نحو استئناف القول الفلسفي العربي الإسلامي

الجابري وعبد الرحمن.. رائدان وضعا مشروعيهما في سياق تجاوز القراءات السابقة

نحو استئناف القول الفلسفي العربي الإسلامي
TT

نحو استئناف القول الفلسفي العربي الإسلامي

نحو استئناف القول الفلسفي العربي الإسلامي

اشتد الاشتغال بالتراث العربي الإسلامي، كمدخل لنقد آليات التفكير الذي أنتجه، دفاعا عن الحداثة وعن مشروع النهضة العربية الإسلامية، من دون السقوط في التبعية والتقليد. إذ يعد هذا التراث المرجعية التأسيسية لكل الخطابات العربية الإسلامية المعاصرة، سواء في المشرق أو في المغرب. إلا أن هذا الاشتغال، أو الحضور، اتخذ طابعا تركيبيا بين من يعتبره نموذجا قابلا للنسخ والاسترجاع، وبين من يرفضه جملة وتفصيلا، ويخندقه في الماضي السحيق الذي وجب سحقه، وبين من يستحضره كحاجة رمزية لتلبية أغراض نفسية تاريخية فرضها واقع متأخر بائس.
وفي ظل المذبحة التي شهدها التراث، عبر عمليات تحنيط وتقطيع، انبثقت في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ظهرت محاولات جديدة في التعامل مع هذا التراث، متسلحة بكل ما استجد في مدارس الفلسفة والعلوم المعاصرة مادة ومنهجا. وسنقتصر هنا على نموذجين رائدين في الحقل الفلسفي العربي الإسلامي بشكل عام، والمغربي بشكل خاص، وضعا مشروعيهما، رغم اختلاف وجهتي نظرهما، في سياق تجاوز كل القراءات السائدة، بعدة منهجية تنهل من مستجدات العلوم المعاصرة، وقدرة تنظيرية تكشف عن تهافت القراءات السابقة. إنهما الفيلسوفان المغربيان المجددان: محمد عابد الجابري (1935 - 2010)، ومن مؤلفاته: «العصبية والدولة»، «نحن والتراث»، و«تكوين العقل العربي»، و«بنية العقل العربي»، و«العقل السياسي العربي»، و«العقل الأخلاقي العربي»، و«الخطاب العربي المعاصر»، و«المسألة الثقافية»، و«مسألة الهوية: العروبة والإسلام والغرب»، وطه عبد الرحمن (1944) ومن بين أهم مؤلفاته: «في أصول الحوار وتجديد علم الكلام»، و«العمل الديني وتجديد العقل»، و«تجديد المنهج في تقويم التراث»، و«فقه الفلسفة»، و«سؤال الأخلاق»، و«الحق العربي في الاختلاف الفلسفي»، و«الحق الإسلامي في الاختلاف الفلسفي»، و«سؤال العمل»، و«بؤس الدهرانية». فكل واحد منهما، يمثل مدرسة فكرية قائمة الذات، سواء في عمليات تفكيك أو تركيب وبناء النظام المعرفي الإسلامي: فقها وفلسفة وأصولا وتصوفا وكلاما، أو في إنتاج أفق لأسئلة الحاضر، كل بطريقته الخاصة.
تعد مقاربتا كل من الجابري وطه عبد الرحمن للتراث، منعطفا جديدا في الدرس التراثي، لما تحملانه من مستجدات وخيارات على مستوى المسلمات والنتائج. لذلك جاءت قراءتهما للتراث مزدوجة ومتمثلة في استنطاق المأصول منه، وفي تقريب المنقول الغربي من خلال تصحيحه وإخضاعه لما يلائم مقتضيات المجال التداولي العربي الإسلامي منهجا ومضمونا. فهذا الوعي بطبيعة المادة التراثية وكيفية معالجتها، لدى كل من الجابري وعبد الرحمن، يجعلنا نقدم مجموعة من الملاحظات تخص خطابيهما، وهي:
- إذا كان خطاب طه عبد الرحمن يتوخى تقويم التراث، من خلال استكشاف الأدوات اللغوية والمنطقية التي أنشأته، واستغراقه في استخراجها وتحديدها وتبويبها بكثير من التدقيق والتنسيق والتجريد، أو لنقل انشغاله بـ«منطق الخطاب»، فإن خطاب الجابري لا يندرج ضمن استراتيجية محايدة وموضوعية لقراءة النص التراثي، لأن الأدوات المنهجية التي توسل بها ليست غاية في ذاتها، بقدر ما هي وسيلة للكشف عن المعاني المتعددة التي اكتسبها هذا النص في صيرورته التاريخية، التي تستوجب الحفر والتأويل الذي يستجيب بدوره لأسئلة الحاضر ورهاناته، أو لنقل بأن الجابري كان منشغلا بـ«سياسة الخطاب» أكثر من منطق الخطاب.
- إذا كانت رؤية طه عبد الرحمن محكومة بالهاجس المعرفي الصرف، بغية تحرير المتفلسف العربي من آفة التقليد والاتباع، وتأسيس حداثة إسلامية جوهرها الأخلاق، فإن رؤية ناقد العقل العربي مشغولة بهاجس التأخر التاريخي وسؤال النهضة والحداثة والتنمية والتقدم.
- إذا كانت رؤية طه عبد الرحمن تتعالى عن السياسة، وتنظر إلى السياسي نظرة شك وريبة، وتحتقر الفيلسوف المشتغل بالسياسة خشية اتباعه لمصالحه الضيقة دون نشدان الحقيقة والفضيلة، فإن رؤية الجابري النقدية يحركها الموقف السياسي، والالتزام السياسي بقضايا المجتمع، وهموم الناس، والانخراط في حركية التاريخ بكل نجاحاته وإخفاقاته. وهذا ما جعل صاحب الرؤية التداولية خارج حركة التاريخ ومفعول السياسة.
- لقد شدد طه عبد الرحمن في نقده للأدوات والمفاهيم التي توسل بها الجابري في قراءته للتراث، حيث بيّن عدم اتساقها مع طبيعة المادة المدروسة، وتهافتها في الإمساك بحيثيات سياق اشتغالها، بالإضافة إلى كونها متقادمة ولا تساير تطور المعرفة ومستجدات البحث العلمي. لكن المتتبع لمشروع الجابري، يلاحظ أن أطروحته الخاصة بالتراث لم تأتِ دفعة واحدة، بل خضعت عملية تشكل عبر مراحل، حيث استندت إلى رصيد هائل من النصوص التراثية والمعطيات التاريخية. كما اعتمدت على أدوات منهجية مستمدة من حقول معرفية معاصرة، وموظفة في سياق بناء البحث واستخلاص النتائج.
وحاصل القول هو أن طه عبد الرحمن في قراءته للتراث، قدم نموذجا في «العمارة المعرفية» لا يضاهيه فيها إلا مكابر أو جاحد، لما يتميز به من قدرة خارقة على الترتيب والتنسيق واشتقاق المفاهيم وتوليدها بلغة قوية وذات نفحة تراثية، وبآلة منطقية رهيبة في بناء الاستدلالات واستخلاص النتائج، وبعدة معرفية قوية تجمع بين النصوص التراثية وما استجد في الفكر الغربي مادة ومنهجا. لكن ورغم كل هذه الإمكانات والنتائج المحصل عليها من خلال هذه القراءة، فإنها تفتقد إلى «بوصلة سياسية» تؤطرها وتجعلها محايثة للتاريخ والمجتمع، ومنخرطة في صراعاتنا وقضايانا الراهنة في كل أبعادها المحلية والإقليمية والجهوية والدولية، لأن سؤال التراث هو سؤال الحاضر - سؤال الذات وسؤال الآخر - وليس سؤال الماضي.
تعاملت رؤية طه عبد الرحمن للتراث مع مشروع الجابري من زاوية «الصواب والخطأ»، وتناست التعامل معه «فيما وراء الصواب والخطأ». إذ يقترح بنعبد العالي – في قراءته لمشروع الجابري - التوقف عند ما يدعوه بـ«مفعول الجابري» في التراث وعلى التراث، حيث اعتبر أن تصنيف الجابري لحقول المعرفة في الثقافة العربية، فرض إعادة النظر في أسلوب التناول ومنهج الدراسة، بل إعادة النظر في الفلسفة الثاوية وراء التصنيفات المتوارثة. ولن يعود بإمكاننا أن نفهم تراثنا على النحو المتداول الذي تُصنف وفقه معارفنا إلى نقلية وعقلية، وإنما سينقسم إلى أنظمة ثلاثة تستوعب كل الاختلافات الداخلية والخارجية لمجالات المعرفة، وتغدو علوم البيان، وعلوم العرفان، وعلوم البرهان بالتتالي، مجال المعقول الديني واللامعقول العقلي والمعقول العقلي. هذا فيما يخص مفعول الجابري في التراث. أما ما يتعلق بمفعوله على التراث، فقد لاحظ بنعبد العالي أن الجابري حقق ما يسمى بـ«شيوعية تراثية»، أي أنه جعل النص التراثي في متناول الجميع، بعد أن كان محتكرا من طرف شرذمة من المحققين، ومحجوبا عنا كما تحجب الذخائر والكنوز.
إن مفعول الجابري على التراث مكن من تيسير إدراكه وتقريب المسافة الزمانية والمكانية التي تفصلنا عنه، إذ أعطى لكل منا الحق في تملكه. وما عسى تكون السياسة لو لم تكن بالضبط هي هذا السعي نحو توفير الحق للجميع، على حد تعبير بنعبد العالي.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!