العلم... بهجة لا تنتهي

إنه وسيلتنا المختبرة في معرفة أصل الكون والحياة والوعي

صورة من موقع جامعة «ساري» لجيم الخليلي
صورة من موقع جامعة «ساري» لجيم الخليلي
TT

العلم... بهجة لا تنتهي

صورة من موقع جامعة «ساري» لجيم الخليلي
صورة من موقع جامعة «ساري» لجيم الخليلي

أظنُّ أنّ أغلبنا ممن عاش طفولته وشبابه اليافع في ستينات وسبعينات القرن العشرين لم يزل يتذكّرُ ذلك المسلسل الفاتن (ستار تريك Star Trek) بنسخته الأولى غير الملوّنة وشخوصه المميزين الذين كانوا في عصر براءتنا الطفولية أقرب إلى نسخ حية من الأبطال الملحميين. كانت مقدّمة المسلسل مبهرة بموسيقاها التي نقلت لنا الإحساس بالكون البعيد الذي نعرف أننا ربما لن نبلغه يوماً ما. كم كانت بهجتنا تتصاعد مع تعاظم الدفق الموسيقي المشحون بالإثارة عندما يقول الصوت البشري: «هذه هي رحلات سفينة الفضاء إنتربرايس... التي تسعى لاكتشاف عوالم جديدة... والبحث عن أنواع جديدة من الحياة... والذهاب بشجاعة إلى حيث لم يذهب إنسانٌ من قبلُ!!».
إنّ مهمّة سفينة الفضاء (إنتربرايس) هي ذاتها مهمة العلم: الذهابُ إلى حيث لم يذهب إنسانٌ من قبلُ. هي مهمّة اختراق عوالم جديدة وتوظيف نتائج تلك المهمة لصالح النوع البشري. إنها مهمّة لانهائية، وهذا المسعى اللانهائي هو ما يمنحُ العلم ذلك القدر اللانهائي أيضاً على حثّ مكامن الدهشة والبهجة في أرواحنا وعقولنا.
وبات من الواضح أنّ فترة الإغلاق الإجباري عامَي 2020 و2021 جاءت هدية كبرى للبعض منّا لكي يتمكّنوا من إكمال مشاريعهم المنتظرة، ومن هذه المشاريع كتابة كتبٍ لطالما قاتلوا في سبيل انتزاع الوقت المطلوب لكتابتها. أحدُ هؤلاء هو الفيزيائي والفيلسوف العلمي والباحث في تاريخ العلم جيم الخليلي، عراقي المولد وبريطاني الجنسية، الذي صار أحد أقطاب تبسيط العلم ونشر المعرفة العلمية على مستوى العالم عبر كتبه ووثائقياته وحواراته الكثيرة فضلاً عن برنامجه ذائع الصيت «LifeScientific» الذي تبثه قناة «بي بي سي».

كنتُ قد عرضتُ سابقاً في «الشرق الأوسط» قراءة في كتابه «العالم كما تفهمه الفيزياء» الصادر عام 2020 عن دار نشر جامعة «برينستون» الأميركية، ويمكن للقارئ الشغوف مراجعة تلك المادة لكي يتعرّف أكثر على شخصية الخليلي ومؤلفاته.
يواصلُ الخليلي جهوده التأليفية الحثيثة، وكان من نتائج تلك الجهود أن نشرت له جامعة «برينستون» قبل بضعة أسابيع (بالتحديد يوم 12 أبريل «نيسان» 2022) كتابه الأحدث الذي اختار له عنوان (بهجة العلم The Joy of Science).
ينتمي الكتاب إلى فئة الكتب التي تُعنى بالفلسفة العلمية، وإذا ما شئنا الدقة فإنه ينتمي إلى فئة الكتب التي تُعنى بفلسفة المنهج العلمي؛ لكنْ لا ينبغي أن يذهب المرء بعيداً في التصوّر بأنّ الخليلي يكتب بطريقة (فلاسفة العلم) المعروفة. يعتمدُ الخليلي مقاربة تبسيطية في الكتابة رغم رصانتها الفائقة، وهو يسعى للإجابة عن سؤال مركزي واحد: لماذا صار العلم وسيلتنا الوحيدة في معرفة واستكشاف طبيعة الواقع (بمعنى العالم المادي) الذي نعيش فيه؟ ولماذا صار العلم أداتنا المعتمدة في البحث عن الأصول الثلاثة الكبرى: الكون والحياة والوعي؟
يبدأ الخليلي كتابه بتقديم مقتضب، تليه مقدمة على قدر غير يسير من الإسهاب الممتع، ثم يأتي متن الكتاب الذي يتوزّعُ على فصول ثمانية يتناول الخليلي في كلّ منها موضوعاً ينتمي إلى ميدان المنهجية العلمية. سيلاحظ القارئ أنّ عناوين الفصول لم تأتِ بالشكل التقليدي الذي اعتدناه، بل ارتأى الكاتب أن يجعلها بصيغة سؤال أو عبارة تقريرية تنطوي على شيء من الحس الدرامي.
من الموضوعات الخاصة بفلسفة المنهج العلمي التي يتناولها الخليلي في كتابه هذا: مسألة العلم الحقيقي والعلم الزائف، وظاهرة التعقيد في العلم، والأحجيات والألغاز، والفهم البشري والمحاولة الحثيثة لمقاربة الحقيقة، والرأي الشخصي في مقابل الشواهد التجريبية، وضرورة معرفة انحيازاتنا الشخصية قبل محاكمة آراء الآخرين، وضرورة عدم الخوف من تغيير آرائنا المسبقة، وأن نجعل البحث عن طبيعة (الواقع) الحقيقية فضيلتنا الكبرى في العلم. لعلّ القارئ سيلحظُ أنّ هذه العناوين تنطوي على شيء من أخلاقيات البحث العلمي، وليس هذا بغريب؛ فالبحث العلمي الحقيقي أحد العناصر التي تشحذ الأخلاقيات البشرية وتُعلي مناسيب العقلنة والحياد والرؤية الموضوعية والتفلّت من أَسْر القيود الذاتية المسبقة المفروضة على الفرد. يختم الخليلي كتابه هذا برؤية استنتاجية، يعقبها مسردٌ لشرح بعض المفردات الواردة في متن الكتاب، ثمّ يقدّمُ لنا لائحة مطوّلة (كعادته في كتبه الأخرى) ببيبلوغرافيا توثيقية وقراءات إضافية موسّعة.
ربما يكون مسلسل «ستار تريك» هو الدافع لأن يختار شباب كثيرون في العالم العلم مهنة مستقبلية لهم، وقد تكون قراءة بعض الكتب الملهمة هي الدافع لدى آخرين مثلما حصل مع الخليلي الذي يكتب في العبارات الاستهلالية من تقديمه للكتاب: «عندما كنتُ طالباً شاباً في منتصف ثمانينات القرن الماضي قرأتُ كتاباً عنوانه (في الإقرار بالعرفان للدهشة To Acknowledge the Wonder) الذي كتبه الفيزيائي البريطاني إيوان سكوايرز. تناول الكتاب أحدث الأفكار المعروفة –آنذاك- في الفيزياء الأساسية، ولم أزل أحتفظ بنسخة من ذلك الكتاب على أحد الرفوف في مكتبتي بعد ما يقاربُ العقود الأربعة من ذلك التاريخ. صحيحٌ أنّ بعض المواد في ذلك الكتاب قد تقادمت في يومنا هذا؛ لكني لم أزل أعشقُ عنوان الكتاب. عندما كنتُ في تلك السنوات البعيدة أتطلّعُ لمهنة في الفيزياء كانت فرصة معرفتي بالدهشة التي يقدمها لنا العلم هي ما ألهمني حقاً لتكريس كلّ حياتي اللاحقة للعلم...».
أتساءل دوماً إلى حد بات معه هذا التساؤل هاجساً ملحّاً لي مثلما يجب أن يكون لكلّ صانعي السياسات التعليمية والقيمين على شؤون التعليم (ما قبل الجامعي والجامعي): لماذا يخفتُ عند شبابنا ذلك الشغف الطاغي بالعلم وهُمْ في مقتبل أعمارهم؟ ربما تكون الأسباب الثلاثة التالية مفاتيح لفهم هذه الظاهرة التي يتوجب أن تكون ميداناً لدراسات معمّقة:
السبب الأول- ضبابية صورة العالم في حياتنا اليومية. العقبة الأولى تكمنُ في أنّ العلماء يفتقدون كونهم صوراً مرئية حقيقية أمام الآخرين. إذا كان معظم الناس لا يعرفون عالماً حقيقياً (بلحمه ودمه كما يقالُ في الأمثال المتداولة)، وإذا كانت مرجعياتهم الثقافية عن العلماء هي ما يرونه في الأفلام والعروض التلفازية فسيكون من العسير على هؤلاء الناس أن يتطلعوا لمهنة في الحقل العلمي في المستقبل.
