مؤلفات كويتية تستحضر مظاهر الحج على ظهور الإبل

مؤلفات كويتية تستحضر مظاهر الحج على ظهور الإبل
TT

مؤلفات كويتية تستحضر مظاهر الحج على ظهور الإبل

مؤلفات كويتية تستحضر مظاهر الحج على ظهور الإبل

عرفت الكويت اهتماماً كبيراً بتوثيق رحلات الحج قديماً، وتدلنا المصادر العربية على أن الكويتيين كان لديهم حرص مُبكر بصون وحفظ وإحياء كل ما يتعلق بتراث بلادهم الذين يرون أنه جزء من هويتهم الوطنية.
وقد تنبه الباحثون الكويتيون إلى أهمية القيام بتوثيق رحلات الحج التي قام بها حجاج الكويت عبر البر والبحر، وحتى ظهور السيارات، وجمع الوثائق والشهادات من الحجاج القدامى، ومن أفراد عائلاتهم، وتتبعوا الطرق التي سار عليها الحجاج قديماً.
وبالطبع فقد حظيت رحلات الحج الكويتية قديماً، وما صدر عنها من مؤلفات، باهتمام المراكز البحثية والمؤسسات المعنية بجمع التراث، مثل متحف الكويت الوطني، ومركز جمال بن حويرب للدراسات بدولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عقدت العديد من الندوات التي ناقشت التجربة الكويتية في توثيق رحلات الحج قديماً.
ويعد كتابا «حملات الحج الكويتية على الإبل»، و«حملات الحج الكويتية عبر التاريخ»، اللذان صدرا بجهود من ثلاثة باحثين كويتيين هم: عدنان سالم الرومي، وصالح خالد المسباح، والدكتور خالد يوسف الشطي، من المصادر العربية المهمة في مجال توثيق رحلات الحج في الأزمنة الماضية.
والكتابان هما حصيلة جهود لافتة من قبل الباحثين الثلاثة، الذين تنبهوا مُبكرا لأهمية توثيق رحلات الحج الكويتية قديماً.
حول أول المشاريع البحثية الكويتية، التي استهدفت توثيق رحلات الحج التي قام بها حجاج الكويت قديما، يقول الباحث الكويتي صالح خالد المسباح، عضو مجلس إدارة الجمعية الكويتية للتراث، إنه حينما رافق والدته في رحلتها لأداء مناسك الحج قبل قرابة خمسة عقود مضت، استغرقت تلك الرحلة باستخدام السيارة ثلاثة أيام، وحينها باتت لديه فكرة عن مدى المتاعب التي كان يتعرض لها الحجاج، وخاصة الحجاج الأوائل، وأنه مع التحاقه بالعمل في البعثة الطبية الرسمية التابعة لوزارة الأوقاف الكويتية، بات أكثر قُرباً من الموضوع الذي كان يشغل باله آنذاك، وهو توثيق حملات الحج الكويتية قديماً.
واعتبر «المسباح»، أن مشروع توثيق رحلات الحج من أكبر المشاريع البحثية في منطقة الخليج العربي، وأن أول تحرك عملي للبدء في تنفيذ المشروع كان قبل أكثر من ثلاثة عقود مضت، حين تقدم في عام 1991 باقتراح لوكيل وزارة الأوقاف المساعد لشؤون الحج، للبدء في توثيق رحلات الحج الكويتية القديمة، من خلال الاستماع لروايات كبار السن ممن شاركوا في تلك الرحلات، وجمع شهاداتهم حول الحج قديما، مثل الحج على ظهور الإبل، ثم تبعه الباحث عدنان سالم الرومي، بمقترح مماثل.
ولفت الباحث والكاتب الكويتي صالح خالد المسباح، أنه، وفي إطار ذلك الحرص على القيام بمشروع لتوثيق حملات الحج القديمة في الكويت، جرى اجتماع جمعه بالباحثين عدنان سالم الرومي، والدكتور خالد يوسف الشطي، حيث توافقوا على البدء في مشروعهم بالبحث في توثيق رحلات الحج.
وأشار «المسباح» إلى أنهم وضعوا في عام 2000 خطة عمل بحثية انطلقت بقيامهم بالبحث في الكتب والمراجع التي تناولت موضوع رحلات الحج الكويتية قديما، وأنه خلال تنفيذ مشروعهم البحثي لاحظوا الحاجة للبحث والتقصي في محورين هما: رحلات الحج على ظهور الإبل، ورحلات الحج التي جرت باستخدام السيارات، وأنه كان من نتاج العمل بذلك المشروع البحثي على مدار خمس سنوات كاملة، صدور كتابين: «حملات الحج الكويتية على الإبل»، الذي صدرت طبعته الأولى عام 2005، وبعد خمس سنوات أخرى من العمل، وتحديدا في عام 2010 صدرت الطبعة الأولى من كتاب «حملات الحج الكويتية عبر التاريخ»، وبذلك فقد استغرق العمل بالكتابين عشرة أعوام كاملة.
وقد كانت الموضوعات والعناوين التي تناولتها فصول وصفحات الكتابين: «متى بدأ حج الكويتيين؟»، وما واجه رحلات الحج الكويتية قديما من معوقات، و«حج العلماء والوجهاء»، و«حجة الشيخ أحمد الجابر الصباح حاكم الكويت السابق»، و«استعدادات الحجاج وعاداتهم»، و«الطرق التي سلكها الكويتيون إلى الأماكن المقدسة»، و«الطرق البحرية»، و«الطريق من الكويت إلى بريدة»، و«تراجم أصحاب حملات الحج»، ومقابلات مع من حجَّ قديما، و«قصص وطرائف عن الحج»، ووثائق ومقابلات شخصية، ومقابلات مع من حج قديما عبر الإبل، ومقابلات مع من حج قديما عبر البحر، وغير ذلك من الموضوعات والعناوين التي قدمت إجابات لكل ما يتعلق برحلات الحج الكويتية قديما ومن أسئلة واستفسارات.
ووفقا لكتابي «حملات الحج الكويتية على الإبل»، و«حملات الحج الكويتية عبر التاريخ»، فإن حُجاج الكويت قديما، كانوا يحتاجون للاستعداد للقيام برحلات الحج على ظهور الإبل قبل موعد انطلاقها بشهر كامل، وأول تلك الاستعدادات هو شراء إبل تكون لديها القدرة على القيام بمثل تلك الرحلة الطويلة. وبعد إتمام الاستعدادات وحلول موعد الانطلاق نحو الأراضي المقدسة، كان الحجاج يتجمعون في مكان قريب من صاحب (منظم) حملة الحج، ومن المرجح أن هذا التجمع كان يُجرى خارج أسوار الكويت في منطقة تسمى «الشامية»، وتبدأ الرحلة من «دروازة نايف» باتجاه الجهراء، ثم الرقعي والحفر، ثم على بريدة، ومنها إلى مكة المكرمة، ثم حلت السيارات مكان الإبل، حيث باتت رحلة الحج أكثر سهولة.
ويُقدم لنا الباحث الكويتي صالح خالد المسباح، عضو مجلس إدارة الجمعية الكويتية للتراث، مزيدا من التفاصيل عن تلك الرحلات التي قام بها حجاج الكويت قديما، حيث يذكر أن الكويت كانت قديما إحدى المحطات المهمة التي يتوقف بها حجاج بقية البلدان وهم في طريقهم لأداء مناسك الحج، خصوصا الحجاج القادمين من بلاد الهند والسند، والعراق وإيران.
وما كان يُعرف بـ«طريق الحج البصري»، ربما كان الطريق الأكثر استخداما من قبل حملات الحج الكويتية قديما، فيما كانت الرحلات البحرية التي قام بتنظيمها والد الشيخ محمد الصالح إبراهيم، والحاج شاهين الغانم، تتجه عبر مسارات بحرية إلى مدينة جدة السعودية، مرورا بمدينتي كراتشي ومومباي، وبحسب «المسباح» فإن أقدم رحلة حج بحرية كويتية يعود تاريخها إلى عام 1853 أي قبل 169 عاما.



فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.