ما أن تدخل «مسرح كركلا» في «مركز أيفوار»، في منطقة سن الفيل حتى تشعر بأنك في حضرة محترف فني لا يشبه غيره. فهو يعبق بعطور فنية من سحر الشرق تغمرك منذ ولوجك الباب الخشبي المزخرف المؤدي إلى غرفة الاجتماعات الخاصة بـ«المايسترو». وهو اللقب الذي يحب فريق عمل عبد الحليم كركلا أن يناديه به.
وفي ديكور شرقي يشبه إلى حد بعيد جلسات القرية البعلبكية العريقة التي ينتمي إليها، يستقبلك مؤسس «فرقة كركلا» مرحباً وبشوشاً. ولأنك تقف أمام أحد عمالقة الفن اللبناني الأصيل، تدرك أهمية هذه اللحظة. فشعاع أفكاره المبدعة المتوالدة عنده حتى ولو كان يلوذ بالصمت، ينعكس عليك لا شعورياً. فهو رمز من رموز الوطن الذي بقي منتصباً في وجه المصاعب. أما سرّ احتفاظه بفريقه المتعاون معه منذ سنوات طويلة، فيمكنك أن تخمنه من حب وولع يكنه له. فكل فرد منه ومن دون استثناء يردد على مسمعك أن من يتعاون مع «المايسترو» يصيبه سحره، فيعيش معه تجارب فنية ممتعة تشبه الأحلام.
بطلا «جميل وبثينة» أمل بوشوشة وسامر إسماعيل
المهمة: متابعة التدريبات النهائية لمسرحية «جميل وبثينة»
الزمان: الواحدة ظهراً. المكان: «مسرح كركلا». المناسبة: دعوة من «المايسترو» للوقوف على التدريبات النهائية للمسرحية الغنائية الاستعراضية «جميل وبثينة» قبل أن تحط رحالها في الرياض. هذه المحطة هي الثانية من نوعها في المملكة العربية السعودية بعد منطقة العلا، حيث قدم العمل نفسه في عام 2020. أما العروض الجديدة، فستجري على «مسرح جامعة الأميرة نورة» في الرياض من 10 إلى 14 يونيو (حزيران) الجاري.
وبعد أن تتآلف مع وهج عبد الحليم كركلا، تبدأ في اكتشاف وجود أشخاص آخرين في مكتبه يعرفك إليهم الواحد تلو الآخر. من بينهم اعتدال حيدر إحدى نجمات «مسرح كركلا» في السبعينات، والفنان جوزف عازار أحد أعمدة الفن اللبناني العريق والشاعر هنري زغيب واحد من أصدقائه المقربين. تنطلق «الشرق الأوسط» في رحلتها الفنية مستهلة إياها مع مؤسس أول مسرح عربي راقص. كان يتوجه إلى الفنان جوزف عازار ببعض التعديلات التي سيجريها على العمل. فأسأله ما إذا العمل يتأثر عادة بالموقع الذي يعرض فيه ولو كان في البلد نفسه. يرد كركلا: «إن المكان بحد ذاته يفرض أسلوب الإخراج المناسب. فعندما تقدمين العمل في بعلبك مثلاً، فلن تكون تغليفته شبيهة بتلك التي تقدم في «قصر البيكاديللي». المكان يفرض وجوده، إضافة إلى الجمهور الذي يتم التوجه إليه». ويتابع: «مساحة المسرح، تسهم في تغيير شكل العمل وليس المضمون. فكل عمل نقدمه يستغرق بحدود الثمانية أشهر من تدريبات وتحضيرات، ويجب أن يبقى محتواه على حاله. التغييرات مرات كثيرة وطبيعة البلد الذي نزوره. فعندما نقدم المسرحية في أوروبا أو أميركا نترك الأغاني والموسيقى والملابس على ما هي عليه، في المقابل نلون بعض الحوارات بالإنجليزية. أذكر أن جوزف عازار، اضطر مرة أن يغني بالإيطالية كي يزود الحضور بما يشبه هويتهم». وبرأي كركلا أن كل مكان في العالم له خصوصيته، وهو ما يدفعه أحياناً إلى تغيير الشكل الفني، وليس الموضوع الأساسي للعمل.
تحكي مسرحية «جميل وبثينة» قصة حب مستحيلة
هنا يقوم الشاعر هنري زغيب بمداخلة من باب التوضيح: «موضوع العمل هو بمثابة الجسد، واللغة هي الثوب الذي يتزين به. وعندما يتغير الزي يبقى الجسد على حاله، وهو أمر طبيعي. لأن الثياب لا تبدل من شكل الجسد فيبقى كما هو ولكن بغير حلّة».
طلب من عبد الحليم كركلا سعودة العمل، عندها لم يستوعب معنى الكلمة للوهلة الأولى كما ذكر لـ«الشرق الأوسط». «ومن ثم اكتشفت أنه علي تلوينه بعناصر فنية سعودية، وفرحت لهذا الاقتراح وتبنيته بسرعة. قصدت الرياض وهناك التقيت بممثلين سعوديين، تفاعلنا معاً بشكل ممتاز. بعد احتكاكي بهم من خلال التدريبات والتسجيلات، اكتشفت أنهم فنانون من الدرجة الأولى ويتمتعون بمستوى فني رفيع». كما تمت الاستعانة بفرقة رقص شعبي من شمال السعودية ومن منطقة العلا بالذات مسقط رأس جميل بن معمر المشهور بجميل بثينة وبطل قصة المسرحية. عاد كركلا بالزمن إلى تلك الحقبة، وأدخل حوارات باللهجة السعودية إلى العمل. كما لون بعض المشهديات بأجواء شبه الجزيرة العربية، فتضمن مثلاً مشهد زفاف بثينة لوحات فنية سعودية.
يفوق عدد المشتركين في هذا الحدث الفني المائة وخمسين شخصاً من مبدعين وتقنيين ومهندسين وغيرهم، ويعود السيناريو والحوار والموسيقى وتصميم الأزياء لعبد الحليم كركلا. أما الإخراج والكوريغرافيا فيعودان إلى نجليه إيفان وأليسار كركلا. ومن ناحية الإضاءة والسينوغرافيا والديكور الافتراضي، فجرى التعاون مع مبدعين عالميين لهم خبراتهم الرائدة في الأعمال الأوبرالية والباليه على أرقى المسارح ودور الأوبرا في العالم، ويشكلون فريقاً متجانساً مع «مسرح كركلا» منذ عقود.
تحكي مسرحية «جميل وبثينة» قصة حب مستحيلة
«أسطورة عشق في العلا» أو «جميل وبثينة» هي مسرحية غنائية راقصة. العمل مستوحى من الذاكرة التاريخية لمدينة العلا، التي سطعت في سمائها نجمة حب، وعلى رمالها أزهرت حكاية عشق، بقيت حية عبر الزمان. إنها قصة «جميل وبثينة» التي طبعها الفراق كغيرها من قصص الحب الخالدة. بثينة يزوجها والدها بمن يليق بربعها وجميل يتوه في الأوطان كي ينسى الألم والحزن اللذين تسببان بهذا الفراق.
أمل بوشوشة: هذه التجربة
يتمناها كل فنان
يلعب أدوار شخصيات مسرحية «جميل وبثينة» أمل بوشوشة وسامر إسماعيل وجوزف عازار وغبريال يمين إضافة إلى سيمون عبيد ومحمد حجيج وألكو داود وبدر الغامدي وعبد الهادي الشاطري وغيرهم. وتطل الفنانة هدى حداد كضيفة شرف مؤدية دور والدة بثينة.
وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» تشير أمل بوشوشة التي تجسد شخصية بثينة، إلى أن تجربتها مع «مسرح كركلا» العريق هي محطة مضيئة في مشوارها الفني. وتتابع: «أعتقد أن كل فنان يتمنى أن يكون جزءاً من هذه التجربة ويسجلها في ريبيرتواره المهني. كنت سعيدة جداً، عندما اتصل بي أستاذ كركلا عارضاً علي المشاركة في العمل. المسرحية إلى جانب كونها استعراضية وفنية بامتياز ترتبط ارتباطاً مباشراً بالأدب العربي، وتجسد شخصيات حقيقية من أرض الواقع حفرت بأسمائها في حقبة تاريخية معينة. فعندما يكون لديك كل هذه المعطيات، لا يمكنك إلا أن تفتخري بتجربة من هذا النوع».
أحبت بوشوشة شخصية بثينة التي تجسدها وهي تعتبرها نموذجاً للمرأة العاشقة. «الحب هو دينامو الحياة ومحرك الروح. وليس من السهل الالتقاء بحب حياتنا. وبثينة تمثل كل امرأة أحبت بصدق». يتضمن دور بوشوشة خليطاً من المشاعر تتراوح بين العشق وخيبات الأمل. فكيف حضرت له؟ ترد: «الشخصية بحد ذاتها هي كتلة مشاعر وتكمن لعبة ممثلها بجمع عناصر الحدوتة بأكملها بتناغم. فالمسرح يزودك بمساحة كبيرة غير الدراما التلفزيونية. ومن خلال هذه المساحة تحلقين بمشاعرك سيما وأن القصة حقيقية وأشخاصها غير وهميين».
بوشوشة التي تمثل الجيل الحديث في الفن، كيف تصف تجربتها هذه المتصلة بتاريخ قديم وعريق؟: «طالما أحببت المواد الأدبية منذ صغري، وأنا شغوفة جداً بمادة التاريخ. وعادة أحب مشاهدة الأفلام الوثائقية وأراقب من خلالها أحداثاً غيرت العالم. عندما زرت موقع العلا ومشيت على الأرض نفسها التي عاشت فيها بثينة تأثرت كثيراً، وشعرت كأني أم إلى ذلك الزمن. فهذا الربط المتواصل بين الإحساس الذي يغمرك واللحظة التي تجسدينها من زمن عريق، يحضر عندي بشكل مباشر وأستمتع به كثيراً».
التدريبات خلية نحل
تبدأ التمرينات على المسرحية ويتحول الجميع إلى خلية نحل لا تتعب. عبد الحليم كركلا يقف حيناً لإعطاء ملاحظاته، ويستريح مراقباً حركة الممثلين حيناً آخر. أمل بوشوشة تعتلي المسرح تقدم وصلتها وتنزل إثر دخول فريق الرقص. يغيب عن هذه التدريبات سامر إسماعيل (جميل بثينة) بسبب وعكة صحية ألمت به. يطل جوزف عازار مجسداً شخصية والد بثينة، ويقدم مشهده الذي يتطلب أداء مشبعاً بالعنفوان. ويعلق لـ«الشرق الأوسط»: «العمل مع كركلا هو بمثابة تجدد دائم، ومهما كنت تعباً أشعر بالراحة وبولادة فنية جديدة». ويتنقل غبريال يمين بين الراقصين مفتتحاً المسرحية حاملاً مهمة الراوي الذي يربط أحداث القصة ببعضها البعض. وعندما أسأله عن صعوبات هذه المهمة يرد: «أفضل القيام بها مباشرة على المسرح، ولكنها هنا مسجلة، وعلي أن أعرف متى أبدأ وأختم كلامي من دون ارتكاب أي خطأ».
وعلى موسيقى وألحان عبد الحليم كركلا تحلق مع الفريق الراقص ضمن لوحات تأخذك إلى عالم الأحلام، فتطير معها بين قصص حب لروميو وجولييت وعنتر وعبلة وغيرهم ولتحط رحالها عند قصة جميل وبثينة. رحلة حول العالم تخوضها وأنت تتابع أحداث «جميل وبثينة» يطبعها الفولكلور السعودي وصوت هدى حداد الأنيق واللبناني العريق. تتعاطف مع جميل مرة وتحرق قلبك بثينة مرات بحزنها. واثقو الخطوة يمشون أبداً تبعاً لتعليمات المايسترو كركلا، نتابع أداء سيمون عبيد (نبيه بن الأسود)، ونستمتع بحرفية ألكو داود في دور الخليفة في بلاد الشام، ومحمد حجيج متقمصاً دور صديق نبيه (زوج بثينة). مشهديات سريعة تروي قصة حب، تعزز هذا التواصل بين حقبة من التاريخ والجغرافيا والعصر الحديث. فتدور في قالب إبداعي، تترك ببصمات عبد الحليم كركلا على عمل مسرحي عناصره الفنية متكاملة.
«جميل وبثينة» إلى الرياض بعد العلا... فسيفساء فنية مكتملة العناصر
يقدمها «كركلا» ضمن 5 حفلات على «مسرح جامعة الأميرة نورا»
«جميل وبثينة» إلى الرياض بعد العلا... فسيفساء فنية مكتملة العناصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة