قيصر الكرملين يستلهم انتصارات باني الإمبراطورية الروسية

طيف بطرس الأكبر يحوم فوق أوكرانيا... ومدافعه منصوبة في البلطيق والبحر الأسود

الرئيس الروسي يتحدث خلال مؤتمر صحافي في موسكو أمس (إ.ب.أ)
الرئيس الروسي يتحدث خلال مؤتمر صحافي في موسكو أمس (إ.ب.أ)
TT

قيصر الكرملين يستلهم انتصارات باني الإمبراطورية الروسية

الرئيس الروسي يتحدث خلال مؤتمر صحافي في موسكو أمس (إ.ب.أ)
الرئيس الروسي يتحدث خلال مؤتمر صحافي في موسكو أمس (إ.ب.أ)

منذ أن أعلن الرئيس فلاديمير بوتين قرار ضم القرم في مارس (آذار) 2014، لم تتوقف المقارنات التاريخية والسرديات التي ملأت صفحات وسائل الإعلام، وانخرطت فيها نخبة لا بأس بها من الخبراء وعلماء السياسة ونجوم التحليل التلفزيوني.
كانت العبارة الأوسع انتشاراً في تلك الفترة تتعلق بـ«استعادة» جزء من الوطن المضاع في سنوات «الخضوع» و«المهانة» و«ضياع الهوية الوطنية». وكانت المقارنات تُعقد بين إنجاز سيد الكرملين الحديث بوصفه امتداداً لانتصار الإمبراطورة كاترين الثانية التي أعلنت ضم القرم للمرة الأولى في 1783. منذ ذلك الحين، ظلّ تاريخ روسيا حاضراً في مناقشة سياساتها حيال محيطها القريب. لذلك، لم يكن مستغرباً أن يستغرق الرئيس الروسي طويلاً في تفاصيل تاريخية، في خطابين مهّدا لاندلاع الحرب الجارية في أوكرانيا، الأول مساء 21 فبراير (شباط) عندما أعلن الاعتراف بسيادة لوغانسك ودونيتسك، والثاني فجر 24 فبراير عندما أطلق شرارة الحرب.
ومنذ ذلك الحين، بدا واضحاً أن بين أبرز ما يشغل بال الرئيس وهو يخوض مواجهته الكبرى مع الغرب والعالم، هو موقعه المحتمل على صفحات التاريخ لاحقاً، وأن يحجز مكاناً له بين عظماء البلاد الذين أعادوا هيبتها وصنعوا أمجادها. لكن استحضار الرئيس الروسي، أول من أمس (الخميس)، إنجازات الإمبراطور الأبرز بطرس الأكبر، لم تكن مجرّد محاولة لعقد مقارنات مع الرجل الذي ارتبط اسم روسيا العظمى لقرون باسمه. والأبرز من ذلك، برر بوتين خطواته الحالية بسياسات أعظم قياصرة البلاد، ما كشف جانباً مهماً من دوافع سياساته في السنوات الماضية.
المغزى الأهم الذي حملته عبارات الرئيس هو أنه ينفذ «وصايا» الإمبراطور الروسي. وشبّه بوتين سياسته بتلك التي كان يتّبعها بطرس الأكبر حين قاتل السويد وغزا قسماً من أراضيها وفنلندا وأجزاء من إستونيا ولاتفيا. وقال الرئيس: «إنه أمر مدهش، كأنّ شيئاً لم يتغيّر... بطرس الأكبر خاض حرب الشمال على مدى 21 عاماً. يسود انطباع بأنه خلال الحرب مع السويد استولى على شيء ما. هو لم يستولِ على أي شيء بل استعاد». هذه العبارة ذاتها، التي وظّفها مراراً الرئيس الروسي في تبرير حرب أوكرانيا، من خلال تأكيد أن هذا البلد «مصطنع» وأن هذه الأرض «روسية».
قال سيد الكرملين: «عندما أسّس (الإمبراطور) عاصمة جديدة في سان بطرسبرغ، لم يعترف أي من بلدان أوروبا بأن هذه الأراضي تابعة لروسيا. كان العالم بأسره يعدّها جزءاً من السويد»، وأردف: «كان بصدد الاستعادة والتدعيم. يبدو أنه يتعيّن علينا حالياً أن نستعيد وأن نُدعّم!»، وأوضح أن «هناك حقبات في تاريخ بلادنا اضطررنا فيها إلى التراجع، إنّما فقط لاستعادة قوانا والمضي إلى الأمام».
على هذه الخلفية، لم يكن غريباً أن تولي روسيا اهتماماً خاصاً هذا العام بالاحتفال بمرور 350 سنة على ميلاد بطرس الأكبر. وصحيح أن مرسوم الإعداد للاحتفالات الكبرى سبق منذ زمن الحرب الأوكرانية، لكنّ روسيا كما أعلنت أكثر من مرة أنها أعدت لهذه المعركة منذ 2014 واستنفدت الطرق السياسية قبل أن تصل إلى النتيجة المحتومة فيها. والأهم أن استرجاع ذكرى بطرس الأكبر بهذه الطريقة وفي هذا التوقيت، يحمل دلالات كبرى على خلفية الحرب الجارية، إذ لا يغيب أنه في عام 1709، وقعت أهم معركة في تاريخ روسيا في ذلك الوقت، حين واجه بطرس الأكبر وقواته الجيش السويدي بقيادة الملك شارل الثاني عشر في منطقة بولتافا التي تقع اليوم في شمال شرقي أوكرانيا (جنوب غربي خاركيف). تمكَّن بطرس في هذه الموقعة من سحق الجيش السويدي والقضاء على قوته الصاعدة في شمال غربي وشمال وسط أوروبا، واضطرت الهزيمة الملك السويدي شارل إلى الهرب صوب الدولة العثمانية لاجئاً، فيما تمكَّن بطرس من توسيع رقعة دولته إلى شمال شرقي أوكرانيا وبيلاروسيا وجزء كبير من بولندا الحالية.
