كيف غير البشر المشهد الصوتي للمحيط؟

باحثو «كاوست» يقدمون مقترحات للحد من خطر الضوضاء على الحياة البحرية

هدير محركات القوارب ينتقل إلى مسافات بعيدة في أعماق المياه
هدير محركات القوارب ينتقل إلى مسافات بعيدة في أعماق المياه
TT

كيف غير البشر المشهد الصوتي للمحيط؟

هدير محركات القوارب ينتقل إلى مسافات بعيدة في أعماق المياه
هدير محركات القوارب ينتقل إلى مسافات بعيدة في أعماق المياه

«لقد غير البشر المشهد الصوتي للمحيط؛ إذ أدى سلوكهم إلى إسكات الصوت المتميز للكائنات البحرية التي تستخدمه للتفاعل مع بيئتها، مما يستدعي معه دق ناقوس الخطر». هكذا لخص البروفسور كارلوس دوارتي، أستاذ العلوم البحرية المتميز في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) وفريقه البحثي المشهد بعد توثيق أدلة قاطعة في أكثر من 10000 ورقة بحثية تشرح تأثير الضوضاء البشرية على الحيوانات والنظم البيئية البحرية حول العالم ابتداء من اللافقاريات وصولا للحيتان، وعبر دراسة مستويات متعددة من السلوك إلى علم وظائف الأعضاء، واستخلاص نتائج أكثر الدراسات الكمية صرامة حول مدى هذا التأثير.
نعلم أن المحيطات تغطي ثلثي مساحة كوكب الأرض، وتعد عنصراً متكاملاً وأساسياً في النظام البيئي وذات أهمية بالغة بالنسبة للتنمية المستدامة. إلا أنها تواجه اليوم تحديات وأخطاراً كبيرة من صنع الإنسان تؤثر على التنوع البيولوجي البحري والساحلي، بما فيها ابيضاض المرجان وتحمض المحيطات ومصايد الأسماك والضوضاء تحت الماء، إضافة إلى الاحترار العالمي.
وحسب أبحاث العلماء وتقارير الأمم المتحدة فإن محيطاتنا تسير في تدهور متسارع ينذر بالخطر بسبب الأنشطة البشرية التي تؤثر على قابلية الموائل البحرية للبقاء على نوعية المياه ودرجة حرارتها، وصحة الحياة البحرية، واستمرار توافر المأكولات البحرية. وهذا بدوره يؤثر على القضاء على الفقر، والنمو الاقتصادي، وسبل العيش المستدامة والعمالة، والأمن الغذائي العالمي، وصحة الإنسان، وتنظيم المناخ.

أهمية الصوت للأحياء
يعد الصوت مهما جدا للعديد من الحيوانات البحرية، ويلعب دورا رئيسيا في الاتصال والملاحة والتوجيه والتغذية والكشف عن الأنواع المفترسة. وقد أشار تقرير صدر عن الأمم المتحدة في عام 2012 إلى أن الضوضاء التي يحدثها الإنسان في البيئة البحرية قد زادت بشكل كبير على مدار آخر 100 سنة تقريبا نظرا لزيادة استعمال البشر للمحيطات، وتنوع هذه الاستعمالات.
وأشار التقرير إلى أن الخواص المميزة للصوت تحت الماء وقيود الحواس الأخرى مثل الرؤية واللمس والتذوق والشم في البيئة البحرية من حيث مدى إرسال الإشارات وسرعتها تعني أن الصوت هو وسيط الاستشعار المفضل لنسبة كبيرة من الحيوانات البحرية. وتعتمد معظم الفقاريات البحرية تقريبا إلى حد ما على الصوت لأداء مجموعة واسعة من الوظائف البيولوجية. وتستعمل الثدييات البحرية الصوت كوسيلة أولية للاتصال والاستشعار تحت الماء، ذلك أنها ترسل أصواتا للاتصال حول وجود خطر أو غذاء أو حيوان من نفس النوع أو من نوع آخر وأيضا للإشارة إلى موقعها وهويتها وحالتها الإنجابية أو إقليمها. ويعتمد العديد من الأنواع البحرية الأخرى على الصوت بشكل منتظم بما في ذلك أسماك العظميات واللافقاريات.
وتستعمل الأسماك الصوت للملاحة واختيار الموائل والتزاوج وتجنب الأنواع المفترسة والكشف عن الفرائس والاتصال. ويمكن أن تؤدي إعاقة قدرة الأسماك على سمع الأصوات المهمة بيولوجيا إلى التداخل مع هذه الوظائف الحاسمة.

