«الدواعش الأفغان»... قلق من حرب جديدة في الطريق عنوانها التطرف

اتجاه نحو مرحلة جديدة مفتوحة على المجهول

«الدواعش الأفغان»... قلق من حرب جديدة في الطريق عنوانها التطرف
TT

«الدواعش الأفغان»... قلق من حرب جديدة في الطريق عنوانها التطرف

«الدواعش الأفغان»... قلق من حرب جديدة في الطريق عنوانها التطرف

ترى حركة طالبان في «داعش» عدوا تقليديا لها في أفغانستان، وأنه يستهدف مصالحها ويتمدد على حسابها.. وبالتالي، قد تتحالف في هذا الأمر مع الحكومة الأفغانية لمحاربة عدو مشترك. ولقد تعزز هذا التوجه عندما طالب علماء أفغانستان، خلال اجتماع موسع، طالبان بالوقوف إلى جانب الجيش الأفغاني في حربه ضد «داعش»، واصفين التنظيم بأنه خطر يهدد أمن البلاد والمنطقة، ويدخل البلاد في أتون حرب جديدة هي في غنى عنها.
«أسسوا لنا أكثر من ثمانية أحزاب أطلقوا عليها (أحزاب المجاهدين) في ثمانينات القرن الماضي عندما هاجم (الجيش الأحمر) السوفياتي أفغانستان في نهاية السبعينات، وقدموا لها كل أنواع السلاح الفتاكة. ثم أنشأوا حركة مجهولة أطلقوا عليها اسم حركة طالبان للقضاء على أحزاب (المجاهدين) الذين تناحروا في ما بينهم وقتلوا عشرات الآلاف من المدنيين. ولكن، بعدما حكمت طالبان البلاد بالحديد والنار لمدة ست سنوات، وقعت فاجعة 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001. وكان هذا المفصل ذريعة وتبريرا للتدخل الأجنبي في البلاد بغطاء أممي وبوعود فضفاضة».. هذا ما يقوله ملك جان، سائق التاكسي في العاصمة الأفغانية كابل، عن حال السياسة الأفغانية خلال العقود الأخيرة، قبل أن يستطرد: «يومذاك قالوا إنهم سيغيرون واقع الأفغان، وستدخل البلاد مرحلة جديدة من البناء والديمقراطية، وتنفتح على العالم وينفتح العالم عليها. واليوم، بعد 14 سنة من الحضور العسكري الأجنبي والمؤسسات الأممية، يقال للأفغان بأن ظاهرة جديدة في الطريق... ويخوفوننا من المصير المجهول في حال انتشرت هذه الظاهرة التي يطلقون عليها اسم (داعش)..».
ملك جان، الذي عاصر عدة حروب بين «المجاهدين الأفغان»، حسب وصفه، يحمّل المسؤولية عن كل ما حدث في بلاده من حروب ودمار وخراب منذ أربعين سنة، ولا تزال تداعياتها الكارثية تتوالى في جميع المجالات، للولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية ودول الجوار التي يقول إنها «لا تريد الخير والمصلحة لأفغانستان». ثم يتابع بحسرة أن البلاد تفتقر إلى زعامة سياسية واعية تستطيع توحيد كلمة الأفغان، الذين شتتتهم المصالح الإثنية والطائفية الضيقة. ويضيف أنه يتوقع أن تتجه البلاد نحو مزيد من الانهيار السياسي والأمني والمعيشي في حال استمر تمزق كلمة مواطنيها، وباتوا منقسمين على أنفسهم.
سائق التاكسي، أو الشاهد العيان على المآسي الأفغانية، يقول: «الدول لها أطماع ومصالح في أفغانستان، ولن تترك أوضاعنا تستقر»، وهو الآن يتحدث عما يصفه بمؤامرة خطيرة، وعن طبخة جديدة تطبخ لأفغانستان، بعدما سمع الأنباء التي تتحدث عن انتشار ظاهرة مقاتلي «داعش» في بعض المناطق الأفغانية، خصوصا في مناطق الشمال الأفغاني القريبة من حدود دول آسيا الوسطى (السوفياتية سابقا). وهو ينظر إلى الأوضاع من زاوية أن كل ما يجري في هذا البلد معد مسبقا، وأن أجهزة الاستخبارات الأجنبية هي التي تقف وراء كل هذه التوترات.
في هذه الأثناء، قال الجنرال الأميركي جون كامبل، قائد القوات الدولية في أفغانستان، في تصريح له مع بعض القيادات النسائية الأفغانية، إن تنظيم داعش يقوم حاليا بتجنيد مقاتلين أفغان ضمن صفوفه في بعض مناطق البلاد، واعتبر كامبل هذا الأمر تطورا مقلقا بالنسبة للملف الأمني. وعلى أثر هذا التصريح وتصريحات مماثلة من المسؤولين الأمنيين حول احتمال ظهور «داعش» في أفغانستان انقسم الشارع المحلي على نفسه، وكالعادة إلى أكثر من رأي بالنسبة لما يحدث لبلادهم.
فالبعض يرى أن أفغانستان متجهة إلى مرحلة جديدة من الصراعات الدموية على غرار ما جرى في تسعينات القرن الماضي عندما خاضت ما أطلقوا عليها «أحزاب المجاهدين» حربا أهلية استمرت أربع سنوات أتت على الأخضر واليابس، إلى أن ظهرت على الساحة حركة طالبان المتشددة فقضت على الجميع ولكن من دون أن يستتب الأمن والسلام في البلاد.
لكن هناك فئة ثانية ترى أن هناك مخططا دوليا يجري الإعداد له من قبل الدول الغربية والولايات المتحدة، هدفه جرّ روسيا الاتحادية إلى «حرب استنزاف» مع مقاتلين متشددين ينتمون إلى دول آسيا الوسطى انطلاقا من أفغانستان. وكان الرئيس الأفغاني السابق حميد كرزاي قد قال في آخر ولايته إن «هليكوبترات أجنبية (في إشارة منه إلى هليكوبترات قوات التحالف الدولي المساندة لحكومته) تقوم بنقل مقاتلين مجهولين إلى ولايات الشمال الأفغاني المتاخمة لحدود دول آسيا الوسطى». غير أن هذا الاتهام ووجه بنفي قاطع من القوات الدولية في حينه، ولكن بما أن اليقين بـ«نظرية المؤامرة» راسخ في أذهان عامة الأفغان فإن الغالبية مقتنعة بأن أفغانستان ستكون ميدانا لحرب جديدة بالوكالة تخطط لها وتنفذها أجهزة الاستخبارات الأجنبية ولكن بأدوات أفغانية.
وأخيرا، ثمة فئة ثالثة من الأفغان تعتقد أن ظاهرة «داعش» لا مكان لها في المجتمع الأفغاني المحافظ، وأن هذا الشعب لن يسمح لهذه الحركة بالتمدد إلى أراضيه، بل سيقف في وجه انتشار هذه الظاهرة مهما كلفه ذلك من أثمان. ويرجح أصحاب هذا الرأي اقتناعهم المتفائل هذا إلى كون أفغانستان دولة قبلية محافظة تحكمها العادات والتقاليد القبلية، بصبغة محلية خاصة بأفغانستان وحدها. وفي المقابل، فإن «داعش» ظاهرة دولية عالمية لا مكان لها في المجتمع الأفغاني. أضف إلى ذلك أن حركة طالبان المتشددة التي تتبع «المدرسة الديوبندية» في معتقداتها لن تقبل بتمدد التنظيم إلى أفغانستان، بل ستكون أول من يقف حجر عثرة في وجه تمدده في حال ظهر وحاول التمدد.
عبد الحسيب زازي، وهو كاتب صحافي أفغاني متابع للحركات المتطرفة، يؤمن بأن «داعش» سيواجه مشاكل كثيرة في حال فكر في التمدد داخل الأراضي الأفغانية وبأن «أول عقبة سيواجهها هي حركة طالبان التي سترى فيه عدوا تقليديا لها في أفغانستان، وأنه يستهدف مصالحه، وإن تمدد فسيكون تمدده على حسابها». وبالتالي، وفق زازي «فإن طالبان ستحث مقاتليها على مقاتلة (داعش)، وقد تتحالف في هذا الأمر مع الحكومة الأفغانية لمحاربة عدو مشترك بينهما في المستقبل». وفي إشارة إلى التجارب السابقة ومنها حضور تنظيم القاعدة في أفغانستان أيام طالبان، تابع «يتجلى بوضوح أن الأفغان يرفضون الحضور الأجنبي حتى لو كان ذلك تحت غطاء إسلامي».
من جهة ثانية، يرى عبد المجيد مجيد، وهو خبير أفغاني في الشؤون الاستراتيجية، أنه ليس بمقدور أفغانستان أن تكون بمنأى عن اللعبة الدولية الكبرى التي تجري وتمثّل فصولها تباعا في منطقة الشرق الأوسط بعد ظهور «داعش». ويتابع أن «أفغانستان أرض خصبة بالمقاتلين الشرسين، والتنظيم المتطرف سيفكر مليا في التمدد إلى هذا البلد للاستفادة من تجارب المقاتلين الأفغان في حروب الشوارع وحروب العصابات. (داعش) بحاجة إلى هذا النوع من المقاتلين في حروبه ضد الأنظمة في كثير من الدول».
وكانت التقارير الأمنية المستقلة التي أكد صحتها المسؤولون الأفغان، ولو بكثير من التحفظ، أفادت بأن بعض المقاتلين من حركة طالبان غير الراضين عن قيادة الملا عمر، زعيم طالبان، بسبب اختفائه لأكثر من عشر سنوات، أخذوا يغيرون ولاءاتهم وبدأوا ينضمون إلى صفوف «داعش» داخل أفغانستان، لأن التنظيم يدفع أموالا أكثر مما تدفعه قيادة طالبان. ثم إن الحديث عن عملية المصالحة مع الحكومة الأفغانية، وبحضور عسكري أجنبي، أزعج كثرة من قادة طالبان من الصف الثاني والثالث، فعبروا عن انزعاجهم بإعلانهم الولاء لـ«داعش».
ولقد شكلت معركتا ولاية قندوز وولاية بدخشان، وإن كانتا قصيرتين، باكورة النشاط الفعلي والرسمي التابع لفرع «داعش» في أفغانستان، إذ أشارت التقارير إلى أن نحو خمسة آلاف مقاتل من «داعش» غالبيتهم من جنسيات طاجيكية وأوزبكية، وكذلك من مسلمي تركستان الشرقية (الأويغور) التابعة للصين ومسلمي جمهورية الشيشان، بالإضافة إلى مقاتلين من طالبان، شنوا أكبر وأعنف هجوم لهم على نقاط حكومية ومقرات تابعة للجيش الأفغاني في هاتين المنطقتين القريبتين من الحدود الروسية. وبعد أسابيع من المواجهات الشرسة التي خاضها الجيش الأفغاني بدعم مباشر من قادة من يسمونهم «المجاهدين السابقين»، استطاع الجيش والقوات المتحالفة إلحاق الهزيمة بمقاتلي «داعش» وطالبان في تلك المناطق، لكن هذا لا يعني مطلقا أن «داعش» والفريق المؤيد له في طالبان لن يعيدا الكرّة من جديد.
إلى جانب ما تقدّم، فإن الأخبار ترد عن حرب شرسة تستعر بين مقاتلين أفغان انضموا إلى صفوف «داعش» ومقاتلين ينتمون إلى حركة طالبان في كل من ولاية ننغرهار، بشرق أفغانستان، وثمة أنباء عن مقتل العشرات من الطرفين خلال أسابيع من الصراع على النفوذ في بعض المديريات التابعة للولاية. وفي ولاية فراه الواقعة في شمال البلاد تفيد الأنباء بوجود معارك متقطعة بين مقاتلين ينتمون لـ«داعش» وآخرين من مسلحي طالبان. وفي العاصمة كابل طالب عدد من علماء أفغانستان، في اجتماع موسّع حضره علماء من مختلف المناطق الأفغانية، حركة طالبان بالوقوف إلى جانب الجيش الأفغاني في حربه ضد ظاهرة «داعش» في البلاد، واصفين التنظيم بأنه خطر يهدد أمن البلد والمنطقة ويدخل البلاد في أتون حرب جديدة هي في غنى عنها.
حركة طالبان لم تعلن موقفها بعد من الأخبار التي تتحدث عن معاركها مع مقاتلي «داعش»، لكنها صرحت بوضوح قبل أشهر، وعلى لسان المتحدث باسمها قاري يوسف أحمدي، بأن لا مكان لـ«داعش» في أفغانستان، وأن طالبان ستقف في وجه كل من يعبث بأمن المناطق التي تخضع لسيطرتها، مما يعني أنها لن تسمح بتمدد «داعش» إلى داخل الأراضي الأفغانية.
هذه الأجواء تسيطر على أفغانستان، بينما يتصاعد القلق إقليميا في دول عدة.
وفي هذا السياق، أظهرت إيران، القلقة من تعرّض حدودها المشتركة مع أفغانستان لاختراق مقاتلي «داعش»، مرونة في مواقفها السياسية من طالبان. إذ استقبلت طهران في الفترة الأخيرة وفدا طالبانيا زائرا التقى خلال زيارته بمسؤولين إيرانيين، وتركزت المباحثات حول قضية «داعش» واحتمال ظهوره في أفغانستان، والتأكيد على المصالح المشتركة في وجه الخطر الجديد. كذلك فإن وزير الداخلية الروسي أجرى زيارة سريعة إلى كابل بعد الأنباء عن تمدد «داعش» إلى شمال أفغانستان، والتقى خلالها بالرئيس الأفغاني ومسؤولين أمنيين، وأعربت روسيا عن رغبتها في تسليح ودعم قادة الميليشيا التابعة لأمراء الحرب في شمال أفغانستان في قتالهم ضد مقاتلي «داعش». الخلاصة أن تدهور الأوضاع الأمنية في أفغانستان، وفشل القوات الدولية والحكومية على حد سواء في فرض استقرار الأوضاع وإلحاق الهزيمة بطالبان، رغم وجودها في البلاد لأكثر من 13 سنة، يفتحان المجال أمام «داعش» وجماعات متشددة أخرى للتمدد والانتشار، لا سيما في المناطق الجبلية الوعرة والنائية. ومن ثم قد تنتقل منها إلى مناطق أخرى.
الحكومة الأفغانية تقول إن ظاهرة «داعش» مشكلة عالمية وعلى جميع الدول أن تنظم مساعيها لمحاربة هذه الظاهرة التي تسيء إلى العالم الإسلامي وتشوه سمعة المسلمين في كل مكان. كذلك تقول الحكومة إنها بمفردها، وبإمكاناتها المتواضعة، عاجزة عن القضاء على المقاتلين الذين يعلنون الولاء لـ«داعش» داخل البلاد، وبالتالي فهي بحاجة إلى مساعدات دولية للقضاء على التنظيم المتطرف في حال أطلق عملياته القتالية في أفغانستان.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.