ويبدو أن طيف بطرس الأكبر يحوم حالياً في أجواء أوكرانيا وعلى مساحات واسعة في حوض البلطيق والبحر الأسود، وهو الذي كان صاحب الفضل في إطلاق «المعركة الكبرى» التي جعلت روسيا بين القوى العظمى وسيطر خلال سنوات حكمه التي استمرَّت أكثر من ثلاثين عاماً. اللافت كما كتب أحد دارسي التاريخ أخيراً، أن الاستراتيجية التي اتّبعها بطرس الأكبر قبل ثلاثة قرون تبدو كأنها سائرة نحو التطبيق العملي حالياً في حروب الرئيس الروسي في القوقاز وأوكرانيا والبحر الأسود وغيرها.
شملت وصايا الإمبراطور بطرس الأكبر إشارات إلى ضرورة إخضاع مناطق القوقاز والقرم البلطيق وأوكرانيا، وضرورة ديمومة التهديد الروسي لفنلندا والسويد، وجعل الكنيسة الأرثوذكسية في المكانة اللائقة بها عالمياً بوصفها «روما الثالثة» وقِبلة المسيحيين، فضلاً عن لعب الروس على استثارة النزاعات والخلافات بين القوى الأوروبية. نقل بعض المؤرخين مقاطع من تلك الوصايا، فيها أنه أكّد ضرورة وديمومة الحرب، و«من الضروري أن تعتاد العساكر على الحرب والقتال دائماً، وينبغي للأمة الروسية أن تكون على أُهبة الاستعداد، مع ضرورة ترك وقت لراحة العساكر من أجل إصلاح الشؤون المالية، وتنظيم العساكر باستمرار حتى يحين الوقت المناسب للهجوم. وعلى هذه الصورة، ينبغي لروسيا أن تستفيد من وقت الصلح والأمان في توسيع مجال منافعها، فتتخذ من الصلح وسيلة للحرب».
ومن الوصايا ضرورة انخراط الروس في شؤون القارة الأوروبية، لأن توحُّد أوروبا يُعَدُّ خطراً على المصالح الروسية، ويقول: «ينبغي التدخُّل في مجريات الأمور والأوضاع في أوروبا كلما لاحت الفرصة، كما ينبغي التدخُّل في الخلافات والمنازعات الجارية بها، خصوصاً ما يجري في ألمانيا القريبة منّا للاستفادة من ذلك مباشرة».
وينسحب التدخل المطلوب على الشؤون السويدية والبولندية، لأنهما ضمن المجال الجيوسياسي القريب والمباشر لروسيا. وهنا، فقد أوصى الإمبراطور الكبير باستخدام كل الوسائل، «بما في ذلك الرشوة والفساد وإثارة الاضطرابات الداخلية في بولونيا (بولندا)، واستمالة أعيانها عن طريق تقديم الأموال لهم، والعمل على السيطرة على مجلس الحكومة». لكن مع هذا «التنفيذ الحرفي» لوصايا بطرس الأكبر، يبدو التباين واضحاً بين الآليات التي استخدمها كلا الزعيمين لجعل روسيا بلداً عظيماً محاكاً بالهيبة والاحترام.
فقد ذهب بطرس الأكبر نحو الغرب لاستقدام الخبراء وتطوير آليات عمله وأساليب إدارة الدولة، واتجاهه في حالات نحو «التغريب» الكامل لقلب أوضاع البلاد من إقطاعيات للفلاحين إلى بلد قوي بصناعته وقدراته وخصوصاً على الصعيد العسكري. ووفقاً لبعض الروايات التاريخية، فقد أمر بطرس الأكبر الرجال بقص لحاهم الطويلة والنساء بتقصير أثوابهن في إطار سعيه لتغيير مظهر البلاد وقناعاتها السائدة لتواكب عصر النهضة والتغيير.
في المقابل، فقد اتجه بوتين بعكس المسار مبتعداً عن الغرب ومنتقداً آليات إدارة القرار فيه، ومعتقداته وثقافته السياسية والاجتماعية. وقاد بطرس الأكبر مواجهته الكبرى مع الغرب في «فضاء روسيا الحيوي» وهو يتعلم فنون بناء الأساطيل البحرية في لندن، ويستقدم العلماء والخبرات من فرنسا وألمانيا، بينما يخوض الرئيس الروسي حالياً معركته الكبرى وهو معزول خلف جدران عالية ونخبه مُعاقَبة، وطائرة وزير خارجيته تلاحقها العقوبات وتطردها من سماء أوروبا.


مقالات ذات صلة

تقرير: فريق ترمب يدرس خطة للعقوبات لإنهاء حرب أوكرانيا والضغط على إيران

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال مؤتمر صحافي في «مارالاغو» يوم 7 يناير (رويترز)

تقرير: فريق ترمب يدرس خطة للعقوبات لإنهاء حرب أوكرانيا والضغط على إيران

كشفت وكالة «بلومبرغ» للأنباء، نقلاً عن مصادر، أن مستشاري الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يدرسون خطة بشأن العقوبات.

أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر يوقعان اتفاقاً تاريخياً (أ.ب)

زيلينسكي وستارمر يوقعان في كييف شراكة تاريخية لـ«مائة عام»

وقّع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، الذي تعدّ بلاده من أبرز داعمي أوكرانيا في حربها ضد روسيا، اتفاقاً «تاريخياً».

«الشرق الأوسط» (كييف)
الولايات المتحدة​ ترمب وروبين في حدث انتخابي في كارولاينا الشمالية 4 نوفمبر 2024 (رويترز)

روبيو... صقر جمهوري لمنصب وزير الخارجية

حرص ماركو روبيو، الذي اختاره دونالد ترمب لوزارة الخارجية في إدارته الجديدة، أمام مجلس الشيوخ، الأربعاء، على مهاجمة الصين.

