من القديح إلى العنود.. رسائل «داعش» الجديدة

العنف الفوضوي يتوسل الطائفية لأهداف سياسية إقليمية.. وولي العهد السعودي للمزايدين: الدولة تبقى دولة

أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
TT

من القديح إلى العنود.. رسائل «داعش» الجديدة

أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى
أحد المسارات التي يعمل تنظيم داعش عليها هو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى

بملامح صلبة يكسوها تقدير الموقف، وهدوء حازم أنصت الأمير محمد بن نايف ولي العهد السعودي وزير الداخلية، و«عدو الإرهاب الأول»، إلى أحد المتضررين من جريمة القديح الآثمة وهو يتحدث بانفعال عن مأساته. لم يقاطعه رغم حدة كلماته، بل قال له مقدّرًا انفعاله.. لكن يجب أن يفهم الجميع أن «الدولة ستبقى دولة».
هذه الكلمات وجدت صداها في المجالس العامة في السعودية التي اشتعل فيها الجدل والنقاش مجدّدًا حول الطائفية التي تطل بوجهها ليس عبر شاشات التلفزة أو في كتب الردود التراشق المتبادل، بل بلون الدم هذه المرّة وعبر استهداف أماكن للعبادة. هذا تحول نوعي في العقل الإرهابي على أكثر من مستوى، وهو وإن دلّ على وحشية تنظيم «داعش» وعبثيته وعدم تقديره أي من المسلمات الدينية إلا أنه دليل فشل كبير. إن حظهم هذه المرة من المملكة واستقرارها وأمنها كان استهداف المساجد بعدما حيل بينهم وبين أي عمليات نوعية على مستوى استهداف مواقع مهمة. خطة «داعش» في تهشيم مقدرات المنطقة عبر استهداف هيكلية الدولة.. وليس خوض «حرب ضد الصليبيين وأتباعهم» كما كانت «القاعدة» وأخواتها تزعم.
الانزلاق في أوحال التحليل الطائفي والتجاذب المذهبي هو تحقيق لأهداف «داعش»، وما نراه الآن من محاولة الدوران في فلك التحليل الطائفي لن يقدم في فهم النزعة الجديدة لتنظيم داعش الذي يعمل على ثلاث مسارات رئيسية:
المسار الأول، هو جلب مقاتلين أجانب غير عرب لأسباب تتعلق بسهولة تجنيدهم واستخدام أوراقهم الثبوتية وتنقلهم، إضافة إلى أن دخولهم الإسلام أو حتى عودتهم للدين كمحرّك رئيسي لم يكن عبر مصادر تلقي غير الخلايا النائمة في أوروبا، ومن هنا ليسوا بحاجة إلى إقناعهم بالخطاب الداعشي الذي بات مستقلاً على مستوى القراءة أو الممارسة أو حتى التصدير. ومن هنا، فإن إرجاع خطاب «داعش» لتصوّر ديني متشدد أو مدرسة فقهية أو عقائدية، ضرب من التسطيح لظاهرة معقدة تداخل فيها الديني والنفسي والهويّاتي.
المسار الثاني، الذي يعد توجهًا جديدًا لـ«داعش»، هو الاهتمام بالكوادر في الخليج وحضها على عدم «النفير» إلى أرض الشام، بل بتكوين خلايا مستوفزة قادرة على القيام بأعمال انتحارية، وهو أمر عادة ما يرفضه المقاتلون الأوروبيون والأكراد والقوقاز. ثم إن عدم انسجام المجموعات العربية والخليجية في بيئة «داعش»، كما كان الحال في معسكرات «القاعدة»، خلق هذا المسار الجديد بهدف خلق أكبر مناطق فوضى في الدول المستقرة، وإشغالها بحماية الداخل عن محاربة «داعش» في عقر دارها. ومن هنا، يمكن قراءة نشاط «داعش» في مصر والخليج وليبيا، بل ومحاولة إيجاد نسخة جديدة متكاملة في المغرب العربي.. الأقرب لأوروبا وأكثر المناطق شعبية لفكرة «السلفية الجهادية» الذراع الفكري لـ«داعش».
