مقهى «ريش» بالقاهرة.. تاريخ ترويه فناجين القهوة ومستقبل مجهول

كلمات وأبيات شعرية ولدت على طاولاته.. سمعتها الجدران ولا تزال ترددها.. استعانت بها على أفعال الزمن.. حفرت منها حكايات ورحلات كفاح لمثقفين مصريين وعرب وكتبت شهادات ميلادهم في عالم الأدب ووقعت عقود نشر وعقدت ندوات وصالونات. إنه مقهى «ريش» الذي كان غاية الموهوبين من الأدباء، رغبة منهم في لقاء النخبة المثقفة على مدار القرن الماضي، لكنه حاليا مغلق ويواجه مصيرًا يلفه الغموض عقب وفاة مالكه المصري مجدي عبد الملاك. للمقهى وريث وحيد يعيش حاليا في أميركا، وفور وفاة المالك اجتمع الأدباء والمثقفون المصريون الذين يرتكنون إلى «ريش» كلما حاولوا تلمس نفحات الوحي واستلهام لحظات لم يطمسها الزمن، وهم في حالة تضامن لم تحدث من قبل! إذ يساورهم قلق بالغ إزاء مصير المقهى.
وما بين مطالبات بضمه لوزارة الثقافة، وحملات لتسجيله كمبنى تراثي، خصوصًا وأنه تجاوز 100 عام، ومشاورات لتكوين مجلس أمناء لإدارة المقهى لكي لا يتحول إلى أحد فروع سلسلة مطاعم ومقاه عالمية، لا أحد يعلم مصير «ريش» لكن ما سيؤول إليه حال المقهى الذي خلدته أهم الأعمال الأدبية؛ سيكون بمثابة ورقة اختبار لما سيؤول إليه حال التراث الثقافي المصري الذي عاني من إهمال وتطاول ومحاولات تشويه كثيرة.
ويكمن القلق في كون مقهى «ريش» خاضعًا لقانون الإيجارات القديم في مصر، الذي ينص على عدم جواز عقد الإيجار إلا للوريث الأول، مما يشكل عائقا أمام توريثه لأجيال من أسرة الملاك المصريين، مما يؤشر بأن تصبح ملكيته لشركة الإسماعيلية المالكة للعقار الذي تقبع أسفله ريش هو أيضا أيقونة معمارية فريدة، فهو مشيد على أطلال أحد أمراء أسرة محمد علي باشا، وبني العقار الحالي عام 1908 على يد المليونير اليهودي السكندري «إبرام عاداة»، الذي كان يمتلك عقارات كثيرة في وسط القاهرة والإسكندرية، وقد اشترت عقار «ريش» شركة الإسماعيلية عام 2008، التي أكدت في أكثر من تصريح أنها ترغب في الحفاظ على هوية المقهى وطرازه المعماري لما يمثله من قيمة تاريخية واستمرار نشاطه كما كان على مدار القرن الماضي.
من جانبها، سعت الشاعرة والروائية الإماراتية ميسون صقر مؤخرًا للحفاظ على تراث المقهى ورقمنة كل ما فيه من وثائق وصور لتدشين موقع إلكتروني يليق بالمقهى العريق وتاريخه وأهميته، لكن حال مرض صاحب المقهى دون إطلاق الموقع.
بدأت حكاية «ريش» كمقهى مع الثري النمساوي «بيرنارد ستينبرج» في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1914، ومنذ تأسيسه سحب «ريش» البساط من المقاهي الأخرى في وسط القاهرة بديكوراته الخشبية المستلهمة من أجواء الريف الأوروبي. لكن بعد عام واحد اشتراه الفرنسي هنري ريسن، وأطلق عليه عام 1915 «ريش كافيه» تيمنًا بالمقهى الباريسي الشهير. لكن أثناء الحرب العالمية الأولى استدعي «ريسن» للخدمة العسكرية فاضطر لبيعه لليوناني «ميشيل بوليتسي» سنة 1916. ثم آلت ملكيته سنة 1932 لليوناني مانولاكس، وبعدها بعشر سنوات باعه لليوناني جورج إيفتانوس وسيلي، وكان ذلك عام 1942، وفي عام 1960 باعه وسيلي لموظف سكة حديد من الصعيد هو عبد الملاك ميخائيل ليصبح هو أول مالك مصري للمقهى.
