لماذا تأخرنا؟ سؤال عربي عمره 130 عاماً!https://aawsat.com/home/article/3699791/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D8%A3%D8%AE%D8%B1%D9%86%D8%A7%D8%9F-%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%B9%D9%85%D8%B1%D9%87-130-%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A7%D9%8B
لم يكفّ كُتّاب ومثقفون عرب عن الاهتمام بمسألة التقدم، ومقارنة أحوال بلادهم بغيرها، منذ آخر القرن التاسع عشر عندما نشر عبد الله النديم عام 1893 كتابه الذي صار مشهوراً «بِمَ تَقدم الأوروبيون... وتأخرنا؟» وعندما نُشر ذلك الكتاب، كان قد مضى أكثر من ثمانية عقود على المحاولة الأولى لوضع مصر على طريق التقدم وفق النمط الغربي، ونحو عقد على الإعاقة الأولى لهذه الطريق بواسطة الاحتلال البريطاني.
وعلى مدى نحو 130 عاماً، نُشرت عشرات الكتب، ومئات وربما آلاف الدراسات والمقالات، التي أعادت إنتاج السؤال نفسه في صيغ متنوعة، واختلف مؤلفوها في إجاباتهم، إذ حاول كل منهم أن يُفسر تأخر العرب مقارنةً بالغرب أولاً، ثم بهم وبغيرهم بعد ذلك، انطلاقاً من خلفياته، وفي حدود معرفته.
وما زال هذا الخلاف على عوامل تأخر العرب أو عدم تقدمهم مستمراً بين اتجاهين أساسيين: اتجاه يُحمّل الغرب المسؤولية عمّا آلت إليه أحوال العرب عموماً، وعن تأخرهم خصوصاً، واتجاه يبحث عن عوامل هذا التأخر في الثقافة الغالبة في المجتمعات العربية، أو في طبيعة هذه المجتمعات، أو في نظم الحكم، أو في هذه كلها مجتمعة. وفي هذا الاتجاه الثاني نجد انقساماً عميقاً بشأن نوع مسؤولية العرب عن تأخرهم، بين من يعزونه إلى ما يعتقدون أنه عدم تمسك بالدين، ومن يُفسرونه بالانغماس الزائد في تفسيرات وتأويلات دينية.
غير أن النفاذ إلى عمق ظاهرة التأخر العربي يتطلب التفكير في الكيفية التي يحدث بها التقدم، انطلاقاً من فرضية أن العلم والعقل العلمي هما المُحدِّد الأول لقدرة هذا المجتمع أو ذاك على قطع خطوات إلى الأمام بشكل مطّرد. ويأخذنا التفكير بهذه الطريقة إلى النظريات المُفسّرة للتقدم العلمي، وتحديداً إلى نظرية التراكم المعرفي، التي تُفيدنا بأن التقدم عملية تراكمية تتضمن مراحل يقود كل منها إلى ما يليها، ويُبنى في اللاحق منها على ما تحقق في السابق، وهذا إذا توافر شرطان هما الاستمرار أو عدم الانقطاع، وتجنب الإغراء بتحقيق قفزات في المجهول.
وهذا ما حدث في الغرب، بدءاً من أوروبا، حيث حقق التطور في عصر النهضة منذ القرن الخامس عشر ديناميكية أتاحت الانتقال إلى زمن التنوير، وخلق الإصلاح الديني بيئة ملائمة للانتقال نحو العلمنة، فصارت الأوضاع مُهيأة للتقدم باتجاه الديمقراطية، بالتوازي مع التحرك نحو الثورة الصناعية الأولى تأسيساً على التحول التدريجي من الإقطاع إلى الرأسمالية التجارية، والزراعية أيضاً، وصولاً إلى البرجوازية الصناعية. وعندئذ، ومع منتصف القرن التاسع عشر، بات التقدم الذي تحقق مرتكزاً على أرض ثابتة، لأن القوى الدافعة له تمكنت من ضمان استمراره، ومعالجة عثراتٍ واجهته، وقاومت في الوقت نفسه قفزات سبقت أوانها كما حدث عقب ظهور الاشتراكية في مطلع ذلك القرن. ولهذا تواصلت مراحل التقدم عبر توطيد أركان ما سبق تحقيقه، والبناء عليه للانتقال تدريجياً إلى ما يليه، فصارت الثورة الصناعية ثورات عدة حملت كل منها جديداً نوعياً، وما زال.
لم يحدث مثل ذلك في العالم العربي، الذي بدأت إرهاصات تقدمٍ في بعض بلدانه في مطلع القرن التاسع عشر، عقب الاحتكاك المباشر مع الغرب، عندما تبين عمق الهوة بين عصرين مختلفين، وليس بين ثقافتين متباينتين فقط.
غير أنه ما كان للبداية المتأخرة أن تعوق المضيّ في طريق التقدم إلا لأنها افتقرت إلى الاستمرار حيناً وتعرضت لأخطار القفز على الواقع حيناً آخر. فقد حدث انقطاع متكرر في محاولات التقدم منذ البداية، وأخذت حركة المجتمعات العربية عندما خرجت من ركودها القروسطي طابعاً دائرياً وليس خطياً، فكلما مضت خطوة إلى الأمام ارتدّت ثانية إلى الوراء، وكلما بدا أن الطريق يمكن أن تُفتح إلى مرحلة تالية أكثر تطوراً، حدث انقطاعٌ فرض البقاء في المكان أو الارتداد عنه. وأُعيد إنتاج هذا الخط الدائري مرات في المجتمع الواحد، وحدث مثله في غيره، نظراً للتفاوت في فترات بداية محاولات التقدم من مجتمع إلى آخر.
وهذا فضلاً عن محاولات القفز على الواقع، أو حرق المراحل، لتحقيق طفرات كبيرة بغير أساسٍ يسندها، ومن دون استيعاب الدرس الأوروبي في هذا المجال خلال القرن التاسع عشر، خصوصاً في فرنسا حين أُحبطت كومونة باريس عقب الهزيمة أمام بروسيا في 1870.
وبخلاف ما حدث في الغرب، كان القفز على الواقع مُغرياً في أجواء حماسية شهدتها بلدان عربية عدة منذ أوائل خمسينات القرن الماضي، وأسفرت عن العودة إلى الوراء ربما بمسافة أكبر من تلك التي كان مرغوباً في اجتيازها إلى الأمام. وهكذا افتقدت محاولات التقدم العربي التراكم عبر الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل طبيعي، فيما كان بعضها ضحية اندفاعات عشوائية لتحقيق قفزات في المجهول.
ولهذا تبدو نظرية التراكم الأكثر فائدة في مناقشة معضلة التأخر العربي، والسعي إلى جوابٍ عن سؤاله الذي مضى على طرحه في العلن للمرة الأولى نحو 130 عاماً، واستخلاص دروسٍ للحاضر والمستقبل، بدل الاستمرار في سجالات واشتباكات في شأن أثر العوامل الداخلية والخارجية في إعاقة تقدم العرب.
* كاتب مصري
السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزازhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5102321-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%AC%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1-%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AA%D9%84-%D9%88%D8%A8%D8%A7%D8%B2%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A8%D8%AA%D8%B2%D8%A7%D8%B2
السجن السوري الكبير... بيروقراطية القتل و«بازار» الابتزاز
منير الفقير عضو مؤسس «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا» في جولة على سجنه مع «الشرق الأوسط»
«أمي أصرت على أن ترافقني في زيارتي الأولى لزنزانتي في سجن صيدنايا وزوجتي اتصلت من تركيا لتجعلني أقسم ألا أذهب من دونها... وأنا حقيقة ما زلت غير قادر على مواجهة هذا المكان. لا بمفردي ولا مع شاهد آخر على مأساتي».
هكذا اعتذر لنا منير الفقير، الناجي من الاعتقال في أفرع الأمن وفي سجن صيدنايا والشريك المؤسس في «رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا»، عن عدم زيارة زنزانته التي كانت مقررة في صباح ذلك اليوم الدمشقي.
«في البداية تشجعت أن نذهب معاً» قال: «ولكنني فعلياً غير قادر على استعادة هذا الكابوس الآن. هناك فيض من المشاعر التي لا أعرف التعامل معها... استشرت صديقاً نصحني بألا أقوم بهذه الزيارة قبل أن أحصّن نفسي وأكون على أتم الاستعداد».
وبعد برهة صمت استدرك: «لكن كيف يستعد الإنسان للقاء كهذا؟».
لم نصر على الزيارة بطبيعة الحال. فالأيام القليلة التي سبقت الوصول إلى دمشق، وما نشر عن ذلك المكان السيئ السمعة من معلومات دقيقة أو مبالغة (بلا مبرر)، كفيل بإيقاظ أي صدمة مهما اندملت أو طوته الذاكرة. فكيف والجرح طري والألم مقيم. كذلك فإن الدفق الهائل من الروايات الفردية والجماعية عن هذه التجربة المروعة، الذي لم يترك تفصيلاً إلا وتناوله في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كان ليجعل أي إصرار في غير صوابه.
سجن صيدنايا رأس جبل الجليد
إلى ذلك، فإنه يستحيل اختزال التجربة السجنية في سوريا على مدى الخمسين عاماً الماضية في سجن صيدنايا وحده، على فرادة التجربة لا شك، وذلك لكونه رأس جبل جليد دونه أفرع أمنية ومعتقلات وسجون كثيرة لا تقل رعباً وقسوة.
وإذا كان من نموذج لـ«الناجي المطلق» في ذلك الجحيم كله، فهو منير الفقير، المهندس ابن دمشق، الذي تنقل لأكثر من سنتين بين عدة محطات اعتقال بدءاً بالفرع 215، «سرية المداهمة» التابع للأمن العسكري، مروراً بالفرع 215 والمستشفى العسكري 601 المعروف بـ«المسلخ»، حيث التقطت صور «قيصر»، وصولاً إلى المسلخ الكبير... صيدنايا.
وقد يكون أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو كيف نجا منير، وكيف خرج حياً بعد كل ذلك، فيقول: «المعجزة أنني خرجت حياً من الفرعين الأولين. أما وقد وصلت إلى صيدنايا، وريثما علم أهلي بمكاني فقد كان بزنس الابتزاز انتعش. وحاولت عائلتي كغيرها من عائلات كثيرة إخراجي مقابل المال... وكنت محظوظاً أنه تم لي ذلك». ولعل اللافت أن رئيس المحكمة الميدانية، اللواء محمد كنجو حسن الذي حكم على منير بالترحيل إلى صيدنايا في جلسة محاكمة لم تتجاوز دقيقتين، كان هو نفسه من صادق على خروجه بعد تقاضي رشوة كبيرة عبر شبكة ابتزاز تعمل لصالحه.
هذا علماً أن منير لا يزال حتى الساعة جاهلاً بتهمته. ويقول: «لا أعلم حتى الآن ما هي التهمة الموجهة إليّ ولم أعلم حينها بمدة الحكم أو إذا كنت سأعدم. طوال الفترة التي قضيتها لم أبلّغ بشيء وممنوع أن أسأل. كنت فقط أحاول الاستنتاج من طبيعة الأسئلة الموجهة لي. لكنني لم أعلم شيئاً».
المعتقلون و«بازار» الابتزاز
يوضح منير أن هناك 3 أنواع من حالات الإفراج. الحالة النادرة جداً وهي العفو الرئاسي، وحدث أن منح بشار الأسد عفواً في حالات استثنائية ولأشخاص معينين. والحالة الثانية هي التبادل أي تبادل معتقلين بمعتقلين لدى أطراف أخرى، وهي أيضاً نادرة.
أما الحالة الأبرز والأكثر شيوعاً فهي الابتزاز المالي. ويقول منير: «كان لدى كنجو حسن الذي يملك ثروة طائلة وعقارات، سماسرة يرصدون الصيد الثمين من المعتقلين فيتواصلون مع الأهالي وبشكل رئيسي الأمهات ثم بدرجة ثانية مع الزوجات والأخوات».
وأضاف: «نحن في رابطة صيدنايا رصدنا هذا الموضوع، وقمنا بنشر تقرير توعوي للأهالي حول شبكات الابتزاز وقدرنا المبالغ المالية التي حصلت عليها شبكات الابتزاز الأمنية بنحو مليار دولار للفترة الممتدة بين 2011 حتى 2020». وتابع أن «منظمات حقوقية أخرى قدرت المبالغ بأكثر من ذلك، لكننا رصدنا الحد الأدنى الذي استطعنا توثيقه بناء على عينة إحصائية وليست عينة مسح».
وتعمل تلك الشبكات بإحياء أمل الأمهات باستعادة المفقود وإثارة خوفهن من خسارة ابن آخر «لينطلق البازار»، على ما يقول منير، ويبدأ إرسال المال مقابل معلومات أو إشارات شحيحة عن المفقود ريثما لا يعود لدى «الزبون» ما يقدمه؛ فإما أن يتم الإفراج فعلياً عن المعتقل وإما أن يصبح الرقم خارج التغطية، أو تُبلغ العائلة بأن الوقت قد فات وأن الابن لم يعثر عليه أو أنه ربما مات.
وهنا محظوظة هي العائلة التي تمنح شهادة وفاة أو جثة تدفنها، وغالباً ما يتم ذلك مقابل إجبارها على توقيع شهادة وفاة تقول إن الموت جاء لأسباب طبيعية أو صحية أبرزها توقف القلب أو الاحتشاء أو الفشل الكلوي، علماً أن الشائع هو تسجيل من دون حتى إبلاغ العائلة ولا حتى تسليم جثة.
الموت والتغييب كإجراء إداريّ
«لا شيء متروك للصدفة»، يقول منير ونحن نقف داخل مكتب السجلات في الفرع 215: «كل شيء مسجل ومؤرشف. وهذا جزء من نجاحهم في إطباق القبضة الأمنية. فمهما كان عدد المعتقلين ضخماً ومهما كان الازدحام في الزنزانات شديداً، يمكنهم بلحظة سحب الملف وسحب السجين من أي مهجع أو زنزانة».
وبالفعل، شملت سجلات الجرد التي ملأت الرفوف واطلعنا على بعضها، تفاصيل دقيقة عن الأشخاص ومقتنياتهم وأوراقهم الثبوتية وكل ما تتم مصادرته منهم حين توقيفهم. وكان هناك عدد كبير جداً من جوازات السفر المحفوظة، وعلمنا لاحقاً أنها تستخدم لنصب الأفخاخ. فأصحابها غالباً لا يعلمون أنهم مطلوبون لفرع أمني حين يتقدمون باستخراجها أو بطلبات تجديدها، وحين تنجز ويذهبون لتسلّمها يتم اقتيادهم إلى الفرع.
ومن «الأمانات» التي وقعنا عليها في قاعة المحفوظات تلك، كتاب «الاستخبارات المركزية الأمريكية: غول وعنقاء وخل: ماذا فعلت؟» لمحمود سيّد رصاص، وأحذية لأطفال ويافعين، وبطاقة هوية عليها صورة فتى لم يتجاوز سنوات مراهقته الأولى، وكثير من علب المهدئات العصبية ومسكنات الألم بتركيبة الكوديين.
أما من نعتقد أنهم «منسيون» في الأفرع والمعتقلات وبعضهم من جنسيات غير سورية أيضاً، فينطبق عليهم المبدأ نفسه بأن لا شيء متروك للصدفة. فبحسب ما يشرح منير، هناك نوعان من العبارات التي تكتب على إضبارات المعتقلين الذين يتخذ قرار «نسيانهم» أو عملياً قرار إخفائهم قسرياً: العبارة الاولى هي «يحفظ ويذكّر به» وتعني أنه يتعين على السجان تذكير مسؤول الفرع بالمعتقل في فترات متباعدة. والعبارة الثانية هي «يحفظ ولا يذكر به» فيعطى رقماً ويصبح بالإمكان إما الإبقاء عليه أو تصفيته.
قاعة إعدام وكابوس البطانيات
غادرنا قسم العمل البيروقراطي والإداري المتقن وهبطنا إلى الطوابق السفلية. هنا المهاجع والزنزانات المنفردة وقاعة تدريب على الرماية تحولت مكان اعتقال جماعي وتعذيب في فترات الذروة، ثم مسرحاً لإعدامات ميدانية وثقتها الرابطة ومنظمات حقوقية ومنحت الفرع 215 برمته سمعته بأنه «فرع الموت». لا يزال المكان يعبق بما شهده من فظاعات. ولا تزال الجدران السوداء في قاعة الإعدام تلك سقفها يحمل تركات ماض ليس ببعيد. الرائحة تثير الإعياء.
فجأة انتابت منير فورة غضب عارم فراح يضرب باب زنزانته برجليه ويديه حتى كاد يدميها. ثم تماسك، وغالب دموعه وتابع المسير.
في بعض المهاجع كانت بقايا خبز وعلب لبن فارغة وحبات طماطم تآكلها العفن مرمية على الأرض المتسخة أو فوق بطانيات رثة هي كل ما يشكل أثاث هذه القاعات. لا شيء إلا الجدران والبطانيات وحفرة صحية مكشوفة لقضاء الحاجة. على الجدران كتابات تخطر ببال ولا تخطر، محفورة بالأظافر أو أغطية علب اللبن. مناجاة وأسماء وتواريخ ومعادلات رياضية معقدة يقول منير إنها تهبط على الشخص في لحظات صفاء الذهن المطلق كما يحدث في السجن.
البطانيات التي يحمل بعضها دمغة «مفوضية اللاجئين» التابعة للأمم المتحدة (UNHCR) وتشكل الأثاث الوحيد في هذه القاعات المغلقة تستخدم لأي شيء وكل شيء حتى أصبحت بؤرة جراثيم وبكتيريا وقمل تتسبب بتقرحات ونقل أمراض وعدوى بين المعتقلين خصوصاً في حالات الجروح المفتوحة. وليس نادراً أن تتفشى الغرغرينا في مهجع ما لأسباب كثيرة، أحدها هذه البطانيات نفسها. ويقول منير: «أحياناً كثيرة يموت سجين فيتركونه هنا لساعات أو أيام، بين رفاقه الأحياء، جثة ملقية على هذه البطانيات التي يعاد استخدامها لأغراض أخرى».
في آخر الرواق ليس بعيداً من القاعات الجماعية التي لا تتجاوز مساحتها 35 متراً مربعاً ويحشر فيها 200 شخص أو أكثر أحياناً بحسب المواسم، تصطف المنفردات فتبدو كأنها قبور منتصبة لا يمكن أن تتسع لحركة آدمي. ولكنها، وعلى الرغم من ذلك تبقى «مرتجى» كثيرين لأنها تبعد عنهم ولو قليلاً رعب البطانيات ذاك.
الرعب المعمّم خارج السجن
لعل أحد أوجه القسوة والترهيب المعمم في سوريا على مدى العقود الماضية، يكمن في اختيار مواقع هذه المعتقلات بين الأحياء السكنية في دمشق وتفرعات الشوارع كأنما لفرض التطبيع مع العنف الدائر داخلها. فإذا كان سجن صيدنايا بعيداً عن العين والمخيلة اليومية للناس العاديين، فإن هذه الأفرع تنتشر وسط العاصمة بمحاذاة حياة «طبيعية»، تجري خارجها.
فللوصول إلى الفرع 215 الواقع ضمن المربع الأمني بين حي كفرسوسة والمزة، الذي شكل المحطة الأولى في رحلة الاعتقال المستعادة مع منير، مررنا عبر «أوتوستراد المزة» الشهير وانعطفنا قليلاً ثم دخلنا من بوابة مفتوحة على الشارع كأننا نتوجه إلى أي دائرة حكومية في فضاء عام. ثم لدى انتهائنا من الزيارة وخروجنا من ظلمة السراديب إلى ضوء النهار، بدت فجأة من الجهة الخلفية مبانٍ إدارية تطل نوافذ مكاتبها على باحات هذا المكان، وكأننا بالموظفين يسترقون النظر إليه خلال استراحات القهوة والسجائر ثم يعودون هم أيضاً إلى عمل بيروقراطي متقن آخر.
وعلى الجانب الآخر، ثمة مبانٍ سكنية لها شرفات مظللة ضاقت بالغسيل المنشور عليها وتطل بدورها على الفرع. حمل مشهد الغسيل ألفة غامرة وخوفاً في آن.
عندها تصدق قصص كثيرة عن عائلات غيرت سكنها وباعت بيوتها لتتخلص من هذه الجيرة الثقيلة، ولعجز أفرادها عن الاستمرار في سماع صوت التعذيب المتسلل إلى غرف المعيشة وحجرات المنام.
«قسم الرضوض»... وصور قيصر
يفيد تعميم مسرب منتصف 2018، ومؤرخ في 18/12/2012 صادر عن رئاسة فرع المخابرات العسكرية بأنه «يطلب من جميع الأفرع الأمنية الخاضعة لها الإبلاغ عن وفاة أي سجين، في اليوم نفسه وإبلاغ رئيس الفرع شخصياً عبر (التلغرام) مع ذكر سبب الاعتقال ونتائج التحقيق وسبب الوفاة».
هذه وثيقة تستخدمها اليوم مجموعات حقوقية لمقاضاة الجناة دولياً، وتعدّ اعترافاً صريحاً بوقوع الوفيات، لكنها أيضاً إقرار بأن تلك الوفيات بأعدادها الهائلة، تجري بمعرفة وقرار مباشر من أعلى هرم القيادة.
ويعد الفرع 215 السابق الذكر محطة أساسية في «خط الإنتاج» ذاك، يليه «قسم الرضوض» في مستشفى المزة العسكري (يوسف العظمة سابقاً) المعروف بالـ601، «حيث يتم تخريج الوفيات بطريقة طبية أو يتم الإجهاز على المرضى بشكل طبي أيضاً»، بحسب ما يقول منير.
وكان «قسم الرضوض» استحدث بعد الثورة في 2011 ضمن المبنى القديم للمستشفى الذي يعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي لـ«معالجة» المعتقلين بعدما ارتفعت وتيرة التعذيب والقتل بشكل منهجي في الأفرع وأعداد الضحايا، وبرزت حاجة لـ«تصريف» الجثث وتخفيف الاكتظاظ. وذلك بالتزامن مع جعل «قسم الرضوض» مكاناً إضافياً للتعذيب «الطبي» هذه المرة، ثم حفظ الجثث وأرشفتها وترقيمها، وأبرزها تلك التي ظهرت في صور قيصر وتم تصويرها في باحة هذا المكان.
ويشرح منير دور الطاقم الطبي فيقول: «المشرفون على قسم الرضوض هم بشكل أساسي أمنيون وأطباء عسكريون، فالقسم يخضع لإدارتين أمنيتين هما: الأمن العسكري والأمن الجوي لكل منهما عزرائيل كما كنا نسميهما، لأنهما كانا كثيري القتل والتفنن به».
وبحسب منير، وهو ما تمت مقاطعته من مصادر أخرى أيضاً، كان عدد غير قليل من الأطباء والممرضين وحتى الممرضات متواطئين إلى حد بعيد مع العسكريين فكانوا «يرشدونهم» إلى طريقة ضرب تؤدي إلى نزف داخلي مثلاً أو فشل كلوي أو اختناق من دون أن تظهر بالضرورة على الجسد آثار تعذيب واضحة، ما يسهل تبرير سبب الوفاة في السجلات الرسمية، وتسجيلها وفاة طبيعية لتكتمل دورة العمل الإداري والبيروقراطي الدقيق.
لم يكن ممكناً دخول المستشفى لمعاينة «قسم الرضوض» الذي رقد فيه منير لفترة وقد كان في حالة سيئة جداً وخسر وزناً كثيراً. فقد أغلق المكان وتحول إلى مقر شبه عسكري تابع لـ«الهيئة». عند السور الحجري الكبير، علقت عشرات صور المفقودين وأسماؤهم وأرقام هواتف ذويهم علّ أحداً يتعرف عليهم أو يمكنه الإفادة بمصيرهم.
خلال انتظارنا لنحو ساعتين عند البوابة الرئيسية للمشفى، توافدت سيارات كثيرة بطلبات مختلفة من تسليم سلاح فردي، ومراجعين لأقسام طبية لم تعد موجودة، إلى موظفة سابقة تريد استعادة أغراض شخصية من مكتبها مقابل أن تسلم مفتاحها. كغيرها، عادت أدراجها خائبة، فوحده تسليم السلاح لقي تجاوباً وترحيباً من العناصر المسلحة.
أما منير، وقبل أن يعود إلى احتفالات ساحة الأمويين، توقف طويلاً عند لوحة رفعت على المدخل الرئيسي تقول: «إدارة المشفى تتمنى لمرضاكم الشفاء العاجل».