لا أعرف ما إذا كان هذا حلماً، ولكنه إرادة أكيدة وأيضاً صرخة غضب هادئة. فأنا من الأشخاص الذين يحلمون بوعي جماعي بحيث لا يكون هذا رسماً بسيطاً، ولكنه بناء حقيقي لبلداننا. ومن أجل ذلك يتطلب الأمر إرادة لتحقيقه. والبلد الذي أتخيله هو بلد يمكننا العيش فيه جميعاً، بغض النظر عن أصولنا ومعتقداتنا واختلافاتنا. أحلم ببلد تُحترم فيه حرية الفرد حتى تتاح للحرية الجماعية أن تبصر النور».
رغم المسافات التي تبعدها عن وطنها الجزائر فإن سعاد ماسي بقيت متمسكة في الغناء بالعربية. صحيح أنها تجيده أيضاً بالإنجليزية والفرنسية، ولكنها ترى في لغتها الأم حاجة وهوية لا تستغني عنهما أبداً. وتوضح في هذا السياق: «لغتي الأم أي الجزائرية؟ هي بالنسبة لي مثل مذياع أرفع الصوت من خلاله. لغتي هي البداية والنهاية وأشبهها بموقع الجزائر في البحر الأبيض المتوسط. فبلادي مسرح مفتوح ومع هذه اللغة استطعت الإبحار في أخرى. وكما تعلمين فإنني أغني أيضاً بالفرنسية والإنجليزية وحتى بالإسبانية. في رأيي رسالة الفنان تكمن في التقريب بين الناس وليس العكس. وتنوع اللغات في غنائنا، يخدم هذا الموضوع».


بالنسبة لسعاد ماسي الهجرة مشكلة تواجه فقط شعوب البلدان النامية

تملك سعاد ماسي انطباعاً خاصاً حول الساحة العربية اليوم وتقول: «أشبهها إلى هذا العالم الذي تتحكم به السرعة، لا أعرف لماذا لدي انطباع بأن العالم يركض والناس تركض وراءه. لذلك أحاول المقاومة فأبقى بمنأى عن هذه الظاهرة». وماذا تقصدين بالمقاومة؟ ترد: «بالنسبة لي هي أن أستغرق وقتاً للتفكير، وآخذ المسافة الكافية للكتابة، وكذلك الأمر بالنسبة للتأليف الموسيقي. أحب التحدث مع الموسيقيين والتشاور معهم وكذلك مراقبة الحياة بمشهديتها الكبرى وتفاصيل يومياتها. أحاول أن أحافظ على طبيعتي وأحترم جمهوري. وأطالب نفسي دائماً بعمل يحثني على البحث، فمن خلاله أحاول على الأقل ألا أخيب أمل الناس». وعمن يلفتها على الساحة اليوم تقول: «لا زلت أميل إلى أجواء زمن الفن الجميل فأستمتع بموسيقاه وثراء تركيبات نوتاته، والطاقة الهائلة التي كان يتمتع بها الفنانون في تلك الحقبة».
قريبة سعاد ماسي من الناس، ليس فقط بموضوعات أغانيها بل في أدائها اليومي معهم. وهي معروفة بتواضعها كنجمة عالمية، بحيث لم يحصل عندها تضخم للأنا. فهل برأيها هذا التصرف هو من سمة الفنان الأصيل؟، «أعرف تماماً من أين أتيت، فأنا امرأة بسيطة جاءت من عائلة بسيطة وأرغب في البقاء هكذا قريبة من الناس، فأكون منهم وبينهم. وإذا ما ابتعدت عنهم سأشعر من دون شك بأنني خنت الأمانة، وخنت المبادئ التي تربيت عليها».
حصدت سعاد ماسي عدة جوائز عالمية عن أعمالها الغنائية، وذاع صيتها في الشرق والغرب. كما ترشحت لجائزتين عالميتين عن ألبومها «أمنية»، وتوجها بلقب أفضل فنانة في فئة أفضل ألبوم، ضمن جوائز أديسون الهولندية. فكانت أول فنانة عربية تحقق ذلك في مهرجان فني يوازي بأهميته جوائز الغرايمي العالمية. حتى إن جيل الشباب يعتبرها أيقونته الفنية، فيتمثل بها ويلحق بحفلاتها حتى آخر الدنيا. وعن الفرق الذي أحدثته في عملها كي تحصد كل هذه الشهرة؟ ترد: «في الحقيقة ليس لدي تفسير لذلك، ولكن ربما لأنني كنت من أوائل النساء اللاتي غنين القومية بالعربية. وربما يعود السبب إلى الخليط الذي أحدثته بين التقليدي والحديث ومزج الأساليب والأدوات بطريقة متناغمة. ومع هذا الاعتراف يتملكني الشعور بضرورة المثابرة والعمل بجدية أكبر».