تميز المقهى بطابع كلاسيكي هادئ يأخذك بعيدا عن وسط القاهرة الصاخب، لترحب بك صور عظماء المفكرين والفنانين الذين احتضنتهم جدرانه يوما، ما بين أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب، وروزاليوسف وتغريك الكتب القديمة وأحدث الإصدارات بالتهامها مع مشروبك المفضل وسط قطع أنتيكات أعطت للمكان رونقا خاصا.
هنا ارتشف القهوة نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، ونجيب سرور، وكمال الملاخ، وأحمد فؤاد نجم، وعبده جبير وسليمان فياض، وسيد حجاب، وعبد الرحمن الأبنودي، وبهاء طاهر، وإبراهيم عبد المجيد، وغيرهم من الناشرين والفنانين التشكيليين والصحافيين، ممن كانوا يحرصون على حضور ندوات نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها بالمقهى عصر يوم الجمعة منذ عام 1963. وحظي المقهى بأنه شهد مولد كوكب الشرق أم كلثوم، حينما تغنت به، مثلما غنى به صالح عبد الحي، وزكي مراد والد «ليلى مراد»، وقدمت على خشبته روزاليوسف أحد مسرحياتها.
وشهد مقهى «ريش» مولد الكثير من المجلات الثقافية، منها: «الكاتب المصري» التي رأس تحريرها طه حسين ومجلة «الثقافة الجديدة» و«جاليري 68»، وغيرها. وكان من رواد المقهى الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، والرئيس جمال عبد الناصر، والرئيس السادات والرئيس محمد نجيب قبل ثورة يوليو (تموز) 1952. وقد شهد الكثير من التجمعات السياسية وارتبطت شهرته أيضا بأنه كان مسرحا لعملية اغتيال رئيس وزراء مصر يوسف وهبة بك عام 1919.
عرف «ريش» بأنه قبلة أهل الفن والأدب لكنه فقد بريقه بعد أن انتقلت ندوة نجيب محفوظ إلى مقهى آخر في وسط القاهرة، وهو مشهور بأنه مقر للاشتراكيين واليساريين والشيوعيين، ومؤخرا الثوار في أيام ثورة 25 يناير (كانون الثاني).
ليست هذه المرة الأولى التي يغلق فيها «ريش»، فقد أغلق عقب خروج مظاهرة للأدباء عقب اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني. وأغلق مرة أخرى بعدما خرجت منه مظاهرة بقيادة يوسف إدريس، وإبراهيم منصور احتجاجا على معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل عام 1978. أعيد افتتاحه بعد ذلك بسنوات، ثم أغلق للمرة الثالثة لأسباب غير معروفة. وفي نهاية التسعينات أعاد صاحب المقهى الراحل مؤخرا، ترميمه وافتتاحه بعد أن أغلق لمدة 15 عاما، وأثناء التجديدات اكتشف ممرا سريا أسفل المقهى كان يستخدمه الثوار عام 1919 للهروب من قوات الاحتلال الإنجليزي ووجدت به مطبعة عتيقة وعدة منشورات.
لكن مع عودة «ريش» للمرة الثالثة في بداية الألفية ابتعد عدد من المثقفين عن «ريش» من الذين ضاقوا وملوا من المعاملة الخشنة لصاحب المكان وبعض العاملين فيه الذين كانوا يتعاملون بانتقائية تجاه الزبائن في محاولة منهم لإضفاء طابع أرستقراطي زائل عن وسط القاهرة منذ عقود.
ورغم كل شيء؛ سيظل مجدي عبد الملاك حالة نادرة بين المصريين الذين امتلكوا مقاهي أو مطاعم لها تاريخ وحافظوا عليها وعلى العاملين فيها، فالعاملون بالمقهى وأشهرهم كان رجلا نوبيا مسنا يدعى محمد حسين صادق الشهير بـ«عم فلفل» يحملون معهم تراثا شفاهيا مميزا لا يجب التفريط فيه، خصوصا وأن غالبية المقاهي التاريخية ذات الطراز المميز تحولت لمطاعم شعبية وتلاشت هويتها وتاريخها وتناثر ما تحمله من حكايات. لقد أغلق «ريش» منذ عدة أيام كما أغلق على مدار 107 أعوام عدة مرات وتلك هي «المرة الرابعة» التي توصد فيها أبوابه، فهل يصمد ويعود للحياة مرة أخرى؟.