رنا أبتر (واشنطن)
الخليج الوساطة الإماراتية نجحت حتى الآن في إتمام 11 عملية تبادل أسرى حرب بين روسيا وأوكرانيا (الشرق الأوسط)

وساطة إماراتية جديدة بين روسيا وأوكرانيا تنجح في إطلاق 50 أسيراً

قالت الإمارات إنها نجحت في جهود وساطة بين روسيا وأوكرانيا في إنجاز عملية تبادل أسرى حرب جديدة شملت 50 أسيراً من الجانبين الأوكراني والروسي.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
أوروبا انفجار طائرة مسيّرة في سماء العاصمة الأوكرانية كييف أثناء غارة روسية، وسط هجوم روسيا على أوكرانيا، 14 يناير 2025 (رويترز)

مستشار بوتين: أوكرانيا ومولدوفا قد تفقدان استقلالهما

قال مستشار للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن أوكرانيا ومولدوفا يمكن أن تفقدا وضعهما كدولتين مستقلتين، وذلك في مقابلة مع صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» الروسية.

«الشرق الأوسط» (موسكو)

360 صحافياً مسجونون في العالم... والصين وإسرائيل في صدارة القائمة السوداء

عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية عام 2024 (أرشيفية)
عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية عام 2024 (أرشيفية)
TT

360 صحافياً مسجونون في العالم... والصين وإسرائيل في صدارة القائمة السوداء

عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية عام 2024 (أرشيفية)
عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية عام 2024 (أرشيفية)

أعلنت لجنة حماية الصحافيين، اليوم الخميس، أنّ عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية عام 2024، مشيرة إلى أنّ إسرائيل احتلّت، للمرة الأولى في تاريخها، المرتبة الثانية في قائمة الدول التي تسجن أكبر عدد من الصحافيين، بعد الصين.

وقالت جودي غينسبيرغ رئيسة هذه المنظمة غير الحكومية الأميركية المتخصصة في الدفاع عن حرية الصحافة، في بيان، إن هذا التقدير لعدد الصحافيين المسجونين هو الأعلى منذ عام 2022 الذي بلغ فيه عدد الصحافيين المسجونين في العالم 370 صحافياً. وأضافت أنّ هذا الأمر «ينبغي أن يكون بمثابة جرس إنذار».

وفي الأول من ديسمبر (كانون الأول)، كانت الصين تحتجز في سجونها 50 صحافياً، بينما كانت إسرائيل تحتجز 43 صحافياً، وميانمار 35 صحافياً، وفقاً للمنظمة التي عدّت هذه «الدول الثلاث هي الأكثر انتهاكاً لحقوق الصحافيين في العالم».

وأشارت لجنة حماية الصحافيين إلى أنّ «الرقابة الواسعة النطاق» في الصين تجعل من الصعب تقدير الأعداد بدقة في هذا البلد، لافتة إلى ارتفاع في عدد الصحافيين المسجونين في هونغ كونغ، وفق ما ذكرته «وكالة الصحافة الفرنسية».

أمّا إسرائيل التي تعتمد نظام حكم ديمقراطياً يضمّ أحزاباً متعدّدة، فزادت فيها بقوة أعداد الصحافيين المسجونين منذ بدأت الحرب بينها وبين حركة «حماس» في قطاع غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

وأكّدت المنظمة غير الحكومية ومقرها في نيويورك أنّ «إسرائيل حلّت في المرتبة الثانية بسبب استهدافها التغطية الإعلامية للأراضي الفلسطينية المحتلّة».

وأضافت اللجنة أنّ هذا الاستهداف «يشمل منع المراسلين الأجانب من دخول (غزة) ومنع شبكة الجزيرة القطرية من العمل في إسرائيل والضفة الغربية المحتلة».

وتضاعف عدد الصحافيين المعتقلين في إسرائيل والأراضي الفلسطينية خلال عام واحد. وأفادت المنظمة بأنّ إسرائيل التي تعتقل حالياً 43 صحافياً جميعهم من الفلسطينيين تجاوزت عدداً من الدول في هذا التصنيف؛ أبرزها ميانمار (35)، وبيلاروسيا (31)، وروسيا (30). وتضمّ قارة آسيا أكبر عدد من الدول التي تتصدّر القائمة.

وأعربت جودي غينسبيرغ عن قلقها، قائلة إن «ارتفاع عدد الاعتداءات على الصحافيين يسبق دائماً الاعتداء على حريات أخرى: حرية النشر والوصول إلى المعلومات، وحرية التنقل والتجمع، وحرية التظاهر...».