ضوضاء المحيطات
ومنذ الثورة الصناعية أسهم البشر في جعل الكوكب، والمحيطات على وجه الخصوص، أكثر ضوضاءً؛ بسبب: سفن الشحن، والاستعمال العسكري، والمسوحات الزلزالية التي تنقب عن النفط والغاز، ورسم خرائط السونار لقاع المحيط، والبناء على السواحل، وكذلك مزارع الرياح.
ويمكن للاحترار العالمي أن يضفي مزيداً من التغير على «المشهد الصوتي للمحيطات»؛ حيث يفتح ذوبان القطب الشمالي المزيد من طرق الشحن، وكذلك يؤدي إلى تغير أنماط الرياح وهطول الأمطار.
غير أن مجال تغيير المشهد الصوتي للمحيطات لم يأخذ نصيبه من الاهتمام العالمي من حيث الدراسة والبحث والتوثيق، رغم دعوات الأمم المتحدة المتكررة إلى ضرورة رفع مستوى الجهود والإدارة، لتشجيع التوعية بالمسألة بصورة كبيرة، واتخاذ تدابير تقلل إلى أدنى حد آثار الضوضاء التي يحدثها الإنسان على التنوع البيولوجي البحري.
يقول دوارتي، وهو المؤلف الرئيسي للورقة البحثية عن المشهد الصوتي لمحيط الأنثروبوسين التي صُنفت باعتبارها الورقة العلمية الأكثر شعبية المنشورة في جميع المجالات، في شهر فبراير (شباط) 2021 إن «البحث يجري حول هذه القضية منذ ما يقرب من 50 عاماً، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تجميع جميع الأدلة المتناثرة وتقييمها بصورة منهجية».
ويعبر دوارتي عن اندهاشه من التناقض بين ثراء الأدلة والإهمال العام للمشكلة في المناقشات العلمية وعملية صنع السياسات.
ومن بين 538 ورقة تم اختيارها بعناية، كشفت 90 في المائة منها عن تأثيرات كبيرة للأصوات البشرية على الثدييات البحرية، بينما حدد 80 في المائة من التأثيرات التي تطال الأسماك واللافقاريات، مثل قنديل البحر. ويضيف دوارتي موضحاً «لا تزال هناك فجوة في فهمنا للتأثيرات على «الطيور الغواصة» التي تتميز بقدرتها على الغوص في أعماق المياه بحثا عن غذائها، و«السلاحف البحرية».
كما يعد النقل البحري مشكلة واسعة الانتشار، إذ ينتج عنه ضوضاء كبيرة تعيق تنقل الكائنات البحرية، وتمنعها من البحث عن الطعام والتواصل فيما بينها، كما تحد من قدرة الأسماك الصغيرة على تعلم تجنب الحيوانات المفترسة. وكان من المثير للقلق بشكل خاص تأثير الضوضاء على اليرقات التي تحاول الانتقال إلى الموائل المناسبة. ويوضح دوارتي: «إذا لم تستطع اليرقات الانتقال إلى موائلها، فمن المحتمل أن تموت جوعاً أو تؤكل».
وبسبب التلوث الضوضائي اضطر العديد من الكائنات البحرية للانتقال من موائلها الطبيعية، رغم أن الهروب ليس خياراً متاحاً دائماً، خاصة للأنواع التي تعيش في نطاقات المحددة، مثل «دلفين ماوي» المهدد بالانقراض والذي يعد أندر وأصغر الأنواع الفرعية المعروفة في العالم من الدلفين.

حلول علمية
في عام 2020 عندما فرض الإغلاق العالمي جراء جائحة «كوفيد - 19»، انخفضت مستويات الضوضاء الناتجة عن الشحن البحري بنسبة 20 في المائة، وفي هذه الأثناء شوهدت الدلافين وأسماك القرش، وهي تسبح في الممرات المائية التي كانت مزدحمة سابقاً. يقول دوارتي: «هذا دليل واعد على استجابة شبه فورية للحياة البحرية نتيجة التخفيف من آثار الضوضاء الناتجة عن الأنشطة البشرية».
وحسب دوارتي فإنه يُنظر للمحيط العميق المظلم على أنه نظام بيئي بعيد جداً، حتى من قبل علماء البحار، ولكنه نظام متصل صوتياً، ويتأثر بصورة كبيرة بمعظم الضوضاء البشرية التي تحدث على سطحه، حتى في أعماق تصل لـ1000 متر، ولا شك أن التخفيف من آثار الضوضاء الناتجة عن الأنشطة البشرية على الحياة البحرية هو مفتاح الحفاظ على المحيطات. ويتابع: «لقد حددنا في هذه الدراسة التي قادتها «كاوست» عدداً من الإجراءات السهلة والقابلة للتطبيق، للحد من ضجيج وضوضاء البشر على النظم البيئية في المحيطات، بهدف تعافي الحياة البحرية واستدامة المحيطات».
ويسلط الباحثون الضوء على عدة طرق لتخفيف الضوضاء، مثل: استخدام تقنيات نفاثة في تصميم السفن تقلل من الضوضاء والاهتزازات، تقليل سرعات الشحن، وتجهيز القوارب بمراوح أكثر هدوءاً، واستخدام توربينات الرياح العائمة. أما بالنسبة لأنشطة التجارب الزلزالية وعمليات الحفر والتنقيب تحت سطح البحر، يمثل نظام حاجز الفقاعات الهوائية تقنية واعدة تعتمد على نشر فقاعات هوائية حول منطقة العمل لتشكل حاجزاً منخفض التردد يعمل على خفض الصوت.
ويوضح دوارتي أن إدخال تعديلات وتحديثات على عُشر القوارب الأكثر ضوضاءً، مع تزويدها بمراوح أفضل، سيعود بفوائد واسعة النطاق. ومع ذلك، فإن النظم البيئية البحرية والتلوث الضوضائي قضية عابرة للحدود الدولية، مما يعني أن الحلول تتطلب اتفاقيات دولية ملزمة لاستعادة اقتصاد المحيطات المستدام.
تجدر الإشارة إلى أن البروفسور كارلوس دوارتي هو أستاذ متميز في علوم البحار. واعتباراً من أغسطس (آب) 2021 تم تصنيفه كأحد علماء الأحياء البحرية الرائدين على مستوى العالم استناداً لحجم اقتباسات المجلات العلمية من أبحاثه، وفقاً لتصنيف «سكوبس Scopus»، وهي قاعدة بيانات تحتوي على ملخصات ومراجع من مقالات منشورة في مجلات أكاديمية محكمة تصدرها دار Elsevier، الناشر المرموق للمجلات الأكاديمية.
كما تم تعيين دوارتي أيضاً في الأكاديمية الملكية الإسبانية للعلوم التي تأسست في عام 1847 لتعزيز التعاون بين العلماء، كمراسل أجنبي. وبصفته باحثا بحريا، اشتهر دوارتي بقدرته على العمل في أي مناخ، من البحار الاستوائية إلى المياه القطبية. كما يعمل عضوا في لجنة رفيعة المستوى لاقتصاد المحيط المستدام؛ وهي هيئة من 14 دولة مكلفة من الأمم المتحدة لوضع جدول أعمال للأنشطة المستدامة للمحيطات.



«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
TT

«مرايا» الذكاء الاصطناعي تعكس دواخلها «مع كل التحيزات»

«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها
«بوابة السحاب» مرآة تعكس الحياة وتشوهاتها

قبل بضع سنوات، وجدت شانون فالور نفسها أمام تمثال «بوابة السحاب (Cloud Gate)»، الضخم المُصمَّم على شكل قطرة زئبقية من تصميم أنيش كابور، في حديقة الألفية في شيكاغو. وبينما كانت تحدق في سطحه اللامع المرآتي، لاحظت شيئاً، كما كتب أليكس باستيرناك (*).

وتتذكر قائلة: «كنت أرى كيف أنه لا يعكس أشكال الأفراد فحسب، بل والحشود الكبيرة، وحتى الهياكل البشرية الأكبر مثل أفق شيكاغو... ولكن أيضاً كانت هذه الهياكل مشوَّهة؛ بعضها مُكبَّر، وبعضها الآخر منكمش أو ملتوٍ».

الفيلسوفة البريطانية شانون فالور

تشويهات التعلم الآلي

بالنسبة لفالور، أستاذة الفلسفة في جامعة أدنبره، كان هذا يذكِّرنا بالتعلم الآلي، «الذي يعكس الأنماط الموجودة في بياناتنا، ولكن بطرق ليست محايدة أو موضوعية أبداً»، كما تقول. أصبحت الاستعارة جزءاً شائعاً من محاضراتها، ومع ظهور نماذج اللغة الكبيرة (والأدوات الكثيرة للذكاء الاصطناعي التي تعمل بها)، اكتسبت مزيداً من القوة.

مرايا الذكاء الاصطناعي مثل البشر

تبدو «مرايا» الذكاء الاصطناعي مثلنا كثيراً؛ لأنها تعكس مدخلاتها وبيانات التدريب، مع كل التحيزات والخصائص التي يستلزمها ذلك. وبينما قد تنقل القياسات الأخرى للذكاء الاصطناعي شعوراً بالذكاء الحي، فإن «المرآة» تعبير أكثر ملاءمة، كما تقول فالور: «الذكاء الاصطناعي ليس واعياً، بل مجرد سطح مسطح خامل، يأسرنا بأوهامه المرحة بالعمق».

غلاف كتاب «مرايا الذكاء الاصطناعي»

النرجسية تبحث عن صورتها

كتابها الأخير «مرآة الذكاء الاصطناعي (The AI Mirror)»، هو نقد حاد وذكي يحطِّم عدداً من الأوهام السائدة التي لدينا حول الآلات «الذكية». يوجه بعض الاهتمام الثمين إلينا نحن البشر. في الحكايات عن لقاءاتنا المبكرة مع برامج الدردشة الآلية، تسمع أصداء نرجس، الصياد في الأساطير اليونانية الذي وقع في حب الوجه الجميل الذي رآه عندما نظر في بركة من الماء، معتقداً بأنه شخص آخر. تقول فالور، مثله، «إن إنسانيتنا مُعرَّضة للتضحية من أجل هذا الانعكاس».

تقول الفيلسوفة إنها ليست ضد الذكاء الاصطناعي، لكي نكون واضحين. وسواء بشكل فردي، أو بصفتها المديرة المشارِكة لمنظمة «BRAID»، غير الربحية في جميع أنحاء المملكة المتحدة المكرسة لدمج التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، قدَّمت فالور المشورة لشركات وادي السيليكون بشأن الذكاء الاصطناعي المسؤول.

نماذج «مسؤولة» ومختبرة

وهي ترى بعض القيمة في «نماذج الذكاء الاصطناعي المستهدفة بشكل ضيق والآمنة والمختبرة جيداً والمبررة أخلاقياً وبيئياً» لمعالجة المشكلات الصحية والبيئية الصعبة. ولكن بينما كانت تراقب صعود الخوارزميات، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى رفاق الذكاء الاصطناعي، تعترف بأن ارتباطها بالتكنولوجيا كان مؤخراً «أشبه بالوجود في علاقة تحوَّلت ببطء إلى علاقة سيئة. أنك لا تملك خيار الانفصال».

فضائل وقيم إنسانية

بالنسبة لفالور، إحدى الطرق للتنقل وإرشاد علاقاتنا المتزايدة عدم اليقين بالتكنولوجيا الرقمية، هي الاستفادة من فضائلنا وقيمنا، مثل العدالة والحكمة العملية. وتشير إلى أن الفضيلة لا تتعلق بمَن نحن، بل بما نفعله، وهذا جزء من «صراع» صنع الذات، بينما نختبر العالم، في علاقة مع أشخاص آخرين. من ناحية أخرى، قد تعكس أنظمة الذكاء الاصطناعي صورة للسلوك أو القيم البشرية، ولكن كما كتبت في كتابها، فإنها «لا تعرف عن التجربة الحية للتفكير والشعور أكثر مما تعرف مرايا غرف نومنا آلامنا وأوجاعنا الداخلية».

الخوارزميات والعنصرية وعدم المساواة

في الوقت نفسه تعمل الخوارزميات المدربة على البيانات التاريخية، بهدوء، على تقييد مستقبلنا بالتفكير نفسه الذي ترك العالم «مليئاً بالعنصرية والفقر، وعدم المساواة، والتمييز، وكارثة المناخ».

«كيف سنتعامل مع تلك المشكلات الناشئة التي ليست لها سابقة؟»، تتساءل فالور، وتشير: «مرايانا الرقمية الجديدة تشير إلى الوراء».

الاعتماد على السمات البشرية المفيدة

مع اعتمادنا بشكل أكبر على الآلات، وتحسينها وفقاً لمعايير معينة مثل الكفاءة والربح، تخشى فالور أننا نخاطر بإضعاف عضلاتنا الأخلاقية أيضاً، وفقدان المسار للقيم التي تجعل الحياة تستحق العناء.

مع اكتشافنا لما يمكن أن يفعله الذكاء الاصطناعي، سنحتاج إلى التركيز على الاستفادة من السمات البشرية الفريدة أيضاً، مثل التفكير القائم على السياق والحكم الأخلاقي، وعلى تنمية قدراتنا البشرية المتميزة. كما تعلمون. وهي تقول: «لسنا بحاجة إلى هزيمة الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عدم هزيمة أنفسنا».

* مجلة «فاست كومباني» - خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً