فيرابند بين الفوضوية والنسبانية

بول فيرابند
بول فيرابند
TT

فيرابند بين الفوضوية والنسبانية

بول فيرابند
بول فيرابند

يعتبر فيرابند ظاهرة مستفزة داخل مجال فلسفة العلم بمواقفه الغريبة والطريفة، التي تستحق الدراسة لأهميتها في إغناء التصورات حول قضايا مركزية في الفكر الغربي، ولا سيما الشق الإبستيمولوجي منه. ومما لا شك فيه أن فيرابند يتعب قارئه الشغوف بحديث المذاهب والفرق؛ فهو يدرج نظريته حول العلم في خانة «الإبستيمولوجيا الفوضوية»، لكنه لا يخفي استعداده للأخذ ببعض «المبادئ»، ما ينافي روح الفوضوية المناهضة لكل «مبدأ»، ويعلن انتماءه تارة إلى «النسبانية» البروتاغورية (نسبة إلى بروتاغوراس)، وطورا إلى «الواقعانية»، لكنه سرعان ما يتنصل من ذلك كله منتسبا، بالأحرى، إلى الدادائية في العلم! ويدافع بحماسة عن التنجيم - فضلا عن السحر والتصوف والأسطورة - في وجه منتقديه. ويهاجم «العقلانية» هجوما شرسا، مع أنه لا يتردد في الثناء على أرسطو وليسنغ.. وبعض أقطاب «دائرة فيينا» الوضعانيين؛ ويبدي عطفه على نيتشه، لكنه يسخر من صيحة «موت الإله» واصفا إياها بالسخافة.
ولد بول كارل فيرابند في فيينا عام 1924. وأدمن القراءة، وشغف بالمسرح والموسيقى والغناء، فضلا عن الفيزياء والفلك، قبل أن ينهي دراسته الثانوية عام 1942. بعدها رحل إلى ألمانيا حيث التحق بخدمة العمل الإجباري. خلال ذلك، تلقّى نبأ انتحار والدته المفجع، مما خلّف له ندوبا نفسية عميقة. وسرعان ما ترقى الجندي فيرابند إلى رتبة ضابط؛ إلا أنه أصيب برصاصة في عموده الفقري تسببت في إصابته بشلل حيث أصبح يمشي والعكاز لا يفارقه. شارك فيرابند بحماسة، وهو طالب، في برامج «دائرة كرافت» الوضعانية. واعتنق الإبستيمولوجيا «التفنيدية» البوبرية، ودافع عنها زمنا ضدّ النزعة الاختبارية الاستقرائية؛ بل ترجم لبوبر كتابـ«المجتمع المفتوح وأعداؤه»، لكن سرعان ما انقلب ضده. كتب مقالا عام 1970 تحت عنوان «ضدّ المنهج»؛ واتفق مع صديقه إيمري لاكاتوس على تأليف كتاب مشترك بينهما تحت عنوان «مع المنهج وضد المنهج»، حيث يكتب لاكاتوس دفاعا عن العقلانية العلمية، بينما يكتب عنها فيرابند مهاجما ومبطلا. لكن رحيل لاكاتوس المفاجئ عام 1974 حال دون ذلك؛ فقرّر فيرابند نشر ما كتبه عام 1975. وهكذا صدر أهمّ أعماله تحت عنوان: «ضدّ المنهج»، خطة لنظرية فوضوية في المعرفة؛ ومنه تفرّغ لنقد البوبرية، ذات النفوذ الواسع في الحقل الإبستمولوجي. نشرت لفيرابند نصوص أخرى لا تخلو من أهمية بالنسبة لدارسيه وقرائه؛ ونذكر منها: «العلم في المجتمع المفتوح»، 1978؛ و«أوراق فلسفية» في ثلاثة أجزاء، 99 - 1981 (الجزء الأوّل، نشر قبل ذلك، باللغة الألمانية)؛ «العلم من حيث هو فنّ»، 1984؛ «وداعا للعقل»، 1987؛ «ثلاث محاورات في المعرفة»، 1991؛ «قتل الوقت» 1995. وهو سيرته الذاتية التي كتبها قبل رحيله. أن فيرابند في تناوله النقدي للعقلانية قام بنقد يمكن أن نسميه بالتاريخ الجينيالوجي لهذا المفهوم. وأكد على انتمائه إلى العهد اليوناني وخاصة مع اكسانوفان وأفلاطون وأرسطو. إلا أن مهاجمة فيرابند ورفضه للعقلي لا يعني أنه يتبنى اللاعقلي، بل هو يعتقد أن العقلي واللاعقلي كلاهما مصطلحان ملتبسان. ولهذا فهو يرفض حتى الانتقادات التي وجهها التجريبيون والدوغمائيون للعقلانيين. وهكذا فإن الالتباس الذي يقره فيرابند بين العقلي واللاعقلي هو ما جعله يتحدث أحيانا عن نوع من «المناهج اللاعقلية»، معتقدا أنها تؤدي هي الأخرى إلى نجاح ملحوظ لا بالمعنى العقلي ولكن بالمعنى اللاعقلي. إننا مع فيرابند، وهذا هو المثير في موقفه من العقلي واللاعقلي. فهو يوحد بينهما، وحينما يؤكد على تعليم السحر أو العلم، فهذا نابع من عمق تفكيره وتفتح فكره، لكونهما، سواء السحر أو العلم يخضعان لقواعد معينة يتم التسليم بها من طرف العقل ذاته. ويؤكد فيرابند على أنه من العبث أن نأمل في اختزال العلم إلى بعض القواعد