ليبيا.. لغز تمدد «داعش»

التهم مدنًا وبلدات {بتواطئ إخواني} .. وعينه على مثلث النفط

ليبيا.. لغز تمدد «داعش»
TT

ليبيا.. لغز تمدد «داعش»

ليبيا.. لغز تمدد «داعش»

هي خطة مُحكمة من جانب تحالفات المتطرفين، لإطالة أمد الأزمة الليبية وتشتيت الجيش، وصولا إلى نهاية المدة القانونية للبرلمان الشرعي التي يمكن أن تكون في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. خلال الأيام الأخيرة أخذ تنظيم داعش يتمدد وينتشر ويستعد للسيطرة على الهلال النفطي الليبي الواقع بين سرت وبنغازي بطول نحو 500 كيلومتر على البحر المتوسط. فجأة بدأت قوات من ميليشيات المتطرفين الأخرى تتسرب إلى طرابلس لتعزيز سيطرتها على العاصمة قبل دخول الجيش إليها.

الواقع على الأرض أكبر مما يمكن تصوره. حتى ما قاله رئيس الحكومة المؤقتة، عبد الله الثني، عن وجود أمر مريب وراء ملابسات انتشار «داعش» في سرت وما حولها هذا الأسبوع، لا يقارن بالمجريات الخطيرة، وفقا لإفادات من مصادر عسكرية. فقد بدأ الجيش الليبي يستغيث بالمجتمع الدولي لمساعدته في كبح جماح التمدد والانتشار لهذا التنظيم الدموي الذي أصبح يهدد باقتحام بلدة هراوة المجاورة لسرت، بالإضافة إلى هيمنته على منطقة النوفلية في اتجاه بنغازي.
وتقع كل هذه البلدات في منطقة الهلال النفطي. مصادر في القوات الجوية الليبية تقول لـ«الشرق الأوسط» إن الطائرات الحربية القليلة التي يملكها الجيش تتعامل بصعوبة مع مقاتلي التنظيم، ورغم تمكنها من رصد تجمعاته على مشارف عدة بلدات ليبية، فإن مسألة توجيه ضربات له أمر ما زال صعب المنال. في درنة لم يتمكن الجيش من دخول المدينة رغم حصاره لها منذ أكثر من ستة أشهر. يقول أحد شيوخ القبائل في «هراوة»: «ربما لن يسمع أحد عن بلدتنا إلا بعد أن يرتكب داعش مجازر فيها.. سبق وفرَّ إلى هنا عدة مئات من العمال العرب الذين كانوا في مدينة سرت، خوفا من بطش التنظيم. نخشى ارتكاب داعش لمذابح بحق هؤلاء العمال وغالبيتهم من المصريين».
على الجانب الآخر تسعى قبائل ليبية إلى رفع الغطاء الاجتماعي عن أبنائها المتورطين في القتال مع التنظيمات المتطرفة، بما فيها «داعش». ويحذّر الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، المستشار في الجيش الليبي، في حديثه لـ«الشرق الأوسط» من خطورة التطورات التي تشهدها البلاد خلال الفترة الأخيرة، بعد أن تمكن «داعش» من إتمام سيطرته على سرت، والنوفلية، وهي مناطق رئيسية للنفط الليبي، وتقع إلى الغرب من مدينة بنغازي.
الدكتور عبد الكريم يتهم مقاتلي مصراتة، أو ما يعرف بقوات «فجر ليبيا» التي تديرها جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة، بالتنسيق مع تنظيم داعش، لكي يحتل هذا التنظيم المناطق التي تقوم قوات فجر ليبيا بإخلائها، من أجل تشتيت جهود الجيش وفتح أكثر من جبهة أمامه سعيا لإرهاقه بعد أن تمكن من تحقيق إنجازات على الأرض في الشهور الماضية.
يضيف مستشار الجيش أن قوات مصراتة (فجر ليبيا) تريد تركيز وجودها في طرابلس لمواجهة القوات المسلحة الليبية التي تستعد لتحرير العاصمة من المتطرفين والميليشيات المسلحة، ولهذا تقوم بإخلاء المواقع التي كانت تحتلها في سرت والهلال النفطي، وتسليمها لقوات «داعش»، مشيرا إلى أنه جرى رصد أرتال لميليشيات مصراتة في الأيام الأخيرة وهي «تتسرب ساعة بعد ساعة إلى العاصمة طرابلس، فرادى، حتى لا يكتشفها الجيش وحتى لا تتعرض لقصف من القوات العسكرية».
قوات فجر ليبيا تقوم أيضا - وفقا لعبد الكريم - بتعزيز مواقعها في مصراتة لمواجهة التقدم الذي أحرزه الجيش الوطني في الأسابيع الماضية، لكنه أوضح أن التطور الخطير هو قيام قوات مصراتة بترك الساحة في سرت وما حولها لـ«داعش» الذي يسعى بدوره للسيطرة على النفط، ويقول: «لا بد من تعزيز التحالف الإقليمي لمساعدة الجيش. لو وصل تنظيم داعش لمنابع النفط ستكون كارثة. لا بد من تفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك لإنقاذ ليبيا من التنظيمات المتطرفة».
وجود «داعش» في ليبيا يتركز في ثلاث مناطق هي درنة وسرت في الشرق، وصبراتة القريبة من الحدود الليبية التونسية من ناحية الغرب، ومحيط مدينة سبها في الجنوب. وينخرط في هذا التنظيم مقاتلون عرب وأجانب، وارتكب خلال الشهور الماضية مذابح ضد عمال مصريين وأفارقة، ويحظى بغطاء من جانب عدة تنظيمات متطرفة أخرى بما فيها جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة، وهي تنظيمات تقول عنها السلطات الليبية إنها تغض الطرف عن تحركات «داعش» وتسهل وصول الأسلحة والمقاتلين إليه عبر الممرات التي تهيمن عليها سواء الممرات البرية عبر الصحراء أو الموانئ البحرية، إلى جانب ثلاثة مطارات على الأقل موجودة قرب طرابلس وفي مصراتة وفي تمنهد في الجنوب.
ومنذ مطلع هذا العام اضطر مئات المقاتلين الدواعش خاصة الأجانب للهروب من درنة بسبب حصار الجيش لهذه المدينة منذ عدة أشهر، واشتراك هؤلاء المقاتلين في مواجهة ضد الجيش في بنغازي والفرار إلى مناطق سرت والنوفلية إلى الغرب من بنغازي.
يقول الشيخ القبلي، عبد الناصر العبيدي، أحد قيادات لجنة المصالحة الليبية، والذي يقيم على مشارف درنة، في رده على أسئلة: «الشرق الأوسط» بشأن «داعش» إن «الدواعش جزء من الليبيين.. هم مجموعة من الشباب يتبنون مثل هذا الفكر، وليسوا جميعهم من خارج البلاد كما تقول بعض وسائل الإعلام. أنا أسكن في مدينة القبة القريبة من درنة وليس لي تعامل مع داعش. كل منا في حاله. لكن إذا جرى التوصل إلى مصالحة بين الليبيين فإن هذه التنظيمات المتطرفة ستختفي».
الشيخ العبيدي يشغل أيضا موقع «المنسق العام لمجلس حكماء مدينة القبة»، وهي مدينة شهدت تفجيرات بسيارات مفخخة على يد «داعش» خلال الفترة الأخيرة. وعما إذا كان تنظيم «داعش» يمثل قوة كبيرة في درنة على سبيل المثال، قال إنه «يوجد تهويل إعلامي كبير بهذا الخصوص.. الجيش قادر على سحقهم في لحظات في حال دخل إلى درنة، لكنه حتى الآن لم يقرر دخولها بسبب وجود سكان ومدنيين، ويكتفي بفرض حصار عليها».
وفيما يتعلق بما إذا كانت هناك صلة بين «داعش» في سرت و«داعش» في درنة، قال إن العلاقة المشتركة بينهما ربما لا تزيد عن اسم «داعش» فقط، لأن درنة محاصرة من كل الجهات على يد الجيش.. من الغرب والشرق. أحيانا يقوم «داعش» بعملية تفجير أو ما أشبه ذلك.
ووقعت هذه التطورات الخاصة بتمدد «داعش» وانتشاره في منطقة الهلال النفطي رغم الجهود التي يبذلها السيد برناردينو ليون، الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، ومساعي دول الجوار للمصالحة بين أطراف النزاع في ليبيا. لكن الشيخ العبيدي، والكثير من زعماء القبائل الليبية ينظرون بتشكك لموقف المجتمع الدولي تجاه بلادهم.
يقول العبيدي عن السيطرة المفاجئة لـ«داعش» على سرت: «لا أعرف كيف أفسر الموضوع». لكنه يرى أن هناك خطوات يمكن اتباعها للتخلص من «داعش» في ليبيا ومن المتطرفين.. «هذا ممكن.. أولا الناس الذين جاءوا من الخارج والتحقوا بداعش ووجدوا من يحميهم، ويوفر لهم الغطاء للإقامة والتحرك.. نحن نسعى لرفع الغطاء الاجتماعي عمن يوفر الحماية لهؤلاء المتطرفين الأجانب».
ويوضح أنه توجد منذ فترة مشاورات قبلية عن أن كل من يثبت أنه يحمي «داعش» من أبناء القبائل لا بد من رفع الالتزام القبلي تجاهه، بحيث لا يتم المطالبة بدماء مثل هؤلاء أو الثأر لهم في حال تعرضهم للقتل. بهذا يمكن تحجيم «داعش» خاصة أن هذا التنظيم يعتمد على منح المقاتلين الذين يعملون معه أموالا.. «كلها أموال تأتي من الخارج. هناك أناس ضعفاء تجاه المادة، خاصة أولئك الذين تقل أعمارهم عن 20 سنة، ونعدهم أطفالا، وصبية.. أمام الأموال يمكن أن يقوموا بأي شيء».
وعن علاقة «داعش» بالقبائل الليبية، يرى الشيخ العبيدي، أن «داعش» لا يشكل أي شيء في وسط القبائل لأنه لم يتغلغل فيها.. «نحن نعد هذا التنظيم جسما غريبا وكل الناس ضده. بمجرد اجتماع الليبيين مع بعهم في مؤتمر أو اجتماع للمصالحة خال من أي أجندات خارجية، وهدفه الوطن، فهذا يمكن أن يؤدي للقضاء على داعش».
ويشير إلى أن آخر الإجراءات التي قامت بها لجنة الحكماء والمصالحة المحلية، هي الاتفاق على أنه لا بد أن تكون المصالحة من الداخل الليبي، وليس بعقد لقاءات في الخارج.. «الناس تقول ما حكَّ جسمك مثل ظفرك. لا نريد اجتماعات في الخارج تحيط بها الشكوك عن تمويلات ومصالح لا تهدف لتحقيق المصلحة الليبية».
وعن التطورات الجديدة يقول إن لجنة الحكماء والمصالحة تتواصل في الوقت الحالي مع كل القبائل بما فيها قبائل الغرب، و«الكل يمد يده للسلام والرغبة الحقيقية في التوصل للمصالحة بعد أن جرب الجميع ويلات الحرب.. كل واحد أخذ نصيبه من الحرب.. من قتل وتشريد وغيره. ولذلك الكل يسعى للخير والسلام». ويضيف أنه سيكون هناك اجتماع قريب في الغرب وبالتحديد في مدينة «جادو» في جبل نفوسة.. «سوف يشارك فيه جميع ممثلي القبائل الليبية، من دون استثناء».
وعن الطريقة التي ينظر بها لجهود السيد ليون، يقول الشيخ العبيدي إن هذه الجهود «فيها أشياء غير واضحة، ويتحدث مع الطرفين.. مع الجسم الشرعي والجسم غير الشرعي، وهناك من يفسر أن هذا الأمر وراءه أجندة خفية غير واضحة. نحن ضد الاجتماعات التي تعقد خارج ليبيا. نحن نريد حوارا في داخل ليبيا يحضره الجميع من أولياء الدم ومن المتضررين وغير المتضررين». ويوضح أنه «حين تكون اللقاءات في الخارج، فإن كل مجموعة تقوم بحشد من يسير معها في نفس الخط، بينما نحن أمام قضية وطن ومصير دولة».
مصادر في الجيش الليبي، رغم هذا، تكشف عن صعوبات تواجه القوات المسلحة في الحرب ضد المتطرفين والتي بدأت منذ منتصف العام الماضي، لعدة أسباب على رأسها استمرار الحظر الدولي على مد الجيش بالسلاح، واتساع مساحة الأراضي الليبية التي تحتاج إلى قدرات أكبر من العتاد لمطاردة المتطرفين الذين يتحركون في مجموعات بسيارات الدفع الرباعي عبر الدروب الصحراوية.
مستشار الجيش، الدكتور عبد الكريم، يكشف عن نوايا «داعش» للسيطرة على النفط للحصول على أموال للإنفاق على التنظيم المتطرف في ليبيا. يقول: الآن يمكن الحديث عن أنه أصبحت توجد خطورة كبيرة.. هؤلاء الدواعش سيتجهون للنفط الليبي. برميل البترول يبيعونه بـ25 دولارا في السوق السوداء. أحد أسباب انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية هو «داعش» في العراق حيث يبيعه لشركات تركية، ويريدون تكرار التجربة في ليبيا، لأن بيع بترول ليبيا سيكون أسهل بكثير بالنسبة لهم، حيث لا تمر شحنات النفط عبر دول أخرى كما هو الحال في العراق، ولكن عبر البحر المتوسط مباشرة.
وعن إتمام «داعش» سيطرته على سرت التي بدأ نشاطه فيها منذ أواخر العام الماضي، يضيف عبد الكريم قائلا إن الأمر يتطور سريعا وإنه حان الوقت للاستعانة بقوات عربية مشتركة، لمساعدة الجيش الليبي في بسط سلطة الدولة على أراضيها. يتخوف الكثير من القادة الليبيين من وجود خطة للمتطرفين بمساعدة بعض الأطراف الإقليمية والدولية لتعطيل حسم الجيش لعملياته ضد الميليشيات المسلحة وصولا إلى شهر أكتوبر المقبل، وهو موعد انتهاء عمل البرلمان الحالي المعترف به دوليا، وهو البرلمان الداعم لحملة الجيش ضد المتطرفين والمنبثقة عنه حكومة السيد الثني. الثني نفسه اتهم قبل يومين قوات «فجر ليبيا» بتسليم مدينة سرت إلى «داعش»، ووصف ذلك بأنه «تواطؤ كبير جدا».
اتهامات الثني لفجر ليبيا التي يهيمن عليها قادة من جماعة الإخوان ومن مدينة مصراتة، تأتي رغم أن الكثير من القوات المحسوبة على المدينة، صاغت اتفاقات للتهدئة مع قبائل في محيط العاصمة طرابلس منذ مطلع الشهر الماضي.
المستشار عبد الكريم، من جانبه، يرى أن الهدف من اتفاقات مصراتة هو كسب الوقت.. «قاموا بالإفراج عن بعض الأسرى لإرضاء بعض العائلات. هذه محاولة لكسب الوقت للوصول إلى يوم 21 أكتوبر 2015، وهو اليوم الذي يروجون له على أنه نهاية المدة القانونية للبرلمان، رغم أن الإعلان الدستوري يقول إنه لا بد أن يسلم البرلمان سلطته إلى مجلس منتخب آخر».
يتابع موضحا أن قوات فجر ليبيا وقادة من مصراتة والإخوان، بدأوا يتحدثون عن قرب انتهاء مدة البرلمان الحالي رغم أنه لا يوجد تاريخ محدد لنهاية عمله. ويضيف: الآن السيد ليون، وفجر ليبيا، يريدون الوصول إلى هذه النتيجة. ويشير إلى أن المجتمع الدولي الذي يرفض تسليح الجيش الوطني يغض الطرف عن الطيران الذي يأتي بمدد للإرهابيين في ليبيا، من تركيا إلى مطار مصراتة.. «ويغض الطرف أيضا عن المراكب التي تحمل الإرهابيين والإمدادات للمتطرفين، وهو يرى هذه المراكب وهي تأتي من تركيا للسواحل الليبية أمام أعين الأساطيل الغربية في البحر المتوسط».
من جانبه يوضح الشيخ محمد الشحومي، أمين سر اللجنة التحضيرية لملتقى القبائل الليبية، أن ثورة المصريين على حكم جماعة الإخوان، في 30 يونيو (حزيران) 2013. قلبت الموازين في المنطقة، خاصة في ليبيا، ويضيف أن «فشل المخطط الدولي لتمكين الإخوان من السلطة في مصر وليبيا، غيَّر الكثير من الاستراتيجيات»، مشيرا إلى أن الاستراتيجية الجديدة أصبحت تتلخص في أنه «لا بد من السيطرة على ليبيا من أجل العودة للسيطرة على مصر».
وسبق لمصر توجيه ضربات لمواقع لتنظيم «داعش» قرب مدينة درنة، كما أن لها علاقات تعاون رسمية مع السلطات الشرعية والجيش الوطني، لكن بعض القادة الليبيين يتحدثون عن الحاجة لمزيد من الدعم المصري للحرب على الإرهاب في بلادهم. يقول الشيخ الشحومي لـ«الشرق الأوسط»: «مصر هي القلب. من يسيطر على مصر يسيطر على المنطقة كلها. في الحقيقة ما يحدث في ليبيا من صراع هو من أجل السيطرة على مصر، والليبيون يخوضون الآن قتالا من أجل مصر».
وللشيخ الشحومي نظرة مختلفة فيما يتعلق بالاتفاقات التي عقدتها ميليشيات محسوبة على مصراتة خلال الأسابيع الماضية. فبينما يرى البعض، مثل الدكتور عبد الكريم، أنها محاولة لكسب الوقت، يقول الشحومي إن هذه الاتفاقات بين مصراتة وبعض القبائل في الغرب تعكس درجة من الوعي لتصحيح المسار، مشيرا إلى أن قوات مثل كتيبة «الحلبوص» و«حطين» و«المجدوب»، إضافة إلى مجلس بلدية مصراتة المنتخب، أصدرت بيانات تحمل توجهات عن رغبتها في الخروج من تحت عباءة الإخوان المسلمين.
وأعطت بوادر حسن نية من جانب مصراتة بعض الأمل في إمكانية التوصل إلى مصالحة وطنية شاملة يمكنها تعضيد الجيش في حربه ضد «داعش» والمتطرفين الذين يصرون على مواصلة حمل السلاح والهجوم على رموز السلطات الشرعية. ويقوم عدد من وجهاء مصراتة منذ أيام بهدم منصات كانت منصوبة في شوارع المدينة، وتحرض ضد الجيش والبرلمان، ويسيطر عليها قادة من جماعة الإخوان، بالتزامن مع تراجع ميليشيات محسوبة على المدينة عن خوض المعارك ضد الجيش في المنطقة الغربية.
لكن الانسحاب المفاجئ لكتائب أخرى تابعة لمصراتة من سرت وما حولها، واتجاهها إلى طرابلس، أعاد الشكوك مرة ثانية في نوايا هذه الميليشيات. تبدو هذه الخطوة، وفقا لشهادات من قادة في الجيش وقادة من القبائل، نذير خطر. يقول أحد شيوخ بلدة «هرواة» التي تقع على البحر المتوسط على بعد نحو 65 كيلومترا إلى الشرق من مدينة سرت، في اتصال مع «الشرق الأوسط»: «الدواعش يحاصرون البلدة منذ أيام.. خاطبنا العمليات الجوية في الجيش لسرعة التدخل. الأمور خطيرة في المنطقة الوسطى».
بالإضافة إلى مسؤولي الجيش يشعر الكثير من قادة القبائل بالقلق من تعاطي المجتمع الدولي مع القضية الليبية وتمدد «داعش». من بين هؤلاء الشيخ عادل الفايدي، منسق مؤتمر القبائل الليبية. يقول في رده على أسئلة «الشرق الأوسط» بهذا الخصوص إن تركيز الليبيين في الوقت الحالي ينصب على دعم البرلمان والجيش في هذه المرحلة الحرجة من أجل التخلص من «الإرهاب الأسود» الذي يضرب البلاد، مشيرا إلى قيام المتطرفين بأعمال وحشية من الابتزاز إلى الاختطاف وقطع الرؤوس.
وهو يتفق مع وجهة نظر الشيخ العبيدي بشأن رفع الغطاء الاجتماعي عن أي شخص يتعاون مع الميليشيات ومع «هذه التنظيمات الإرهابية والأجسام الغريبة». ورغم تأكيده على دعمه لها، إلا أنه يرى أن ما تقوم به السلطات الشرعية حتى الآن ما زال دون المستوى، خاصة فيما يتعلق بإيجاد حلول وفرص عمل للشباب الذين انخرطوا في تلك الميليشيات سواء بدمجهم في الجيش أو في الشرطة أو غيرهما. ويضيف أن استمرار الأحوال على ما هي عليه دون تقدم يجعل الأمور تمضي من سيئ إلى أسوأ.
وعن موقف دول الجوار من القضية الليبية، يعبّر الشيخ الفايدي عن تفاؤله بالاجتماعات التي عقدت حول مشكلة الإرهاب في ليبيا، منذ أواخر العام الماضي، لكنه يقول إنه، للأسف، لم ينتج عنها شيء ذو شأن. يقول: «لقد أثلج صدورنا ما نتج عن لقاء السادة وزراء خارجية دول الجوار الليبي، من مقررات، وبالأخص ما يتعلق بتجفيف منابع دعم الإرهاب في ليبيا، لكن للأسف لم يجففوا أي شيء، وربما تسببوا في زيادة هذه المنابع أكثر من السابق».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.