المسار الثالث، استخباراتي - أمني - عسكري، وغالبًا ما ينوء بحمله قيادات عسكرية قادمة من منظومة أخرى كالبعث أو بعض الأحزاب اليسارية الراديكالية التي أعجب قادتها أو ركبوا موجة الإعجاب بـ«داعش» وقدرته على الأرض. وربما كان انضمام قائد «القوات الخاصة» في الشرطة الطاجيكية، الذي تلقى تدريبه في الولايات المتحدة، إلى التنظيم المتطرف ثالثة الأثافي فيما يخص تحول العقل الإرهابي من حدود التصورات الدينية المتشددة إلى رؤية معولمة للعنف وقدرته على تغيير الأوضاع السياسية. ولا شك في أن رسم سياسات هذا المسار يتم مع دول عريقة في الجريمة السياسية كنظام طهران أو حتى نظام الأسد الذي يدين لـ«داعش» ببقائه حتى الآن. ومن هنا، فإن معظم كوادر التنظيم التنفيذية من المقاتلين والشرعيين لا علاقة لهم بهذا المسار، بل جرى تفريغهم تقريبًا للنشاط الفقهي والقضائي داخل حدود «دولة البغدادي» المزعومة، في حين أصبح دور المتعاطفين مع «داعش» خارج مناطق التوتر إلى ضخ الدعاية والتأليب ومقارعة الخصوم، بل وإقناع الفرقاء والمترددين من حشود الإسلام السياسي المستقيل بأن «داعش» هي المستقبل.. إذا ما أرادوا تغيير الأوضاع في المنطقة.
ولدى العودة إلى بيان وزارة الداخلية السعودية حول الحادثة يمكننا استنتاج ارتباط صالح القشعمي (مفجّر القديح) بـ«داعش» عبر المسار الأول الذي تحدثنا عنه وهو تحويل المقاتلين العرب إلى بلدانهم بهدف خلق مناطق فوضى، فهو كان مرتبطًا بحسب البيان بـ26 كادرًا داعشيًا، وكان خمسة منهم قد تورّطوا بقتل أحد أفراد أمن المنشآت في العاصمة الرياض، بل وأشعلوا النار في جسده. وبحسب ما تم الكشف عنه من أسلحة خفيفة (رشاشان و9 مسدسات ومواد متفجرة في مزرعة) لا تعبر إلا عن إرادة الفوضى كهدف وليس لتحقيق ما هو أبعد من ذلك. ولمعرفة حجم وخطورة «الإرهاب - الفوضى» يمكنك تخيّل ما يمكن أن يعمله شباب معزول في استراحة مع هذه المواد المتفجرة التي أصدر التنظيم عدة كتب ومقاطع فيديو لطرق استخدامها من الصفر.
بقية الخلية، كما قال البيان، توزّعت أدوارهم على جمع الأموال وتجنيد الشباب، وهنا مسألة في غاية الأهمية أبعد من كل المهاترات الطائفية، وهي ما الذي يجعل الشاب العشريني فريسة سهلة لخطاب «داعش»؟
سؤال كهذا بحاجة إلى مراكز أبحاث ودراسات تجمع تخصّصات كثيرة لفهم هذه الحالة المتكرّرة، إلا أن انتشار خطاب «داعش» في منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت، وقدرة التنظيم على تقديم هذه الوحشية المجانية بقالب دعائي تسويقي يستهدف - كما يقول الخبراء النفسيون في علم الجريمة - «سلّم القيم» لدى الشاب، وهو سلّم يتغير في هذه المرحلة، فتعلو فيه قيم الرجولة والقوة والفتوة وحب الظهور على قيم أخرى كالتسامح والمشاركة.
ومن هنا، فإن كل الدلائل والمؤشرات تؤكد على أن أجيال ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) (2001) تعاني من فراغ قيمي كبير، عادة ما يتم ملؤه بخطابات عنيفة سواء كانت في شكل إرهاب وتشدد ديني، أو حتى ردود فعل اجتماعية غاضبة تبدأ بـ«التفحيط» وشيوع ممارسات «العنف الاجتماعي» اللفظية والعملية، دون أن نلحظ برامج مستدامة لتعبئة هذا الفراغ. وكان آخر المعاقل الآمنة؛ أي الرياضة، قد بلغ فيه مؤشر العنف الاجتماعي مستوى جديدًا، وهو ما يجب ألا نغفل عنه ونحن نقرأ سلوك هذه الفئة العمرية.
إن رسائل «داعش» تسعى إلى إعادة تجريف الصراع الإقليمي لتكون طرفًا فاعلاً فيه عبر إشعال جبهات داخلية يعتقد قادة التنظيم أن ذلك سيساهم في تركهم يتوسّعون في «دولتهم» المزعومة. أضف إلى ذلك تدفق موجات المقاتلين من كل مكان، لا سيما من الدول الإسلامية غير العربية، ليشكلوا وقودًا آيديولوجيًا للتنظيم بسبب الأوضاع المعيشية في بلدانهم الأصلية، ثم ما تقدمه «داعش» من معونات وبرامج إيواء وإعالة (هناك حديث عن هجرة 30 طبيب امتياز من السودان و700 مهندس من دول شرق آسيا).
وعلى المستوى الداخلي، يهدف التنظيم إلى إشغال المجتمع بملف الطائفية على خلفية أن منسوب الطائفية في المنطقة في أعلى مستوياته إلى الحد الذي حدا ببعض المجموعات الإسلامية إلى رفض «داعش» في الداخل مقابل تبرير سلوكه في الخارج. وهذا، بعدما أطلقت إيران ميليشياتها الشيعية المسلحة، وبشعارات دينية صارخة؛ الأمر الذي قرأه قادة «داعش» بذكاء في محاولة تأجيج الملف الطائفي وخلق أداة جديدة للفوضى. ثم إن «داعش» يدرك أن تصريحات قادة طهران وحسن نصر الله والحوثيين حول أي جريمة طائفية من شأنها خلق ردود أفعال مضادّة باعتبار أن خطاب الدولة والمجتمع بكل أطيافه يرفض تدخلات سيادية من هذا النوع.
«داعش» يريد أن ينفرد بـ«دولته» دون حتى مشاركة المجموعات العنفية المنافسة كـ«القاعدة» بفروعها، والمجموعات المحاربة لنظام الأسد كـ«النصرة» وفروعها، وكل منافسي «داعش» من أمثال هؤلاء، يفقدون أسهمهم في سوق الفوضى متى ما نجح «داعش» في تحقيق أهداف أو عمليات أو ضم مناطق جديدة. وحقًا، كانت هناك إشارات في خطابات البغدادي وحتى في «تويتر» من قبل أتباعه إلى أنهم يستهدفون الشيعة في ردودهم على من يتهمهم بخدمة أهداف إيران في المنطقة. وفي خطبة لأنصاره في السعودية، دعا البغدادي منذ ستة أشهر في تسجيل منسوب إليه إلى شن هجمات ضد أهداف شيعية من قبل العائدين من مناطق سيطرة «داعش»، وأغلبهم ممن لم يستطع التأقلم أو لم تنط به أدوار قيادية، وجزء كبير منهم من المتحوّلين من «القاعدة» الذين لا يرون في وحشية «داعش» انضباط المجموعات الجهادية الأخرى التي انضموا إليها.
ورغم موجات الهلع والدهشة من دناءة العمليتين، في القديح ومسجد العنود، ما حدا بمحاولة عدد من العلماء والمشايخ من الطرفين إلى تبادل العزاء ونبذ الطائفية في صور انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي، فإن ملف الطائفية سريع الاشتعال، ومن ثم فهو بحاجة إلى تشريعات صارمة تخرجه من سياقه الصدامي إلى حدود المواطنة كمفهوم مطرد يشمل كل السعوديين. ثم إن الدعوات النشاز بإنشاء جماعات مسلحة مشابهة لـ«الحشد الشعبي» يجب أن تحظى برفض عقلاء الشيعة قبل غيرهم، فهم كما قال ولي العهد السعودي الذي استهدفه الإرهاب في شخصه «أي شخص يحاول لعب دور الدولة سوف يحاسب كائنًا من كان.. لنكن يدًا واحدة مع الدولة».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.