الفنانة الجزائرية سعاد ماسي

وهل تتوقعين لألبومك الجديد «سيكوانا» النجاح نفسه؟ ترد: «همي الوحيد عندما أقدم عملاً جديداً هو أن أكتب ما يرضي جمهوري. بعدها إن حصدت الجوائز أكون فرحانة. ولكن تنحصر سعادتي الحقيقية بالابتسامة المرسومة على ثغر جمهوري، فصدقيني هي أفضل هدية يمكن لفنان أن يتلقاها».
وفي ألبومها الجديد «سيكوانا» تقدم مروحة من الأغاني المنوعة كالروك والكاونتري والموسيقى الصحراوية والشعبية. ومن أصل 11 أغنية يتضمنها الألبوم كتبت 9 منها وتعاونت فيه مع المنتج العالمي جاستن آدامز. فهل تتفاعل أكثر مع الأغاني التي تكتبها؟ توضح ماسي لـ«الشرق الأوسط»: «كتبت 9 من أغنياتي ولحنت 10 منها. وكي أكون صريحة معك فأنا أتفاعل بالطريقة نفسها مع الأغاني التي أقدمها إذا كانت من تأليفي أو العكس. فالأغاني التي أكتبها هي موضوعات اخترتها وتحدثت بها مع المؤلف. أحب هذه الحرية التي أتمتع بها في اختيار موضوعات أغاني وألحانها». وعن المعنى الذي يحمله عنوان ألبومها «سيكوانا» تقول: «يرتبط بملكة وآلهة نهر السين الفرنسي، ويرمز إلى الشفاء في أساطير الغال. وألبومي يتحدث عن شرور عالمنا الحديث وتجريد مجتمعاتنا من إنسانيتها وكأننا نعيش في زمن مريض. لذلك أتمنى أن نشفى من هذا اللهاث وراء المادة ونسياننا البشرية».
وعن كيفية اختيارها لأغانيها تقول: «قبل أن أصبح فنانة كنت مواطنة تعيش حياة عادية مثل أي شخص آخر. وفي المقابل كنت أشعر بحساسية شديدة لما يحيط بي كل يوم. إلهامي في اختيار أغنياتي ينبع من هناك. لهذا السبب أكتب أولاً قبل تأليف الموسيقى، ولكن بمجرد وضع كلمات الأغاني، أعمل على الموسيقى التي تقولب الكلمات واللحن، وأحياناً أسمح لنفسي بفعل أشياء مختلفة وهي أن أغني موضوعاً حزيناً بلحن سعيد، وهي طريقة اعتمدها للإشارة إلى أن الأمل موجود دائماً».
وعن الكلمة التي تحب التوجه بها إلى المرأة العربية تقول: «موضوع المرأة العربية بحد ذاته يثير فيّ مشاعر مختلطة. وبرأي المطلوب منها أن تتشبث في شق طريقها كي تنجز ما تصبو إليه. وللوصول إلى هذه النتيجة عليها أن تتعلم. فالدراسة هي السلاح الأقوى الذي من خلاله يمكنها أن تواجه أي مشكلة تعتريها. وإذا رغبت بغد مشرق فلتطلب العلم والمعرفة وتسعى إليهما».
وتختم لـ«الشرق الأوسط» حديثها مع سعاد ماسي الأم. وتسألها عن القيم والمبادئ التي تزرعها اليوم خلال تربيتها لبناتها كي يصبحن نساء صلبات في المستقبل فترد: «أشدد في تربية بناتي على ضرورة التعامل مع الناس بصدق واحترام وتسامح. فأنا وكغيري من الأمهات لدي عيوبي ومحاسني. وأحاول دائماً أن أتحاور وأتناقش معهن كي نؤسس معاً لرابط قوي يولد عندهن استيعاب الآخر وتفهمه».



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.