المنهجية البسيطة، وذلك نظرا لتعقد تاريخه. فالفكرة القائلة في نظر فيرابند، بأن العلم يمكن وينبغي له أن ينتظم وفق قواعد ثابتة وشمولية، هي في آن واحد فكرة طوباوية وذات بريق خادع. وكل المناهج لها حدودها، والقاعدة الوحيدة التي تبقى وتحيا، هي «كل شيء جائز». هنا مكمن التصور الفوضوي الذي يعتنقه ويدعو إليه. وتعتبر النزعة النسبية من أهم تجلياته. يستعمل مفهوم النسبانية بدلالات مختلفة ومتباينة وأحيانا عبث، إلا أنه يتضح من خلال النظر في تطور العلوم والفنون والفلسفة، أن الغنى الفكري متلازم ومتناسب مع التعدد المذهبي، بحيث لا يمكن أن يتوفر التعدد إلا في جو ثقافي تتعايش فيه المذاهب والعقائد وتتلاقح بدرجة ما، من أجل الإبداع والابتكار. وهذه هي الخاصية الأساسية للعقلية العلمية. يقول فيرابند: «إن تنوع الآراء سمة ضرورية للمعرفة الموضوعية، والمنهج الذي يشجع التنوع هو كذلك المنهج الوحيد الذي يساير النظرة الإنسانية». وقد أشار فيرابند إلى كون مفهوم النسبانية غير محدد بشكل دقيق، بل هناك مقاربات كثيرة له تختلف باختلاف كيفيات استعماله.
إن المنطلق الأساسي لنسبانية فيرابند يتمثل في تقدير جميع الثقافات وجميع التقاليد. يقول: «يجب على المجتمعات الديمقراطية أن تعطي لكل التقاليد حقوقا متساوية وليس فقط حظوظا متساوية». أن محاولة فيرابند للتأصيل لمفهوم النسبانية، جعله يقدم في كتابه «وداعا أيها العقل»، الكثير من الملاحظات التي تعبر بالفعل عن غموضه، الشيء الذي جعله يثيره في الكثير من المؤلفات اللاحقة. إلا أن تأويلين أساسيين لنسبانية فيرابند يمكن استنتاجهما من خلال نصوصه وهما:
لا شيء مطلق وكل شيء صادق وحقيقي. وأن كل حكم أخلاقي، أو سياسي، أو اجتماعي، أو معرفي، يتوقف على الثقافة التي يوجد فيها ويتحدد بها، وهكذا تكون كل الثقافات مطلقة. وهذا النوع من النسبانية يرفضه فيرابند، ليس بسبب عدم انسجامه، لكن من الخطر الذي يمثله وينتج عنه بلقنة النوع الإنساني وقبول كل شيء وأي شيء باسم احترام الثقافات، بدعوى أنها ثقافتهم وليس لدينا ما نقوله أو نفعله. وهذا النوع من النسبانية المطلقة، يتعارض مع الموضوعاتية المطلقة التي ترى أن هناك وجهة نظر واحدة ممكنة للأشياء والموضوعات، وأن كل مشكلة يمكن حلها بشكل بسيط من خلال معادلات رياضية محددة بشكل دقيق. إذن، إن الذي لا يرى العالم من خلال هذه الرؤية فهو مخطئ، ومن الواجب عليه أن يعتنقها من أجل الوصول إلى الحقيقة. الأخذ بعين الاعتبار غنى العالم وتعقده، وعدم اختزاله لا في المعنى الأول للنسبانية ولا في الموضوعاتية المطلقة، بل في كونه يزخر بخصوصية تفتح له دروب وإمكانات المعرفة الجديدة والمتنوعة. فقد تطورت تقاليد ثقافية منذ أزمنة قديمة في بناء ما يسمى بالحضارة المعاصرة كنتاج للتفاعل المتعدد الإبعاد، وبالتالي لا يمكن الحكم عن سمات جوهرية ثابتة عرقلت وتعرقل نمو المعارف وتطور الثقافات.
إن غموض مفهوم النسبانية عند فيرابند يجعله عرضة لتأويلات كثيرة ومتضاربة، تجمع بين مفهوم النسبانية كموقف للامبالاة وتعليق الحكم وتساوي الأفكار وغياب النقد، وبين النسبية كخاصية مكونة للفكر العلمي المعاصر، تنتج من خلال دينامية النقد والمقارنة بين التقاليد الثقافية، باعتبار أن النقد يعمل على غربلة الأفكار وإبراز مدى تأثيرها أو محدوديتها في تطوير الأنساق الثقافية.
بشكل عام، قد يثار السؤال لماذا فيرابند، فهو يهاجم المنهج العلمي والعلماء، بل يهاجم العقل والعقلانية، ويدافع عن التنجيم والسحر والأسطورة واللاعقلانية، وهي أمور تؤدي إلى البلبلة وسوء الفهم، خاصة في ظل المناخ الفكري السائد في واقعنا. فقد يتسرع القارئ ويضع فيرابند والمدافعين عنه، في خندق واحد مع المشعوذين والرجعيين واللاعقليين. لذلك أدعو القارئ العربي إلى قراءة متن فيرابند لاستكشافه، وعدم الحكم عليه إلا من خلال استيعاب سياق اشتغاله.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.