يمثلُ العلمُ الخلفية التي تتأسسُ عليها حياتنا اليومية. قد يبدو العلمُ معظم الوقت خبيئاً عن أنظارنا وبعيداً عن حاجاتنا اليومية ولا نتعامل معه إلا لماماً عندما نسمعُ –على سبيل المثال– بشأن مذنّب يقترب من الأرض، أو عندما نتطعّمُ بنوع جديد من اللقاحات؛ لكننا في الغالب لا نعرفُ شيئاً عن العالِم الذي اكتشف ذلك المذنّب مثلما لا نعرف شيئاً عن الفريق البحثي الذي طوّر ذلك اللقاح. كيف السبيلُ إلى حلّ هذه العقبة؟ أرى أنّ الحلّ يكمنُ في تكريس الصفة الحقيقية للعلماء؛ أي بمعنى زيادة مساحة الزمن الذي يظهر فيه العلماء أناساً حقيقيين يهتمون بأمر معضلاتنا البشرية وليسوا محض كائنات مريخية أو خرافية تهتم بشؤونها الخاصة البعيدة عن المجال العام.
السبب الثاني- الصور النمطية (Stereotypes) التي تتمثلُ في تأكيد صورة نمطية للعالِم بكونه «المجتهد المهووس بالعمل Nerd» الذي يبدو منعزلاً عن معرفة السياقات الاجتماعية السائدة والأعراف السلوكية المعتمدة. الخصيصة النمطية هنا ذات ميزات معروفة: العلماء ذوو شعر أشعث ولا أصدقاء لهم سوى أشخاصٍ بذات صفاتهم، وهم منسحبون اجتماعياً ويُبدون نمطاً من الجبن والتخاذل في المواقف التي تتطلبُ تفاعلاً اجتماعياً مؤثراً، وإنهم ما صاروا علماء إلا ليكون لهم العلم مهرباً يختفون فيه من عبء مواجهة الواقع ومتطلبات الحياة الحقيقية.
لا أظنُّ ثمة ما هو أسوأ من التعميمات التي تتقنّعُ في شكل بائس من التوصيفات الاختزالية الجامعة؛ فالمجتمع العلمي له من الخصائص المتباينة والمتعاكسة مثل تلك التي نشهدها عند أي مجتمع آخر من المهنيين (الأطباء والمهندسون والاقتصاديون وعلماء الاجتماع مثلاً).
السبب الثالث- ضغوط العوامل القاتلة للشغف العلمي: الطريق لأي مهنة علمية طريق طويل تكتنفه مصاعب شتى؛ لذا كان الشغف عنصراً أساسياً في هذه المهنة. من غير الشغف، ومع تزايد وعورة الطريق سيفقد المرء حماسته وستضيع بوصلته. إذا أراد أحدنا أن يكون عالماً سيحتاجُ بالتأكيد لإكمال دراساته العليا ثم يتوجب عليه أن يتبعها بدراسات ما بعد الدكتوراه، وعليه أن يتوقع قدراً من المداخيل المالية أقلّ مما يكسبه محلّل نظم حاسوبية أو سمسار أوراق مالية في البورصة أو مهندس في أي حقل هندسي. سيكون شاقاً على المرء في بعض الأحايين أن يمضي حثيثاً في تحقيق أحلامه والإبقاء على شعلة تطلعاته حية متوهجة بفعل ضغوط شتى؛ لكن لا بد من تدريب النفس على مواجهة مثل هذه الضغوط، فهو يعرف أنّ بوسعه إحداثَ فرقٍ في هذا العالم، وهو ليس من هؤلاء الذين لا يعنيهم شيء سوى الحصول على مرتّب مالي كبير نهاية كلّ شهر.



أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش
TT

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش

حصل الكاتب الهندي أميتاف غوش، يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، على جائزة إراسموس لعام 2024 ومبلغ نقدي قدره 150 ألف يورو، لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين «لعنة جوزة الطيب» و«الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون»، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن «لعنة جوزة الطيب»: «ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون؟». هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه «لعنة جوزة الطيب». علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان: «ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير».

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن «ثروة بيل غيتس» وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا «دولة المخدرات الأولى». ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة أول «كارتل عالمي للمخدرات».

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: «لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك».

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، «علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال».