الكولونيالية والهويات.. على رأس ملتقى القاهرة الدولي للثقافات الأفريقية

بمشاركة مائة باحث من 23 دولة في القارة

في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى  -  شعار المؤتمر
في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى - شعار المؤتمر
TT

الكولونيالية والهويات.. على رأس ملتقى القاهرة الدولي للثقافات الأفريقية

في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى  -  شعار المؤتمر
في افتتاح المؤتمر.. من اليمين: حلمي شعراوي مقرر الملتقى، ود. عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري، ود. محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، ود. معلمو سنكورو من تنزانيا ممثل المشاركين في الملتقى - شعار المؤتمر

بعد توقف دام أربع سنوات ونصف، وفي ظل ظروف اقتصادية وسياسية ودينية تعصف بالقارة السمراء وبلدانها، انطلقت أول من أمس فعاليات الدورة الثانية لـ«ملتقى القاهرة الدولي لتفاعل الثقافات الأفريقية»، تحت عنوان «الهوية الأفريقية في الفنون والآداب»، بمقر المجلس الأعلى للثقافة بدار الأوبرا المصرية.
يشارك في الملتقى ما يقرب من مائة باحث ومفكر أفريقي من 23 دولة أفريقية هي: ليبيا، وتونس، والمغرب، والجزائر، والسودان، وإثيوبيا، وأوغندا، وبوروندي، وتشاد، وتنزانيا، وجنوب أفريقيا، وجنوب السودان، والسنغال، وغانا، وغينيا، وساحل العاج، والكونغو، ومالاوي، وموريتانيا، وموزمبيق، والنيجر، ونيجيريا، بالإضافة إلى مصر الدولة المنظمة.
وفي افتتاح الملتقى، أعلن وزير الثقافة المصري عبد الواحد النبوي عن تأسيس «وحدة أفريقيا» بوزارة الثقافة تعنى بكل ما يخص دعم العلاقات والتبادل الثقافي بين مصر ودول القارة، على أن يقوم عليها مجموعة من الأدباء والمثقفين والفنانين بعقد أنشطة ثقافية ترسخ الهوية الأفريقية على مدار العام، مشيرا إلى أن الوزارة تدرس تدشين مركز ثقافي أفريقي دولي مقره القاهرة يقدم أنشطته في أنحاء القارة. وقال: «لا يمكن تجاهل الثقافة كجسر تواصل بين شعوبِنا تقوي أواصر العلاقات، وهي لا تقل أهمية عن العناصر الاقتصادية والعسكرية لأي دولة». وطالب الوزير المشاركين بوضع سيناريوهات مستقبلية لتفعيل التبادل الثقافي، مركزا على أهمية السينما والأدب والفنون كعناصر ثقافية فعالة لمخاطبة الشعوب بقضاياها.
ولفت الدكتور محمد عفيفي، أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، في كلمته إلى أن «أهمية انعقاد المؤتمر باعتباره محاولة لاستعادة القوة الناعمة لمصر، وهو يدل على رغبة عارمة في التخلص من الصراعات التي تضرب أرجاء القارة، وعودة للتأكيد على عمق العلاقات بين مصر والدول الأفريقية، التي هي في الأساس تعود لعصور سحيقة، مشيرا إلى أثر الأزهر والكنيسة المصرية في أفريقيا، وكيف قدمت أفريقيا لمصر الكثير من الأدباء والمؤرخين أمثال عبد الرحمن الجبرتي..»، معربا عن سعادته بتفاعل المشاركين ورغبته في أن يكون الملتقى سنويا ولمدة أسبوع.
وألقى الدكتور معلمو سنكورو، من تنزانيا، كلمة المشاركين، مؤكدا فيها على ضرورة وضع الثقافة كأولوية ضمن برامج التنمية الاقتصادية والسياسية في القارة الاهتمام بالهوية الأفريقية، مشددا على أهمية الثقافات الشعبية وتدريسها ضمن المناهج التعليمية، وخاصة أن القارة بها أعلى معدل لنسب الشباب في العالم، مطالبا المثقفين بمزيد من الجهد لمحاولة صوغ تعريفات للهوية الأفريقية في ظل تنوعها وثرائها.
وصرح د. حلمي شعراوي، مقرر الملتقى، بأن «الملتقى يعقد في أقسى ظروف التعصب والإقصاء والعنف الإرهابي، لكن المشاركين في المؤتمر راغبون بقوة في دعم مراكز الثقافة والتوثيق في القارة وربطها ببعضها البعض، فنحن نوجه عبر هذا الملتقى رسالة للمؤسسات الحكومية لخلق إنجاز فعلي للتفاعل الثقافي بين شعوب القارة».
وقالت الكاتبة والصحافية زبيدة جعفر من جنوب أفريقيا، لـ«الشرق الأوسط»: «أعتقد أن الملتقى يلعب دورا هاما في التواصل مع الكتاب الفارقة لأن اللقاء الشخصي والحوار والنقاش ينقل لنا الكثير مما يحدث في مصر وشمال أفريقيا بعد الثورات». وشاركت زبيدة بورقة بحثية أشارت فيها إلى أن الأشكال الفنية والأدبية السائدة في جنوب أفريقيا تدور حول السياق الأوروبي وأنه حتى في حقب ما بعد الاستعمار تدور في إطار أوسع من الهيمنة الأنجلو أوروبية، حيث لا يوجد متسع لاستكشاف التقاليد والعادات القديمة بدرجة تكفي لتكوين سردية مختلفة. وأكدت أنه مع تحول جنوب أفريقيا باتجاه النضج الديمقراطي أصبحت هناك حاجة ماسة إلى التخلص من التعريفات المقيدة واستجلاء التعقيدات التي تمثل نبض الحياة المحلية في بلد ظل تحت الاستعمار أكثر من 3 قرون.
بدأت أولى جلسات المؤتمر بالحديث عن «الهوية الأفريقية بين التفاعل الثقافي والصراع»، وتحدث فيها الباحث السوداني د. حيدر إبراهيم، عن «الشخصية الأفريقية وتصارع الهويات: زمن العولمة ومخاطر التطرف في القبول والرفض»، مشيرا إلى غموض مفهوم الهوية معتبره أقرب إلى الوهم، وأن بحث الهويات الأفريقية عمل عقيم ومضر مع وجود هذا التنوع الثقافي الهائل وقال: «مصطلح (الزنوجة) في الثلاثينات كان محاولة لتحويل عقدة اللون إلى مصدر فخر، لكن اللون لا يمكن أن يكون هوية وهو ما عاتب به د. محمود أمين العالم الشاعر محمد الفيتوري حينما كتب قصيدة عن اللون».
وألقى باللوم على افتخار بعض الأفارقة بـ«البراءة الكاملة»، باعتبار أن الأفارقة لم يقهروا الطبيعة ولم يخترعوا شيئا يغير من حياة البشر وأنها ليست أرضا للحداثة. وأضاف: «تميزت أفريقيا المعاصرة بفشل الدولة وفشل المجتمع، مما جعلها مكشوفة للعولمة والرأسمالية المستوحشة، والتطرف الديني الإرهابي، وعودة القبلية والعنصرية بأشكال متجددة. وتعجز أفريقيا في عملية الولوج في الحداثة، فتقنع بتجديد الاستبداد وبعث التخلف والتبعية في كؤوس جديدة. وهي مثقلة بالفقر، والجوع، والأوبئة، والفساد والقمع. وهذه ظروف تعمل على (حيونة) الإنسان الأفريقي وتحرمه من أوقات الفراغ، ومن الوصول إلى وسائل الثقافة الراقية والجادة».
بينما ذهب «سابيلو جاتشيني» من جنوب أفريقيا، للحديث عن كيفية تفادي صراع الحضارات، في ظل ما كرسه الاستعمار من تراتبية عنصرية طبقا للكثافات الأنطولوجية المغايرة، مشيرا إلى أن غاية الفكر الإمبريالي والعنصرية العلمية إعادة إنتاج الحضارات الأفريقية في صورة أشكال بدائية، محكوم عليها بالموت. وقال إن «أفريقيا لا تزال تخوض (حربا ثقافية) وعليها أن تحدث تحولا ديمقراطيا في الأبستمولوجيا الأوروبية - الأميركية الشمالية التي تنكر وجود المعارف والثقافات الأخرى، والتي عملت على تجريد الشعوب الأفريقية من إنسانيتها».
واتفق معه مواطنه الباحث «سيمفيوي سيسانتي»، قائلا إن «النخب الأفريقية التي يحركها السعي لاحتكار السلطة سعت للحديث عن تاريخ الأوروبيين في أفريقيا حتى تتمكن من التلاعب بالجماهير، لذلك تستغل فقدان الذاكرة الثقافي الذي تعاني منه الشعوب الأفريقية، والذي تسبب فيه الاستعمار لتزعم أن المحكومين تاريخيا وثقافيا يتقبلون بصورة عمياء وغير نقدية كل شيء وأي شيء يمليه عليهم حكامهم».
ودعا العميد السابق لمعهد البحوث والدراسات الأفريقية «السيد فليفل» إلى بلورة رؤية ثقافية واضحة للاتحاد الأفريقي، مطالبا بتأسيس «المفوضية الأفريقية للشؤون الثقافية» لتصحيح صورة الأفارقة في العالم، وطلب من المؤرخين والروائيين والمفكرين والسينمائيين والصحافيين، التركيز على الجوانب الإيجابية للشخصية الأفريقية في أعمالهم حتى يشكل هذا حافزًا على التفاؤل ومقاومة الإحباط ويمنع الأجيال الجديدة من الاستسلام للتخلف والقبول به باعتباره واقعًا لا مناص منه.
وحول دور وسائل إعلام العولمة المؤثرة في الثقافة الأفريقية، تحدث الكاتب الإثيوبي سولومون هايليماريام، عن تأثر الإنسان الأفريقي بوسائل الاتصالات الحديثة، لكن العولمة استطاعت تجريد الشباب من جذورهم الثقافية وأصبحوا يقلدون كل ما هو أوروبي وأميركي متخلين عن أزيائهم وتقاليدهم، مشيرا إلى أن الصورة العامة لأفريقيا لم تتغير في ظل العولمة، بل يعاد تكريسها وفقا لاستراتيجيات الدول الأوروبية الرأسمالية.
بينما تحدث النيجيري «ساليسو بالا» عن «التقاليد والحس التاريخي في الأدب الأفريقي»، مركزا على أهمية الوثائق العربية في كتابة التاريخ الأفريقي التي تحتوي على تراث الماضي الأفريقي في مجالات التاريخ والتنجيم والجغرافيا وعلم النفس، تدحض المقولة الاستعمارية «أفريقيا ليس لها تاريخ قبل قدوم الاستعمار». تلك المخطوطات متاحة في صورة مجلدات ضخمة في مصر ونيجيريا ومالي وشرق أفريقيا وغامبيا السنغالية، لافتا إلى خطورة تناثر المخطوطات الأفريقية بين أيدي الأفراد والعلماء وضرورة حفظها في مكتبات أو مؤسسات عامة، قائلا: «الكثير من المخطوطات غير مصنف أو مفهرس ولم تتم ترجمته إلى لغات أخرى لتمكين الباحثين غير العرب من الاطلاع عليها».
وخصص الملتقى محورا لمناقشة «الآداب الأفريقية»، تحدث فيه الناقد والكاتب شوقي بدر عن «الرواية في أفريقيا»، لافتا إلى أنها تدخل منحنى التحولات في تراكم منجزها، بعد كثير من التهميش، وتناول أعمال النيجيري «وول سونيكا»، ومن جنوب أفريقيا «نادين جورديمير»، و«ج إم كويتزي»، ومن مصر «نجيب محفوظ» والذين وصلت أعمالهم لآفاق عالمية وحصدوا على جائزة نوبل، فضلا عن عدد كبير من الكتاب الأفارقة ذوي الصيت العالمي: شينوا أتشيبي من نيجيريا وعثمان سمبيني من السنغال، ومونجو بيتي من الكاميرون، ونفوجي وأثيونجو من كينيا، وغيرهم.
ولفت بدر إلى أن «الكُتاب ذوي الأصل الأفريقي في أميركا كان لهم الفضل في إنجاز أدبي نبع من جذورهم التي قدموا منها، استطاعوا من خلاله التمرد على العنصرية ومنهم: ريتشارد رايت، وجيمس بولدوين، وأليكس هيل».
وتطرقت أوراق بحثية لتجسيد الأدب الأفريقي للحياة اليومية للإنسان الأفريقي ومعاناته التي تعتبر إرثا يتوارثه من أجداده، إذ إن آثار الاستعمار الغاشمة لا تزال تطارد أجيالا متعاقبة. منها: ما طرحه الأديب منير عتيبة عن قلق الهوية في رواية «خرائط»، للأديب الصومالي نور الدين فراح. كما تطرقت الأديبة المصرية سلوى بكر إلى نصوص من الأدب السوداني لبشرى الفاضل وأمير تاج السر، وغيرهم؛ تعكس تداخل العناصر الثقافية العربية والأفريقية عبر موتيفات سردية منحت الأدب السوداني خصوصية في إمكانيات التلقي والقراءة.



بيير بايل... مثقف بروتستانتي في فرنسا الكاثوليكية

 بيير بايل
بيير بايل
TT

بيير بايل... مثقف بروتستانتي في فرنسا الكاثوليكية

 بيير بايل
بيير بايل

أكبر خطيئة نرتكبها نحن المثقفين العرب هي إقامة المقارنة بين مجتمعاتنا العربية الإسلامية الحالية ومجتمعات الغرب المتطورة التي تجاوزت كلياً مشكلة الأصولية الدينية الطائفية. هذا ما يدعوه المؤرخون بالمغالطة التاريخية. ينبغي أن نقارن ما تمكن مقارنته، لا ما تستحيل مقارنته. بمعنى آخر، وبالعربي الفصيح، ينبغي أن نقارن أوضاعنا الحالية بأوضاعهم قبل 300 سنة حتى 400 سنة عندما كانوا لا يزالون يتخبطون في صراعاتهم الطائفية والمذهبية... عندئذ تصبح المقارنة ممكنة ومشروعة. ففي القرن السادس عشر أو السابع عشر، كانوا يعانون مما نعاني منه نحن حالياً؛ أي الحروب الطائفية والأحقاد المذهبية والذبح على الهوية. وأكبر دليل على ذلك سيرة حياة المفكر الفرنسي البروتستانتي بيير بايل الذي عاش في نهاية القرن السابع عشر وبداية الثامن عشر (1647 - 1706). في ذلك الوقت كانت فرنسا كاثوليكية في غالبيتها الكبرى. ولكنها كانت تحتوي على أقلية بروتستانتية لا يستهان بها وتحاذي 20 بالمائة. وقد شاء له الحظ العاثر أن يولد في أحضان الأقلية لا الأكثرية. ولذلك هرب من الاضطهاد الطائفي من بلد إلى بلد حتى استقرت به الأمور في بلاد بروتستانتية مثله، هي هولندا. لقد عانى هذا المفكر الكبير من التعصب الديني إلى درجة أنه أمضى حياته كلها في مكافحته وتحليله وتفكيكه بغية الخلاص منه. فمن هو بيير بايل يا ترى؟ إنه الرائد الأول الذي سبق فلاسفة التنوير الكبار وأرهص بهم. فقد جاء قبلهم بقرن من الزمن. لقد مات عام 1706 في حين أن فولتير ولد عام 1694، أي قبل 10 سنوات من وفاته أو أكثر قليلاً. ومعلوم أنه كان يحبه كثيراً ويستشهد به كمرجعية فكرية كبرى بالنسبة له. ولكن الشهرة ذهبت لفولتير، لا إلى بيير بايل. فمن يعرف اسم بيير بايل في العالم العربي؟ لا أحد تقريباً. لقد كان بيير بايل مع الفيلسوف الإنجليزي جون لوك أحد المفكرين الكبار الذين ساهموا في انبثاق فكرة التسامح الديني وتجاوز الطائفية والمذهبية في أوروبا. وكان ذلك إبان احتدام الصراعات المذهبية بين البروتستانتيين والكاثوليكيين. وكان أول منظر يدعو إلى التسامح مع الجميع، بل كان يدعو إلى التسامح مع غير المتدينين، أي الأشخاص الذين لا يلتزمون بالطقوس والشعائر المسيحية. وبالتالي، فقد كان سابقاً عصره كثيراً. ومعلوم أن الرواد يجيئون قبل الأوان لكي يشقوا للآخرين الطريق. ولكنهم يعانون كثيراً بسبب ذلك ويدفعون الثمن غالياً.

كان بيير بايل ينتمي إلى الأقلية البروتستانتية الفرنسية. بل كان أبوه رجل دين، أي قساً بروتستانتياً. ولكن بايل الشاب غيّر مذهبه عام 1669 عندما أصبح طالباً في المعهد اليسوعي الكاثوليكي بمدينة تولوز. وذلك لكي يلتحم بالأغلبية الكاثوليكية وينجو من الاضطهاد والاحتقار الطائفي الذي تمارسه عادة الأغلبية على الأقلية. ثم اكتشف بعدئذ أنه أخطأ، لأن المذهب البروتستانتي كان أكثر تقدمية واستنارة من المذهب الكاثوليكي آنذاك. فعاد إلى مذهبه الأصلي بعد 18 شهراً فقط من اعتناقه للكاثوليكية البابوية. وهكذا خاطر بنفسه، لأن الملك لويس الرابع عشر كان يرفض أي ارتداد عن الكاثوليكية التي تشكل المذهب الرسمي للبلاد. وبالتالي، فقد أصبح الرجل مرتداً لأنه عاد إلى حضن «الهرطقة والزندقة» من جديد. وويلٌ لمن يفعل ذلك في فرنسا الكاثوليكية. سوف يباح دمه مباشرة.

ينبغي العلم أن صاحب المذهب البروتستانتي كان يعدّ زنديقاً مهرطقاً في ذلك الزمان، على الرغم من إيمانه بالمسيح والإنجيل كالكاثوليك. ولكن كانت هناك بعض الخلافات اللاهوتية التفصيلية الهامة مع الكاثوليك. علاوة على ذلك، فقد كان تفسيره للدين المسيحي أكثر عقلانية واستنارة، كما ذكرنا. ولذلك كانوا يكفرونه ويكفرون أتباعه ويحلّون دمهم. وقد عانوا من المجازر ما عانوه، ثم اضطروا إلى الفرار بمئات الألوف إلى الدول البروتستانتية المجاورة كإنجلترا وألمانيا وهولندا... ينبغي العلم أن جميع ملوك فرنسا كانوا يعتلون العرش، ويتم تنصيبهم الرسمي والشرعي في كاتدرائية مدينة «رانس» الشهيرة، التي طالما مررت أمامها وتأملت بمعانيها وشموخها، عندما كنت أقيم في تلك المدينة الصغيرة الوديعة التي تبعد عن باريس مسافة 45 دقيقة بالقطار. كانوا جميعاً يحلفون القسم التالي أمام الجمهور الكبير المحتشد داخل الكاتدرائية: «أقسم بالله العظيم سوف أستأصل الأقلية البروتستانتية المهرطقة الكافرة عن بكرة أبيها. سوف أنظف أرض المملكة الفرنسية الكاثوليكية الطاهرة من رجسهم وضلالهم». بهذا المعنى. كان آخر من أقسم هذا اليمين هو لويس السادس عشر، الذي أطاحت به الثورة الفرنسية عام 1789. وعندئذ أخذ البروتستانتيون حقوقهم كمواطنين لأول مرة في التاريخ الفرنسي. عندئذ نصّ الإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن على ما يلي: ممنوع بعد اليوم منعاً باتاً أي تمييز بين إنسان وآخر على أساس طائفي. ممنوع إقلاق أي شخص أو إرعابه بسبب انتماءاته الدينية أو المذهبية. ممنوع تعييره واحتقاره لأنه لم يولد كاثوليكياً. الجميع أصبحوا مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، بمن فيهم البروتستانتيون، حتى اليهود. هذا ربيع حقيقي، هذا ربيع أنواري وتنويري. هذه ثورات حقيقية تقذف بك إلى الأمام، لا كذلك الربيع العربي القرضاوي التكفيري، الذي أوشك أن يعيدنا قروناً إلى الوراء.

لكن لنعد إلى بيير بايل وقصته. بعد أن تراجع عن المذهب الكاثوليكي وعاد إلى مذهبه الأصلي البروتستانتي عرف أنه أصبح مهدداً بالقتل فهرب إلى هولندا البروتستانتية مثله، واستقر في مدينة روتردام. وهناك وجد وظيفة كمدرس لمادتي الفلسفة والتاريخ. وراح ينشر مجلة أيضاً تحت عنوان «أخبار جمهورية الآداب». ومعلوم أن هولندا كانت في ذلك الزمان أكثر بلدان أوروبا تسامحاً وحرية، بالإضافة إلى إنجلترا. وإليها كان يلجأ الفلاسفة لكي يعبروا عن أفكارهم وينشروا كتبهم، كما فعل ديكارت مثلاً. نقول ذلك على الرغم من أنه كان كاثوليكياً ينتمي إلى مذهب الأغلبية، ولا يعاني في فرنسا من الاضطهاد الطائفي الذي أصاب بيير بايل وبقية أبناء الأقليات. ولكن ما كان يستطيع أن يتنفس بحرية ويبلور فلسفته الجديدة داخل جدران المملكة الفرنسية الكاثوليكية البابوية، التي كانت ظلامية متزمتة جداً في ذلك الزمان.

إن تجربة بيير بايل الشخصية في تغيير مذهبه واعتناق المذهب المعادي ثم العودة إلى مذهبه من جديد برهنت له على عبثية الإكراه في الدين. فالإنسان يعتقد أن دينه أو مذهبه هو وحده الصحيح، ولكنه لو ولد في الدين الآخر أو المذهب الآخر لاعتقد ذات الشيء أيضاً. المسيحي لو ولد في الهند لكان بوذياً أو هندوسياً براهمانياً، ولو ولد في الصين لكان كونفشيوساً... إلخ. ولهذا السبب عدّ بيير بايل أن الأمور نسبية وراح يتبنى مبدأ التعددية وحرية الضمير فيما يخص المعتقد الديني.

لقد ألف بيير بايل عدة كتب، شهرته وجعلته مقروءاً بكثرة طيلة القرن الثامن عشر، أي عصر التنوير الكبير. فقد راح فلاسفة التنوير من أمثال فولتير وديدرو وجان جاك روسو والموسوعيين يستشهدون بها لدعم مواقفهم المضادة للتعصب الديني والأصولية الكاثوليكية البابوية. نذكر من بين مؤلفاته كتاباً بعنوان «ما معنى فرنسا الكاثوليكية المتعصبة في عهد لويس الكبير؟» أي لويس الرابع عشر أعظم ملوك فرنسا وباني قصر فرساي الشهير. وفي هذا الكتاب يشنّ بيير بايل حملة شعواء على هذا الملك الجبار، الذي حاول استئصال البروتستانتيين عن بكرة أبيهم... كما انتقد بعنف التعصب المذهبي الذي كان سائداً في فرنسا آنذاك. وصبّ جام غضبه على الإخوان المسيحيين الكاثوليكيين الذين كانوا يكفرون الآخرين في كل أرجاء المملكة الفرنسية التوتاليتارية الإرهابية، التي تجبر الناس كلهم على اعتناق مذهب واحد غصباً عنهم. ثم نشر كتاباً آخر بعنوان «مرافعة من أجل الدفاع عن حقوق الضمير التائه» أي الضمير الحرّ في الواقع... إلخ. ولا ننسى كتابه الأكبر والأهم «القاموس التاريخي والنقدي» الذي فكّك فيه كل العصبيات الطائفية والفتاوى التكفيرية بشكل فلسفي دقيق ومقنع. وقد مارس هذا الكتاب الضخم تأثيراً كبيراً على جميع فلاسفة الأنوار اللاحقين.

كل هذه الكتب أزعجت الملك الكاثوليكي والسلطات الكنسية أيما إزعاج. فانتقموا منه عن طريق قتل أخيه «يعقوب بايل» في السجن، لأنهم كانوا عاجزين عن الوصول إليه هو شخصياً بسبب التجائه إلى المنفى الهولندي البعيد الخارج عن إرادتهم. والواقع أنهم عرضوا على أخيه اعتناق المذهب الكاثوليكي في آخر لحظة قبل تصفيته لكي ينجو بجلده، ولكنه رفض وعندئذ قتلوه. كانت الحزازات المذهبية على أشدّها آنذاك في فرنسا. ولكنها اختفت الآن نهائياً، ولم يعد لها أي وجود. وكل ذلك تم بفضل جهود الأنوار وفلاسفة الأنوار، وعلى رأسهم بيير بايل الذي سيستلم فولتير الشعلة منه، ويشنّ حرباً ضارية على الأصولية الكاثوليكية والتعصب الطائفي الأعمى كما هو معلوم.