مبدعون يستبدلون معطف الروائي بجبّة الشاعر

بمبرر غياب فاصل هندسي بين الحالة الشعرية والحالة الروائية

مبدعون يستبدلون معطف الروائي بجبّة الشاعر
TT

مبدعون يستبدلون معطف الروائي بجبّة الشاعر

مبدعون يستبدلون معطف الروائي بجبّة الشاعر

شكل عبور عدد من الشعراء العرب إلى الكتابة تحت سقف أجناس أدبية أخرى، ظاهرة أثارت الاهتمام وحركت وجهات النظر، المرحبة أو المتحفظة، التي لا يمكن، بأي حال من الأحوال، إلا أن تغني النقاش وتثري المشهد الأدبي.
بالنسبة للشاعر اللبناني شوقي بزيغ، مثلا، تبدو الأمور واضحة تماما: «هناك عشرات الشعراء كتبوا الرواية. لست ضد أن يكتب الشاعر رواية. ليفعل ما يشاء. لكن الحياة ضيّقة على أمرَين معًا، وعلى فنّين معًا. كلّ فن من الفنون يحتاج إلى حيوات وليس إلى حياة واحدة. فكيف لهذه الحياة أن نقسمها بين فنّين عظيمين، مثل الرواية والشعر؟».
هي وجهة نظر، فيها كثير من التحفظ، بخصوص الجمع بين جنسين أدبيين، يبسطها بزيغ في سياق نقاش متواصل تحركه أسئلة كثيرة، لعل أهمها تلك التي تتناول ثنائية «زمن الشعر» و«زمن الرواية»، و«جدوى الشعر في زمن العولمة»، التي تطرح، في جانب منها، في سياق تبرير اختيار عدد من الشعراء الكتابة تحت سقف الرواية، في زمن يرى فيه البعض أن الرواية أخذت مكان الشعر، مع التشديد على أن تحول الشعراء إلى الرواية ليس ظاهرة عربية فقط، حيث يتجه الكتاب، في أنحاء العالم، إلى الرواية «لأنها الأكثر انتشارا ومردودا ماديا ومعنويا معا».
في المغرب، مثلا، أخذ تحول عدد من الشعراء إلى الرواية، إما بشكل دائم أو مؤقت، شكل الظاهرة المثيرة للانتباه والتتبع والدرس، في وقت يدعو فيه كثيرون إلى الكف عن الكلام حول الأجناس الأدبية أو الفنية، مشددين على أن المهم ليس الكلام عليها، بل إنتاجها بشكل رائع، ما يعني أن العبرة تبقى بقيمة ما يكتب، وأن صفة شاعر أو روائي ليست قدرًا يحصر المبدع ضمن خانة إبداع أبدية، تتطلب منه الحصول على ترخيص مسبق للكتابة تحت لواء جنس أدبي آخر غير الجنس الذي اشتهر بالكتابة تحت سقفه.
ومن بين المبدعين المغاربة الذين عرفوا شعراء قبل أن يتحولوا، إما بشكل دائم أو مؤقت، إلى الرواية، نذكر حسن نجمي، وفاتحة مرشيد، ومحمد الأشعري، والطاهر بن جلون: لكلٍّ منطلقاته التي يبرر بها اختياره، في حواراته وكتاباته في الموضوع. حسن نجمي، مثلا، سيعلق على صدور «جيرترود»، عمله الروائي الثاني، بقوله إنها ليست المرة الأولى التي يعبُر فيها إلى الكتابة السردية، مشيرا إلى أنه كتب ونشر نصوصًا سردية متعددة ليست رواية «الحجاب» أولها، مشددا على أن «العبور إلى أجناس أخرى خارج الشعر، لا يعني بأي حال تخليًا عن القصيدة»، قبل أن يستدرك: «أحيانا أشعُر أنني لا أستطيع أن أكتب شيئًا آخر غير الشعر. أحيانا أرى أنني لا أصلح لشيء آخر غير الشّعْر، وأحيانا أخرى أدرك أنني قادر على أنْ أُجَرِّبَ نفسي في أكثر من جنس أدبي، وفي أكثر من تعبير. مسألة مزاج واستعداد وميول ورغبة بلا شك».
يوسع نجمي من مشهد الظاهرة، مشددا على أنه ليس حالة شاذة في المشهد الإبداعي العربي والعالمي، وأنه لم يكن الشاعر الوحيد الذي كتَبَ الشعر والرواية، معددًا الأسماء المعروفة التي كتبت الشعر والرواية مغربيا، عربيا وعالميا.
يشدد نجمي على أنه «ليس هناك من فاصل هندسي واضح بين الحالة الشعرية والحالة الروائية»، وأنه فيما يكتب الرواية، يبقى في العمق شاعرا، وأنه يتعامل مع الأحداث والوقائع والشخصيات بروح الشعر، مشيرا إلى أن للرواية تقنياتها المعلومة، وأنه لا يستطيع التخلص من وضعيته الاعتبارية بوصفه شاعرا، ولا يفصل نفسه عن العلاقة الشعرية مع الأشياء والموجودات واللغة والآخرين والمجتمع، مشددا على أن كل ذلك ينبغي أن لا يتحول إلى نوع من التحايل أو الإحساس بالضعف.
لا يرى نجمي تغيرا في طقوس الكتابة لديه، سواء لبس جبة الشاعر أو معطف الروائي، مشددا على أنه يكتب «بنفس الطريقة والطقوس، وبنفس اللحظة الملائمة للمزاج وروح الكتابة، سواء في كتابة القصيدة أو الرواية».
من جهتها، ترى فاتحة مرشيد أنه «لا شيء يمنع الكاتب من تغيير أشكال تعبيره والانتقال من جنس أدبي إلى آخر»، وأنه «ليس محكوما على الشاعر أن يظل شاعرا، أو على الروائي أن يظل روائيا»، من جهة أن الكتاب لا يملكون «ترف اختيار الجنس» الذي يكتبون فيه، وأن «الفكرة هي التي تختار الشكل الذي ستكتب به».
من جانبه، يتصور محمد الأشعري الكتابة حقلا مفتوحًا يجري فيه تلاقح مستمر بين مختلف التعبيرات الفنية والأدبية، ويرى أن هناك تصادما مستمرا بين الشعر والتشكيل والسينما والرواية والقصة، بطريقة تجعلنا نعثر، أحيانا، على أجمل الشعر بعيدًا عن القصيدة، قبل أن يشدد على أن ما يهمه، في هذا الانتقال بين الأجناس الأدبية، ليس التنوع أو التعدد، بل الحرية التي تسمح له بالبحث المستمر عن إمكانات جديدة في الكتابة، من دون أن يخفي أن هاجسه الأساسي في هذا البحث يظل شعريًا.
أما بن جلون، الذي أصدر ديوانه الأول عام 1972، قبل أن يكرّس جهده للرواية، ويفوز سنة 1987 بجائزة «غونكور» عن روايته «ليلة القدر»، فيعترف، في أحد حواراته، بأن تعبيره الأثير هو الشعر، مشددا على أن «الشعر ليس مهنة، إنه حالة، ونعمة نادرا ما تحلّ. الشعر لا يُدعى، لا يُنادى، لا يُكتب على الطلب. إنه يأتي من تلقاء عنفه وجنونه وصفائه. يجتاحنا. تولد فجأة في داخلنا حاجة ملحة وطارئة إلى كتابته. لا يسعنا الرفض. وأحيانا كثيرة يمتنع عن القدوم مهما توسّلناه (...) أما الرواية فلا تتبع هذه الشروط (...) فضلا عن ذلك، فإن العصر الذي نعيش فيه لا يحبّ الشعر، بل يؤلّه البضاعة، المنتج التجاري، أكان هذا المنتج شيئا، أم إنسانا، أم جسد امرأة، أم نجومية ما. نعيش في عالم لا يفسح مكانا سوى للسلعة، والشعر هو المفهوم المضاد للسلعة بامتياز».
يقارن بن جلون، الذي سبق له أن فاز سنة 2010 بـ«جائزة الأركانة العالمية للشعر» التي يسلمها «بيت الشعر في المغرب»، بين الشعر والرواية، حتى يبرر انحيازه إلى السرد، خاصة حين يؤثث لكلامه بمفهوم البضاعة، ومنطق السوق الذي يحتفي بكل ما يباع بشكل جيد، لذلك يشدد على أن «الرواية ترافق العصر»، وأنها مرآته، لأنها «أكثر قدرة على احتمال بشاعته».
لا تفعل وجهة نظر بن جلون أكثر من الإفصاح عن عنوان كبير يسم واقع الممارسة الشعرية، على الصعيد الكوني، يحركه سؤال الجدوى من الشعر. وفي هذا السياق، ينطلق الشاعر الفرنسي جاك روبو من جملة حقائق صادمة، بصدد الانحسار المتزايد للشعر، ليصل إلى حقيقة أن هذا الوضع هو نتيجة شبه «الغياب الاقتصادي» للشعر، حيث لم تعد للشعر أهمية، وبالتالي هو غير قابل للبيع، قبل أن يطرح سؤال «من المسؤول؟»، ليجيب بأن مسؤولية هذا الوضع تنسب، بإصرار مؤثر، إلى الشعراء أنفسهم، حيث يتم اللجوء، دائمًا، إلى مجموعة من الاتهامات لتفسير وتبرير اللامبالاة التجارية، من قبيل أن الشعراء المعاصرين عصيّون على الفهم، نخبويون ونرجسيّون، لا ينقلون ما يحصل فعليًا في العالم، ولا يتدخّلون لتحرير الأسرى ولمحاربة الإرهاب، كما لا يطرحون حلاً للشرخ الاجتماعي، ولا يفعلون شيئًا لإنقاذ العالم، ولا يتكلّمون لغة الجميع، ولذلك ليس لديهم قرّاء.
على عادة الشعراء، يدافع روبو عن الشعر وجدواه، مشددًا على أنه ليس من المُفيد، أبدًا، التعليق على مثل هذه الاتهامات، قبل أن يطرح جملة أسئلة، من قبيل «أما زال بوسعنا أن نقول شاعر»، لنصل معه إلى أن الضعف الذي يطال الشعر، على المستوى الاقتصادي، يؤدّي إلى «ازدراء مُعلَن»، من قبل هذا العالم، إزاء من يتجرأون على المطالبة بصفة «شاعر»، والنتيجة المنطقية لكل هذا، بالنسبة إلى العالم، «أن تكون شاعرًا لا يعني شيئًا في الحقيقة»، وبالتالي «ليس مُستغربًا أن يثير اتخاذ صفة الشاعر، بالنسبة إلى الكثيرين، في أيامنا هذه، السخرية، وحتى الخجل»، وهو ما يؤدي إلى انتقال شعراء مُمتازين، أحبطت عزائمهم، لعدم التجاوب مع أعمالهم، لممارسة أنشطة أخرى، يرتبط بعضها بالإعلام، مثلا، أو حتى بمهن لا علاقة لها، من قريب أو من بعيد، بالإبداع والكتابة.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.