من التاريخ : إنجلترا بين الصراع المذهبي والنسائي

إليزابيث الأولى
إليزابيث الأولى
TT

من التاريخ : إنجلترا بين الصراع المذهبي والنسائي

إليزابيث الأولى
إليزابيث الأولى

مات هنري الثامن كما تابعنا ولكن ليس قبل أن يغير هيكل الكنيسة الإنجليزية لينشئ الكنيسة الإنجليكية والتي رأسها بنفسه وأعقب ذلك تأميم الأديرة وبعض ممتلكات الكنيسة، ولكنه لم يمس أركان العقيدة الكاثوليكية تقريبًا فاستمرت على ما كانت عليه، خاصة وأنه كان من المؤمنين بثوابت الكاثوليكية، ولكن صراعه مع البابا كان سياسيًا بسبب رفض الأخير منحه الطلاق من زوجته فوجد في ذلك فرصته للتخلص من نفوذ بابا التاج البريطاني، ولكنه مات قبل أن يضع كل أسس الحركة البروتستانتية في البلاد وخلفه في الحكم ابنه إدوارد السادس في عام 1547 والذي كان لا يزال صبيًا، فآل الحكم الفعلي إلى خاله الدوق «سمرست» والذي كان متعصبًا للبروتستانتية فعقد العزم على نشر المذهب البروتستانتي في البلاد من خلال كبير الأساقفة «كرامنر» والذي أخذ على عاتقه تغيير الكثير من مظاهر الديانة وعلى رأسها القداس الإلهي وإلغاء الزخرفة الكاثوليكية من الكنائس مثل الشموع والماء المقدس وغيرهما من الأمور، ووضع ما عرف بـ«كتاب الصلاة للعامة» والذي نظم الصلاة باللغة الإنجليزية كما تمت ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية لفتح المجال أمام العامة لقراءته باللغة الإنجليزية بعد أن كانت مقصورة على اللاتينية في كل الدول الأوروبية حتى لا يمكن لأحد من العامة غير الكنيسة قراءتها لضمان السيطرة الدينية الكاملة على الرعية وإبقاءً لدور الكنيسة والبابا. وقد كتب «كرامنر» كتابه الثاني والذي ألغى فيه عددًا من أساسيات المذهب الكاثوليكي وعلى رأسها مسألة تحول الخبز والنبيذ إلى جسد ودم السيد المسيح وهو ما كانت تحرص عليه الكنيسة الكاثوليكية حرصًا شديدًا. ومع ذلك فإن الظروف السياسية تغيرت تمامًا بموت الملك إدوارد السادس، وهنا اضطر الساسة لأن يعرضوا التاج على أخته «ماري» الابنة الأولى لهنري الثامن من زوجته الأولى والتي كانت كاثوليكية الطبع والطابع، وكانت تكره الحركة البروتستانتية في إنجلترا لأنها كانت سببًا في طلاق أمها والتشكيك في شرعيتها هي، وعلى الفور لجأت هذه الملكة لتغير المذهب الإنجليكاني وإعادة البلاد للكاثوليكية وحظيرة البابا مرة أخرى، وقد استعانت الملكة على هذه العملية بالعنف المفرط وقامت بإلغاء كتب الصلاة وأعدمت «كرامنر» وسلمت البلاد إلى كبير أساقفة عينه البابا من روما، ولكنها لم تستطع استعادة أملاك الكنيسة مرة أخرى، كما أنها لم تستطع جذب تعاطف شعبها معها بسبب عنفها وتشددها للمذهب الكاثوليكي، ولكنها أقدمت على الانتحار السياسي عندما تزوجت من ملك إسبانيا العدو التقليدي لبلادها، وهو ما جعل البرلمان يتدخل لوضع القيود السياسية على هذه الزيجة، ولكنها أفقدتها التعاطف الكامل في الشارع والبرلمان معًا عندما تحالفت مع إسبانيا ضد فرنسا في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، مما جعلها تفقد مدينة «كاليه» لصالح فرنسا، ولكن القدر لم يمهلها الكثير فماتت بحسرتها في عام 1558 قبل أن تعمق جذور المتغيرات التي أدخلتها.
مرة أخرى وجد الشعب الإنجليزي نفسه في موقف حرج فاضطروا لتنصيب أختها الملكة «إليزابيث» الأولى، وهي ابنة آن بولين السبب الأساسي وراء قرار هنري الثامن بالانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية، فكان الكاثوليك في البلاد ينظرون لها على اعتبارها ابنة غير شرعية بسبب عدم الاعتراف بطلاق والدتها الأولى، بينما توسم البروتستانت الخير على أيدي الملكة الجديدة والتي كانت تقارب الخامسة والعشرين، ولكن أحدًا لم يتوقع أبدًا أن تصبح هذه الشابة أعظم ملكة في تاريخ إنجلترا وواضعة أسس عظمة هذه الدولة، فلقد كانت حكيمة وذكية في آن واحد، ولم تتأخر كثيرًا في استيعاب دروس السياسية وإدارة الدولة، فاستعانت بمستشارين شهد لهم التاريخ بالكفاءة فحسمت المشكلات المذهبية بأن أعادت المبادئ التي وضعها أبوها وأخوها، فأصبحت الملكة ترأس الكنيسة رسميًا رغم أنها رفضت هذا اللقب نظريًا تحت حجج مختلفة واكتفت بلقب «الحاكم الأعلى»، ولكنها أقرت المبدأ ذاته، كذلك فقد أعيدت الصلاة في الكنائس باللغة الإنجليزية وأبقت على الطقوس البروتستانتية وعلى رأسها زواج القساوسة، وهو ما أدي إلى قيام البابا في روما بعزل الملكة كنسيًا ولكنها لم تأبه كثيرًا بهذه الخطوة فشددت قبضتها على الكاثوليكية ومعتنقيها في البلاد.
وعلى الرغم من القرارات الحاسمة للملكة في المسائل المذهبية فإن التوتر لم يختف في البلاد، ولكنه هدأ بشكل كبير، وكان على الملكة أن تبدأ سلسلة من الإصلاحات الاقتصادية والسياسية لضمان الاستقرار بعد تهدئة الخلافات المذهبية، فعلى صعيد الشأن الداخلي نظمت الملكة صك العملة بشكل يضمن وجود نسب من الذهب أو الفضة في العملات تتوازى مع قيمتها الفعلية بعدما كان والدها هنري الثامن قد أخل بهذا التوازن بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة فكان يصك العملة بأقل من قيمتها مما خلق حالة من التضخم المريع في البلاد، وقد أعاد ذلك للاقتصاد الإنجليزي استقراره الذي كان في أشد الحاجة إليه، كذلك قامت بتنظيم سوق العمالة في البلاد من خلال القوانين المختلفة فأدخلت الحد الأدنى للأجور وقامت بعدد من الإصلاحات الاجتماعية امتصت من خلالها غضب الطبقات الفقيرة، كما وضعت هذه الملكة الشابة الأسس التجارية التي جعلت من بلادها فيما بعد القوة التجارية الأولى في العالم، وأسست لأول مرة «شركة موسكوفيا التجارية» لضمان التجارة مع روسيا في وقت لم تكن أوروبا قد وجهت أنظارها لروسيا، كما فتحت المجال أمام التوسع التجاري المنظم حول العالم.
وعلى الرغم من كل هذه الأعباء، فإن القدر وضع على كاهل هذه الملكة عبئًا إضافيًا، وهو علاقتها السيئة مع أحد أقربائها وهي «ماري ملكة اسكوتلندا» والتي كانت كاثوليكية المذهب وحاولت أن تستولي على إنجلترا وتطيح بالملكة إليزابيث بكل الوسائل خاصة بعد زواجها من ملك إسبانيا فأصبحت إنجلترا في خطر الزحف الاسكوتلندي البري والحصار البحري الإسباني، وقد جمعت «ماري» الجيوش ضدها ولكنها فشلت في هدفها بسبب الدسائس الداخلية، وانتهى بها الحال إلى ثورة شعبية أطاحت بها مما جعلها ترتمي في أحضان إليزابيث، فكان مأواها السجن ثم الإعدام بعد ذلك.
أما على صعيد العلاقات الخارجية فقد توصلت لاتفاقية صلح مع فرنسا تنازلت بمقتضاها عن الأراضي التي صارت تحت أيدي الأخيرة، ولجأت لسياسة توازن القوى للحفاظ على استقلال البلاد من ناحية وضمان عدم تكتل القارة الأوروبية ضدها، فتوازنت سياستها الخارجية بين فرنسا وإسبانيا بشكل دقيق للغاية، فأصبحت إنجلترا عنصرًا هامًا في المعادلة السياسية الدولية، وهو ما أثار حفيظة وحقد ملك إسبانيا والذي كان مصممًا على استعادة إنجلترا إلى الكاثوليكية مرة أخرى والقضاء على نفوذها التجاري الدولي، وهو ما دفعه في عام 1588 إلى محاولة غزو إنجلترا بحريًا من خلال أسطوله المهيب والمعروف «بالأرمادا»، فكان هذا أكبر تحد لهذه الملكة في حكمها، ولكنها استطاعت أن تستجمع قوى البلاد من المذاهب المختلفة والرافضة للاحتلال الإسباني، وبمساعدة الريح العاتية تمت هزيمة الأرمادا وهي المعركة التي غيرت مجرى التاريخ الدولي، فلقد ضعفت إسبانيا بعدها بحيث صارت إنجلترا بأسطولها القوة المؤثرة على المحيط الأطلنطي، وبدأت تتوسع في مستعمراتها.
وقد كان لهذه الملكة رؤيتها الثقافية فجاء ما عُرف في التاريخ بالعصر المنسوب إليها، إذ انتشر الأدب والشعر الإنجليزيان بشكل كبير، وبدأت حركة فكرية كبيرة تعم البلاد كان لها أكبر الأثر في الرقي الاجتماعي تدريجيًا، وقد دعمت الملكة هذا التوجه بشكل كبير سعيًا لتثبيت اللغة ومنح بلادها الميزة الفكرية والثقافية، وقد اهتمت الملكة شخصيًا بالمسرح والفنون. ومع كل هذه الأحداث فقد ظلت شخصية وحيدة، خاصة وأنها رفضت كل عروض الزواج والتي انهالت عليها من كل القارة الأوروبية ومن علية القوم الإنجليز تحت حجج مختلفة، ولكنها كانت تستخدم هذا السلاح إما لجذب الرجال لصالح التاج أو لتفريق المؤامرات الداخلية أو الخارجية، لهذا لم تتزوج وماتت الملكة بلا وريث لها في عام 1603، ولعل إرثها الحقيقي أنها كانت سيدة الدولة التي وضعت الأسس السياسية والاقتصادية والعسكرية للدولة الإنجليزية.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.