تدلّ كل المؤشرات على أن عودة ماريو دراغي عن استقالته من رئاسة الحكومة الإيطالية باتت شبه مستحيلة بعد الشروط التي وضعها لبقائه، لكن الحشد السياسي والدبلوماسي الكثيف حول الحاكم السابق للمصرف المركزي الأوروبي، ومنقذ العملة الموحدة في أعصب أزماتها، لإقناعه بالعدول عن قراره والبقاء حتى نهاية الولاية التشريعية، أخرج الأزمة السياسية الإيطالية من إطارها الوطني ليضعها بين هواجس الساعة في العواصم الأوروبية الكبرى وعلى أجندة الإدارة الأميركية، التي قال باسمها مستشار الأمن القومي جيك سوليفان من السعودية إن جو بايدن يتابع تطوراتها باهتمام وقلق شديدين.
ولا يغيب عن مراقبي هذه الأزمة، التي هي من حواضر البيت السياسي الإيطالي وتقاليده العريقة، أنه بعد سقوط رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي تميّز بشراسة مواقفه وقراراته ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، يهتزّ اليوم موقع زعيم أوروبي آخر يصرّ على تزويد كييف بالمزيد من الأسلحة الثقيلة ضد رغبة اثنين من الأحزاب الرئيسية التي تدعم حكومته الائتلافية.
وبعد أن كانت التحذيرات الأوروبية، والأطلسية، من الهجمات الروسية الهجينة التي يمكن أن تتعرّض لها الأنظمة الغربية بهدف زعزعة استقرارها وضرب مصالحها، تكتفي بالإشارة إلى العموميات، ها هي الآن توجّه أصابع الاتهام بوضوح ودقّة إلى روسيا. فيما لم يتردد وزير الخارجية الإيطالي، والزعيم السابق لحركة «النجوم الخمس» التي انشقّ عنها مؤخراً لويجي دي مايو في اتهام مفتعلي الأزمة بأنهم قدّموا رأس دراغي على طبق من فضّة لموسكو.
وفي تصريح غير مسبوق قال أمس بيتر سبانو، أحد الناطقين الرسميين بلسان المفوضية الأوروبية، إن ثمة مناورة روسية وراء استقالة رئيس الوزراء الإيطالي، وإن موسكو تحاول زعزعة الاتحاد الأوروبي عن طريق التأثير في السياسات الداخلية للبلدان الأعضاء، إلى جانب نشرها الأنباء والمعلومات المضللة. ثم أضاف: «ثمة أطراف داخلية، قد تكون سياسية، تستخدمها موسكو في جهودها لشنّ الهجمات الهجينة على الدول الأعضاء». وقال الناطق بلسان المفوضية إن تسمية الأطراف الداخلية الضالعة في هذه الهجمات الروسية، التي كانت وراء الأزمة الحكومية الأخيرة في بلغاريا وهي اليوم تحرّك بعض خيوط الأزمة الإيطالية، مسألة تعود لحكومات الدول الأعضاء وأجهزتها، داعياً إلى الحذر في مواجهة «المساعي الروسية لزعزعة الاتحاد الأوروبي وأعضائه».
وكان وزير الخارجية الإيطالي من ناحيته صرّح بقوله: «تدمي الفؤاد رؤية موسكو تشرب نخب الأزمة الإيطالية، و(الرئيس الروسي السابق ديمتري) ميدفيديف منتشياً لأنهم قدّموا رأس دراغي على طبق من فضّة لبوتين. أنظمة الاستبداد تحتفل، والديمقراطيات تضعف. أوروبا أيضاً ستضعف من غير هذه الحكومة».
في جملة القول إن الأزمة الإيطالية خرجت عن حدودها الوطنية إلى الدائرة الأوروبية والدولية، وأصبحت رقعة أخرى في فسيفساء الصراع الدائر بين الغرب وروسيا.
وكان سوليفان صرّح من السعودية بأن جو بايدن يكنّ كبير الاحترام والتقدير لدراغي، وأنه يتابع باهتمام وقلق تطورات الأزمة السياسية في إيطاليا. وتجدر الإشارة إلى أن دراغي هو أقرب الحلفاء الأوروبيين لواشنطن في المواجهة مع موسكو، وفي المساعي التي تبذلها الإدارة الأميركية لوضع سقف لأسعار النفط والغاز.
واعتبرت رئيسة البرلمان الأوروبي روبرتا ميتسولا أن أوروبا بأمسّ الحاجة إلى الاستقرار السياسي في هذه المرحلة الحرجة من الحرب في أوكرانيا وإلى الدور القيادي الذي تلعبه إيطاليا في الاتحاد الأوروبي.
وكان الخبير المالي لارس فيلد المستشار الرئيسي لوزير المال الألماني أعرب أمس عن خشيته من أن الأزمة الحكومية الإيطالية، إذا طالت، في مثل هذه الظروف، قد تدفع البلاد إلى خانة الأعباء الكبرى على كاهل الاتحاد الأوروبي الذي أصبح مثقلاً بفعل التراكمات الأخيرة.
المنافذ المحتملة لهذه الأزمة محصورة في ثلاثة: أن يمثل دراغي يوم الأربعاء أمام البرلمان بعد عودته من الجزائر، ويحصل على ثقة واسعة وضمانات من الأحزاب بعدم عرقلة نشاط الحكومة ويعود عن استقالته، أو يصرّ عليها ويضطر رئيس الجمهورية إلى حل البرلمان والدعوة لإجراء انتخابات في الخريف المقبل، أو أن يكلّف ماتّاريلّا شخصية محايدة لترأس الحكومة الحالية بدل دراغي حتى نهاية الولاية التشريعية.
المقرّبون من دراغي يستبعدون رجوعه عن الاستقالة، ويقولون إن تأجيل بتها إلى الأربعاء مرده إلى انتظار العودة من الجزائر حيث من المقرر أن يوقّع اتفاقات هامة لتزويد إيطاليا بالغاز تحسباً لانقطاع الإمدادات الروسية. ويؤكدون أن قراره ناشئ عن اقتناعه الراسخ بأن حكومة طوارئ تحتاج لإجماع برلماني لم يعد متوفراً في الظروف الراهنة، خصوصاً أن الأحزاب السياسية أصبحت مسكونة بهاجس الانتخابات المقبلة.
وتقول المصادر إن التشاؤم يسود أيضاً في أوساط رئيس الجمهورية الذي حاول إقناع دراغي بالعودة عن الاستقالة، لكن من غير أن يمارس ضغوطاً عليه، بعد أن أبلغه بأنه فقد الثقة ببعض الشركاء في الحكومة.
لكن ثمة من لا يزال يراهن على عودة دراغي بفعل الضغوط التي يمارسها الحلفاء الأوروبيون والأطلسيون، خاصة أنه تحّول في الفترة الأخيرة إلى طرف لا غنى عنه في المواجهة الغربية ضد فلاديمير بوتين، بعد استقالة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، وانخفاض اسهم المستشار الألماني أولاف شولتز، والصعوبات الداخلية التي تواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وليس غريباً أن أوّل المحتفلين باستقالة دراغي كان الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف الذي نشر على وسائل التواصل الاجتماعي صورتين لبوريس جونسون وماريو دراغي وعلّق عليهما متسائلاً: من سيكون التالي؟
البحث عن «أيادٍ روسية» في أزمة إيطاليا الحكومية
المقربون من دراغي يستبعدون عودته عن الاستقالة
البحث عن «أيادٍ روسية» في أزمة إيطاليا الحكومية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة