النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا

ويندي بيهاري تبحث في أسبابها وعوارضها والنظريات المتعلقة بها

النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا
TT

النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا

النرجسية مرض العصر والنرجسي لا يرى سوى وجهه في المرايا

أعترف بداية أن ما دفعني إلى قراءة كتاب ويندي بيهاري «تعرية النرجسي»، لم يكن اسم مؤلفته التي لم أكن قد سمعت بها من قبل، بل هو عنوانه المميز الذي ينتزع جاذبيته من تصديه لواحد من أكثر أمراض العصر شيوعاً، وبخاصة في عالم الكتّاب والفنانين، الذين تتحول النرجسية عندهم إلى معادل موضوعي لعملية الخلق والإبداع. كما أن عصرنا الراهن لا ينفك من جهة أخرى عن إنتاج أشكال متمادية من النرجسيات، ناجمة عن التوحش الرأسمالي واستشراء العنف وتفاقم البطالة والفقر، في سائر بلدان العالم وأصقاعه. وهو أمر لا تنحصر آثاره وتبعاته في المصابين بهذه الآفة وحدهم، بل إن المقيمين مع الأشخاص النرجسيين، من الأزواج والزوجات وأفراد العائلة والأصدقاء، هم الذين يدفعون أبهظ الأثمان وأكثرها كلفة وفداحة.
تحرص بيهاري، في إطار السؤال الذي تطرحه على نفسها «ما هو النرجسي؟»، أن تنظر في أصل التسمية نفسها، فتعود إلى التذكير بأن كلمة النرجسية مأخوذة من قصة نرسيس، ومعادلها العربي نرجس، الذي حكمت عليه الآلهة في الميثولوجيا اليونانية، بالوقوع إلى الأبد في حب صورته المنعكسة على سطح بحيرة جبلية. وكان ذلك عقاباً له على رفضه حب إيكو، حورية الجبل الشابة. ونظراً لأن نرجس لم يكن ليظفر إلا بانعكاس الصورة، من دون القدرة على امتلاكها، فقد غرق في العزلة التامة إلى حد التحول في نهاية المطاف إلى زهرة جميلة.
على أن بيهاري، وهي الاختصاصية في علم النفس السريري والعلاج الإدراكي، لا تتأخر في استتباع التعريف بالقول إن الدرس الأخلاقي الذي تهدف هذه الأسطورة المأساوية إلى تعليمنا إياه، مفاده أن الجمال الحقيقي والجاذبية المحببة يبدآن عندما ينتهي حب الذات المسرف والمفرط. فالنرجسيون، وفق المؤلفة، ينغمسون إلى أبعد الحدود في حب ذواتهم، وينشغلون بالحاجة إلى بلوغ الصورة المثالية التي ينتزعون من خلالها تقدير الآخرين، وصولاً إلى إثارة غيرتهم وحسدهم. لكنهم في المقابل لا يُظهرون أي اهتمام بهؤلاء الآخرين ولا يتفهمون حاجاتهم، أو ربما يعجزون لفرط افتتانهم بأنفسهم عن رؤيتهم وتحسس آلامهم. ولعل أفضل تعبير عن الاستغراق في الذات، أو عن علاقة النرجسي بمحيطه، هو وصف الشاعر العباسي ابن حمديس لأحدهم بالقول...
كأنما العالم مرآتُهُ فلا يرى فيها سوى شخصهِ
ولأن النرجسي، وفق المؤلفة، لا يسمع أي صوت سوى صوته الشخصي، فإنه حين يدخل في جدال لا يهتم بما يقوله الآخر، محصناً نفسه ضد ما يمكن أن يحمله على الاقتناع والتسليم بالحجج الدامغة لمنافسه، وهو بالتالي لا يفعل شيئاً سوى انتظار دوره في النقاش؛ حيث ينبغي لآرائه ووجهات نظره أن تكون حاسمة ويقينية وطاردة للشكوك. وفي تلخيص مكثف لتجاربها العيادية مع النرجسيين، تذهب بيهاري إلى القول إن هؤلاء لا يعترفون على الإطلاق بمشكلتهم، ولا يتقبلون فكرة الاستعانة باختصاصي أو طبيب معالج، بل إنهم يظنون أنهم «قادرون على سحب البساط من تحتك بلمح البصر، مثيرين فيك شعوراً بالقلق أو الرغبة بالبكاء أو الملل أو الاشمئزاز». وهي إذ تحرص على نقل كتابها من إطاره النظري البحت إلى إطار عملي وتفاعلي مع القراء، تختار لهؤلاء قائمة من الأعراض المتصلة بمواصفات الأشخاص النرجسيين وسلوكياتهم، طالبة منهم مقارنتها مع سلوكيات الأشخاص الذين يشاطرونهم المنزل أو العلاقة أو مكان العمل، بغية البحث عن الحلول الملائمة لهذه المعضلة، ودرجة مقبوليتها أو استفحالها. وفي هذه القائمة تحضر مواصفات متباينة، كالتنمر، والمكابرة، والتسلط، والغرور، والقسوة، وتبلد المشاعر، وازدراء الآخر، والتشكيك بنواياه، والتصرفات المتناقضة، واستدراج المديح، والإدمان على ارتكاب الأخطاء.
وفي إطار بحثها عن الأسباب المكونة للشخصية النرجسية، تعرض بيهاري للنظريات المتعلقة بهذه النزعة، ومن بينها نظرية الطفل المدلل، وهو الذي يتربى على أبوين يكرران على مسامعه فكرة التفوق على الآخرين، والتمتع بامتيازات خاصة لا تتاح لسواه. وفي منزل كهذا قلما نجد قيوداً على الطفل أو عواقب متناسبة مع حماقاته وأخطائه. وهو ما يدفعه فيما بعد إلى أن يصوغ بنفسه قوانينه وأعرافه الخاصة. وتشير نظرية أخرى إلى الطفل الاتكالي الذي يعمد ذووه إلى إعفائه من جميع مهماته والنيابة عنه في كل شيء، بدلاً من تشجيعه على تطوير مهاراته بنفسه.
الأمر الذي يُفقده الإحساس بالكفاءة الشخصية ومنحه شعوراً بالتبعية والعجز. وهو ما يعطي لنرجسيته طابع التعويض الرمزي عن عقد النقص وخيبات الأمل. أما النظرية الأكثر شيوعاً في هذا الشأن فهي نظرية الطفل الوحيد والمحروم، وبخاصة ذلك الذي ينشأ في جو من الحب المشروط؛ حيث يغرس أبواه في داخله أن حبهما له مرهون بقدرته على التفوق والنجاح، وأنه من غير ذلك لن يُمنح سوى التجاهل والازدراء. الأمر الذي يخلق لدى الطفل في وقت لاحق شعوراً بالثأر لحرمانه العاطفي، سواء عبر المكابرة والتفرد بالرأي، تحت شعار «أنا لست بحاجة لأحد»، أو عبر استجماع ما يتسنى له من دفاعات لإخماد الألم المرتبط بما يحصل في حياته.
يسعى الشخص النرجسي، من جهة أخرى، إلى احتلال المركز الأول في سياق المنافسة مع الآخرين. كما يعمل أغلب الأحيان على تسويق نفسه كشخص مستقيم وكفؤ ومؤهل للفوز في السباقات التي يخوضها، أو المهام المسندة إليه. ولكنه يكف عن الإصغاء حين يحين دورك في الكلام. وهو يختفي أو «يتبخر» بشكل مفاجئ حين تحتاجه، أو تبوح أمامه بمعاناتك وحاجاتك، مختلقاً أعذاراً واهية لا تنطلي على أحد.
كما يُخفي النرجسي انعدام شعوره بالأمان، كي لا يتمكن أحد من أذيته أو تخييب أمله، بحيث يؤدي ذلك إلى تفويته كثيراً من الفرص الممتعة، كالمآدب والحفلات وأعياد الميلاد، وما سوى ذلك. على أن الأقنعة المختلفة التي يستخدمها تسهم في استدامة المشاعر التي يحاول إخفاءها. فهو في سعيه لتجنب الإحساس بالسماجة، على سبيل المثال، يبالغ عبر خطبة عصماء في شكواه من الملل الذي يعانيه، بما يجعله يبدو أمام مجالسيه بغيضاً ومملاً، وشديد السماجة في الآن ذاته!
وإذ تشير بيهاري إلى أن الإصابة بالنرجسية لا تقتصر على الرجال وحدهم، بل تشمل الجنسين معاً، فإن منسوبها لدى الرجال يفوق بمرتين مثيله عند النساء. وغالباً ما تلجأ المرأة النرجسية إلى التذمر والشكوى من كل شيء، معتبرة نفسها معينة الجميع، التي لا تجد من يعينها أو يقدّر تضحياتها. وبوصفها «شهيدة» دائماً، فهي لا تسمح لمن تحبه أو تشاطره الحياة بأن يخالفها الرأي. ولو حدث ذلك فهي تعمد إلى العبوس، والنحيب، أو التهديد بالهجر، أو إيذاء نفسها على طريقة شمشون، تحت شعار «عليّ وعلى أعدائي يا رب». ولا يفوت المؤلفة أن تذكّر بأن النساء النرجسيات يركزن على مظهرهن الخارجي أكثر من الرجال، ويتباهين بمؤهلاتهن الجسدية التي يسهم وقوفهن الطويل أمام المرآة في صقلها وتنميتها. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي تغذي لديهن هذا النزوع، وتفاقمه بشكل مطرد.
ومع أن الشفاء الكامل من «الآفة»، التي يزيدها عصرنا الراهن تفاقماً وشيوعاً، هو أمر مستبعد تماماً، فإن المؤلفة تضع مقترحات وخرائط طرق عدة، للتخفيف من حدتها لدى المصابين بها، ومن وطأتها على الذين يشاطرون النرجسيين العمل أو المسكن أو الحياة.ومن بينها العلاج الإدراكي الذي يقوم على سبر أغوار النواحي المعقدة في نظم المعتقدات العاطفية والعقلية للمصابين، التي يقوم الشخص النرجسي خلالها بتطوير ذخيرة من الأفكار والتوقعات، مستبدلاً الأفكار المحرفة المغروسة في عقله، بأخرى متوازنة وأكثر نجاعة وصوابية. إضافة إلى العلاج التخطيطي الذي أسّسه جيفري يونغ صاحب كتاب «إعادة اختراع الحياة»، الذي اقترح 18 مخططاً من سوء التكيف الاجتماعي، ومما يسميه «مصائد الحياة» التي تدخل في إطارها مشكلات القلق والخنوع والكبت وسوء الظن والشعور بالنقص أو بالعظمة والحرمان العاطفي، منوهاً بأن المعالجة تتطلب كثيراً من الصبر والتروي والمتابعة الدؤوبة وإظهار التعاطف، بعيداً عن تقريع المصاب أو إبداء الضيق منه واليأس من شفائه.
ويندي بيهاري لا تتوانى في نهاية الأمر عن الإقرار بأن ثمة حالات نرجسية يتعذر إصلاحها، وأن ثمة حالات أخرى يتعرض فيها المقيمون مع النرجسيين إلى كثير من المخاطر النفسية والجسدية. وهي لا تجد غضاضة تبعاً لذلك، في حثّ هؤلاء على الفرار من واقعهم المأساوي، والبحث عن سبل للنجاة وسوانح بديلة للعيش، قبل فوات الأوان.


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم