من القديح إلى العنود.. رسائل «داعش» الجديدة

العنف الفوضوي يتوسل الطائفية لأهداف سياسية إقليمية.. وولي العهد السعودي للمزايدين: الدولة تبقى دولة

أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
TT

من القديح إلى العنود.. رسائل «داعش» الجديدة

أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى

بملامح صلبة يكسوها تقدير الموقف، وهدوء حازم أنصت الأمير محمد بن نايف ولي العهد السعودي وزير الداخلية، و«عدو الإرهاب الأول»، إلى أحد المتضررين من جريمة القديح الآثمة وهو يتحدث بانفعال عن مأساته. لم يقاطعه رغم حدة كلماته، بل قال له مقدّرًا انفعاله.. لكن يجب أن يفهم الجميع أن «الدولة ستبقى دولة».
هذه الكلمات وجدت صداها في المجالس العامة في السعودية التي اشتعل فيها الجدل والنقاش مجدّدًا حول الطائفية التي تطل بوجهها ليس عبر شاشات التلفزة أو في كتب الردود التراشق المتبادل، بل بلون الدم هذه المرّة وعبر استهداف أماكن للعبادة. هذا تحول نوعي في العقل الإرهابي على أكثر من مستوى، وهو وإن دلّ على وحشية تنظيم «داعش» وعبثيته وعدم تقديره أي من المسلمات الدينية إلا أنه دليل فشل كبير. إن حظهم هذه المرة من المملكة واستقرارها وأمنها كان استهداف المساجد بعدما حيل بينهم وبين أي عمليات نوعية على مستوى استهداف مواقع مهمة. خطة «داعش» في تهشيم مقدرات المنطقة عبر استهداف هيكلية الدولة.. وليس خوض «حرب ضد الصليبيين وأتباعهم» كما كانت «القاعدة» وأخواتها تزعم.
الانزلاق في أوحال التحليل الطائفي والتجاذب المذهبي هو تحقيق لأهداف «داعش»، وما نراه الآن من محاولة الدوران في فلك التحليل الطائفي لن يقدم في فهم النزعة الجديدة لتنظيم داعش الذي يعمل على ثلاث مسارات رئيسية:
المسار الأول، هو جلب مقاتلين أجانب غير عرب لأسباب تتعلق بسهولة تجنيدهم واستخدام أوراقهم الثبوتية وتنقلهم، إضافة إلى أن دخولهم الإسلام أو حتى عودتهم للدين كمحرّك رئيسي لم يكن عبر مصادر تلقي غير الخلايا النائمة في أوروبا، ومن هنا ليسوا بحاجة إلى إقناعهم بالخطاب الداعشي الذي بات مستقلاً على مستوى القراءة أو الممارسة أو حتى التصدير. ومن هنا، فإن إرجاع خطاب «داعش» لتصوّر ديني متشدد أو مدرسة فقهية أو عقائدية، ضرب من التسطيح لظاهرة معقدة تداخل فيها الديني والنفسي والهويّاتي.
المسار الثاني، الذي يعد توجهًا جديدًا لـ«داعش»، هو الاهتمام بالكوادر في الخليج وحضها على عدم «النفير» إلى أرض الشام، بل بتكوين خلايا مستوفزة قادرة على القيام بأعمال انتحارية، وهو أمر عادة ما يرفضه المقاتلون الأوروبيون والأكراد والقوقاز. ثم إن عدم انسجام المجموعات العربية والخليجية في بيئة «داعش»، كما كان الحال في معسكرات «القاعدة»، خلق هذا المسار الجديد بهدف خلق أكبر مناطق فوضى في الدول المستقرة، وإشغالها بحماية الداخل عن محاربة «داعش» في عقر دارها. ومن هنا، يمكن قراءة نشاط «داعش» في مصر والخليج وليبيا، بل ومحاولة إيجاد نسخة جديدة متكاملة في المغرب العربي.. الأقرب لأوروبا وأكثر المناطق شعبية لفكرة «السلفية الجهادية» الذراع الفكري لـ«داعش».
المسار الثالث، استخباراتي - أمني - عسكري، وغالبًا ما ينوء بحمله قيادات عسكرية قادمة من منظومة أخرى كالبعث أو بعض الأحزاب اليسارية الراديكالية التي أعجب قادتها أو ركبوا موجة الإعجاب بـ«داعش» وقدرته على الأرض. وربما كان انضمام قائد «القوات الخاصة» في الشرطة الطاجيكية، الذي تلقى تدريبه في الولايات المتحدة، إلى التنظيم المتطرف ثالثة الأثافي فيما يخص تحول العقل الإرهابي من حدود التصورات الدينية المتشددة إلى رؤية معولمة للعنف وقدرته على تغيير الأوضاع السياسية. ولا شك في أن رسم سياسات هذا المسار يتم مع دول عريقة في الجريمة السياسية كنظام طهران أو حتى نظام الأسد الذي يدين لـ«داعش» ببقائه حتى الآن. ومن هنا، فإن معظم كوادر التنظيم التنفيذية من المقاتلين والشرعيين لا علاقة لهم بهذا المسار، بل جرى تفريغهم تقريبًا للنشاط الفقهي والقضائي داخل حدود «دولة البغدادي» المزعومة، في حين أصبح دور المتعاطفين مع «داعش» خارج مناطق التوتر إلى ضخ الدعاية والتأليب ومقارعة الخصوم، بل وإقناع الفرقاء والمترددين من حشود الإسلام السياسي المستقيل بأن «داعش» هي المستقبل.. إذا ما أرادوا تغيير الأوضاع في المنطقة.
ولدى العودة إلى بيان وزارة الداخلية السعودية حول الحادثة يمكننا استنتاج ارتباط صالح القشعمي (مفجّر القديح) بـ«داعش» عبر المسار الأول الذي تحدثنا عنه وهو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى، فهو كان مرتبطًا بحسب البيان بـ26 كادرًا داعشيًا، وكان خمسة منهم قد تورّطوا بقتل أحد أفراد أمن المنشآت في العاصمة الرياض، بل وأشعلوا النار في جسده. وبحسب ما تم الكشف عنه من أسلحة خفيفة (رشاشان و9 مسدسات ومواد متفجرة في مزرعة) لا تعبر إلا عن إرادة الفوضى كهدف وليس لتحقيق ما هو أبعد من ذلك. ولمعرفة حجم وخطورة «الإرهاب - الفوضى» يمكنك تخيّل ما يمكن أن يعمله شباب معزول في استراحة مع هذه المواد المتفجرة التي أصدر التنظيم عدة كتب ومقاطع فيديو لطرق استخدامها من الصفر.
بقية الخلية، كما قال البيان، توزّعت أدوارهم على جمع الأموال وتجنيد الشباب، وهنا مسألة في غاية الأهمية أبعد من كل المهاترات الطائفية، وهي ما الذي يجعل الشاب العشريني فريسة سهلة لخطاب «داعش»؟
سؤال كهذا بحاجة إلى مراكز أبحاث ودراسات تجمع تخصّصات كثيرة لفهم هذه الحالة المتكرّرة، إلا أن انتشار خطاب «داعش» في منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وقدرة التنظيم على تقديم هذه الوحشية المجانية بقالب دعائي تسويقي يستهدف - كما يقول الخبراء النفسيون في علم الجريمة - «سلّم القيم» لدى الشاب، وهو سلّم يتغير في هذه المرحلة، فتعلو فيه قيم الرجولة والقوة والفتوة وحب الظهور على قيم أخرى كالتسامح والمشاركة.
ومن هنا، فإن كل الدلائل والمؤشرات تؤكد على أن أجيال ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) (2001) تعاني من فراغ قيمي كبير، عادة ما يتم ملؤه بخطابات عنيفة سواء كانت في شكل إرهاب وتشدد ديني، أو حتى ردود فعل اجتماعية غاضبة تبدأ بـ«التفحيط» وشيوع ممارسات «العنف الاجتماعي» اللفظية والعملية، دون أن نلحظ برامج مستدامة لتعبئة هذا الفراغ. وكان آخر المعاقل الآمنة؛ أي الرياضة، قد بلغ فيه مؤشر العنف الاجتماعي مستوى جديدًا، وهو ما يجب ألا نغفل عنه ونحن نقرأ سلوك هذه الفئة العمرية.
إن رسائل «داعش» تسعى إلى إعادة تجريف الصراع الإقليمي لتكون طرفًا فاعلاً فيه عبر إشعال جبهات داخلية يعتقد قادة التنظيم أن ذلك سيساهم في تركهم يتوسّعون في «دولتهم» المزعومة. أضف إلى ذلك تدفق موجات المقاتلين من كل مكان، لا سيما من الدول الإسلامية غير العربية، ليشكلوا وقودًا آيديولوجيًا للتنظيم بسبب الأوضاع المعيشية في بلدانهم الأصلية، ثم ما تقدمه «داعش» من معونات وبرامج إيواء وإعالة (هناك حديث عن هجرة 30 طبيب امتياز من السودان و700 مهندس من دول شرق آسيا).
وعلى المستوى الداخلي، يهدف التنظيم إلى إشغال المجتمع بملف الطائفية على خلفية أن منسوب الطائفية في المنطقة في أعلى مستوياته إلى الحد الذي حدا ببعض المجموعات الإسلامية إلى رفض «داعش» في الداخل مقابل تبرير سلوكه في الخارج. وهذا، بعدما أطلقت إيران ميليشياتها الشيعية المسلحة، وبشعارات دينية صارخة؛ الأمر الذي قرأه قادة «داعش» بذكاء في محاولة تأجيج الملف الطائفي وخلق أداة جديدة للفوضى. ثم إن «داعش» يدرك أن تصريحات قادة طهران وحسن نصر الله والحوثيين حول أي جريمة طائفية من شأنها خلق ردود أفعال مضادّة باعتبار أن خطاب الدولة والمجتمع بكل أطيافه يرفض تدخلات سيادية من هذا النوع.
«داعش» يريد أن ينفرد بـ«دولته» دون حتى مشاركة المجموعات العنفية المنافسة كـ«القاعدة» بفروعها، والمجموعات المحاربة لنظام الأسد كـ«النصرة» وفروعها، وكل منافسي «داعش» من أمثال هؤلاء، يفقدون أسهمهم في سوق الفوضى متى ما نجح «داعش» في تحقيق أهداف أو عمليات أو ضم مناطق جديدة. وحقًا، كانت هناك إشارات في خطابات البغدادي وحتى في «تويتر» من قبل أتباعه إلى أنهم يستهدفون الشيعة في ردودهم على من يتهمهم بخدمة أهداف إيران في المنطقة. وفي خطبة لأنصاره في السعودية، دعا البغدادي منذ ستة أشهر في تسجيل منسوب إليه إلى شن هجمات ضد أهداف شيعية من قبل العائدين من مناطق سيطرة «داعش»، وأغلبهم ممن لم يستطع التأقلم أو لم تنط به أدوار قيادية، وجزء كبير منهم من المتحوّلين من «القاعدة» الذين لا يرون في وحشية «داعش» انضباط المجموعات الجهادية الأخرى التي انضموا إليها.
ورغم موجات الهلع والدهشة من دناءة العمليتين، في القديح ومسجد العنود، ما حدا بمحاولة عدد من العلماء والمشايخ من الطرفين إلى تبادل العزاء ونبذ الطائفية في صور انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، فإن ملف الطائفية سريع الاشتعال، ومن ثم فهو بحاجة إلى تشريعات صارمة تخرجه من سياقه الصدامي إلى حدود المواطنة كمفهوم مطرد يشمل كل السعوديين. ثم إن الدعوات النشاز بإنشاء جماعات مسلحة مشابهة لـ«الحشد الشعبي» يجب أن تحظى برفض عقلاء الشيعة قبل غيرهم، فهم كما قال ولي العهد السعودي الذي استهدفه الإرهاب في شخصه «أي شخص يحاول لعب دور الدولة سوف يحاسب كائنًا من كان.. لنكن يدًا واحدة مع الدولة».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