الرئاسة الفرنسية تحصي نجاحاتها الأوروبية في الأشهر الستة الأخيرة

الملف الأوكراني شغل الحيز الأكبر من اهتماماتها

الرئاسة الفرنسية تحصي نجاحاتها الأوروبية في الأشهر الستة الأخيرة
TT

الرئاسة الفرنسية تحصي نجاحاتها الأوروبية في الأشهر الستة الأخيرة

الرئاسة الفرنسية تحصي نجاحاتها الأوروبية في الأشهر الستة الأخيرة

منذ اليوم، تنتقل رئاسة الاتحاد الأوروبي من فرنسا إلى جمهورية التشيك، للنصف الثاني من العام الحالي. وبهذه المناسبة، أعدَّت رئاسة الجمهورية ثبتاً بالإنجازات التي تحققت خلال الرئاسة الفرنسية التي انطلقت في الأول من شهر يناير (كانون الثاني). وكان الاتحاد الأوروبي قد عرض على باريس تأجيل رئاستها، بسبب تزامنها مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية. بيد أن الرئيس إيمانويل ماكرون فضّل التمسك بها، معتبراً، على الأرجح، أنها تمثل منصة توفّر له إطلالة ثمينة على المسرحين الأوروبي والدولي.
وحرصت الرئاسة على تكثيف برنامج عملها في الأشهر الأولى من العام الحالي. لكن أخذ لاحقاً على ماكرون الذي أعيد انتخابه لفترة رئاسية ثانية من خمس سنوات ابتعاده النسبي عن شؤون فرنسا الداخلية، وتحججه بمشاغله الدولية، خصوصاً بمناسبة الانتخابات التشريعية التي جرت يومي 12 و19 يونيو (حزيران) الماضي، لتجنب خوض المواجهة الانتخابية.
في آخر اجتماع للمجلس الأوروبي (أي القمة الأوروبية)، حرصت رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، وكذلك رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، على الإشادة بما تحقق خلال الرئاسة الفرنسية، وحرصا على الثناء على ما أنجزه ماكرون خلال الأشهر الستة. والحدث البارز خلال الرئاسة الفرنسية كان العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، التي أعادت الحرب إلى أوروبا، وشكلت الملف الأساسي للرئاسة الفرنسية. من هنا، فإن الوثيقة التي أعدها قصر الإليزيه تفرد مساحة كبيرة لما أنجزته الرئاسة، وجاء فيها أنها عملت على «توفير رد موحد وحازم على الاعتداء الروسي، مع مواصلة العمل لدفع الملفات الأوروبية الكبرى إلى الأمام، وعلى رأسها (تعزيز) السيادة الأوروبية وأوروبا الخضراء والإنسانية».
وفي الملف الأوكراني، عدّد الإليزيه أهم ما تحقق، ومن بينها استقبال 7.6 مليون لاجئ، وتمكينهم من الاستفادة من الأنظمة الصحية والمدرسية والرعاية الاجتماعية.
يُضاف إلى ذلك توفير الدعم العسكري غير المسبوق على المستوى الأوروبي الجماعي، حيث وفَّر الاتحاد ما يزيد على ملياري يورو من المساعدات العسكرية ومبلغاً مماثلاً للدعم الاقتصادي، مع الالتزام برفعه إلى 9 مليارات يورو لعام 2022، والالتزام بالمساهمة في إعادة إعمار ما تهدمه الحرب الروسية على أوكرانيا. ولاكتمال الصورة، تتعين الإشارة إلى المساعدات الإنسانية (نحو 1.5 مليار يورو)، بيد أن أهم ما أنجز قبول أوكرانيا (ومعها مولدافيا) مرشحتين رسمياً للانضمام إلى النادي الأوروبي، وتم ذلك في فترة زمنية قياسية. ورغم أن الانضمام الفعلي لن يتحقق إلا بعد عدة سنوات، فإن أهمية ما أنجزه القادة الأوروبيون في قمتهم، 23 الشهر الماضي، يُعد إنجازاً كبيراً، لأن الأوروبيين تركوا خلافاتهم جانباً، وبينوا عن وحدة موقف لدعم أوكرانيا. وأخيراً أشار الإليزيه إلى العقوبات الأوروبية التي فُرِضت منذ اليوم الأول للغزو الروسي، وكان آخرها الحزمة السادسة التي نصَّت على وقف مشتريات النفط المنقول بواسطة الأنابيب الروسي، وخفض مشتريات الغاز مع نهاية العام الحالي. والغرض من ذلك كله الخروج من التبعية لروسيا في قطاع الطاقة.
ثمة ملفان سياسيان تعتز بهما باريس: الأول، مشروع بناء «المجموعة السياسية الأوروبية» الذي أطلقه ماكرون في خطابه أمام البرلمان الأوروبي في 9 مارس (آذار) الماضي، والجهود التي بذلها من أجل «تعزيز السيادة الأوروبية». وقد تبنَّت القمة الأوروبية الأخيرة المشروع الفرنسي الذي ستتابعه الرئاسة التشيكية. وستدعو براغ لاجتماع الخريف المقبل، لإرساء أسس «المجموعة» التي يُراد منها جمع دول الاتحاد، في إطار موحد للعمل المشترك بالميادين الاقتصادية والسياسية والبيئية... وتمكين الدول غير الأعضاء من التحضّر للدخول إلى الاتحاد لاحقاً.
احتلت الملفات السياسية حيزاً بارزاً في الجهود الفرنسية. وشكلت قمة فرساي، يومي 11 و12 مارس، محطة بارزة على هذا الصعيد، إذ أكدت على تعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية والصناعات العسكرية للاتحاد، بالتوازي مع توفير السيادة في القطاعات الغذائية والصحية والتقنية. وثمة ثلاثة ملفات إضافية ترى باريس أنها حققت فيها تقدماً مهماً: الأول، تبني ما يسمى «البوصلة الاستراتيجية»، التي تحدد الاستراتيجية الأمنية والدفاعية والمصالح الأساسية لأوروبا للسنوات العشر المقبلة. وثانيها، تعديل بعض بنود «اتفاقية شنغن» للتنقل الحر، بحيث تعود أوروبا قادرة عل التحكم بحدودها، وتأكيد سيادتها وإرساء قواعد التعامل مع الهجرات الوافدة إلى حدودها. وثالثها، تجديد الشراكة الأوروبية - الأفريقية وإقامة شراكة أقوى مع بلدان البلقان الغربي التي ستمضي بدورها في السنوات المقبلة تحت راية الاتحاد الأوروبي.
إذا كانت السياسة تحتل حيزاً بارزاً، فإن الرئاسة الفرنسية ركزت كذلك على نجاحاتها في الميدان البيئوي وفي بناء «أوروبا الرقمية»، ووضع حد لهيمنة المنصات الأميركية على الفضاء الرقمي، من خلال توفير استثمارات حكومية بقيمة 3.5 مليار يورو، وفي الميدانين الاجتماعي والإنساني، وتقريب المؤسسات من المواطن الأوروبي.
يبقى أن كثيراً مما جاءت عليه وثيقة الإليزيه، خصوصاً فيما يتعلق بالسياسة والدفاع، ليس سوى بداية الطريق، وتحقيق المشاريع التي أقرت يحتاج لكثير من الجهود والمساومات ليلج مرحلة التنفيذ الفعلي، وهذا سيحتاج للعديد من الرئاسات الدورية المتعاقبة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