تشرشل... سيرة جديدة تناقض كتب التاريخ والصحافة الشعبية

طارق علي يكتب سردية صادمة عن بطل بريطانيا القومي

ونستون تشرشل
ونستون تشرشل
TT

تشرشل... سيرة جديدة تناقض كتب التاريخ والصحافة الشعبية

ونستون تشرشل
ونستون تشرشل

بإضافة كلمة «جرائمه» إلى عنوان أحدث سيرة صدرت عن السير ونستون تشرشل، يَعِدُ طارق علي، المفكر اليساري البريطاني من أصل باكستاني، القارئ بـ«سرديّة تخالف تلك السائدة في كتب التاريخ المدرسي والصحافة الشعبيّة البريطانيّة» التي لطالما قدمت رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالميّة الثانية كأفضل زعيم بريطاني على الإطلاق، وتوّجته بطلاً قومياً لها. والواقع أن تلك مهمّة صعبة تولاها علي، ليس لقلّة المواد أو غياب الوثائق، فهذه، في الحالة التشرشليّة تحديداً، متوفرة بكثافة، وهناك أرشيف ضخم عن دور الرجل وحياته المهنيّة ومساهماته تحتفظ به الدّولة البريطانيّة بأشكال متعددة، كما وثائق مجتمعات كثيرة من الهند إلى مصر إلى كينيا تعاطى معها في إطار المهمات السياسيّة المتعاقبة التي تولاها ضمن هيكليّة النظام البريطانيّ.
لكن الصعوبة متأتية من أمرين أولهما تعمّق سرديّة تشرشل كبطل قومي في المخيال الشعبي البريطانيّ، وتبني المؤسسة لها، وتماهي كثير من السياسيين البريطانيين معها –لا سيّما في حزب المحافظين الحاكم وحزب تشرشل تاريخياً– بمن فيهم رئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسون، الذي وضع كتاباً تمجيدياً عنه، ويعده ملهمه وشيخه الأكبر. وثمّة بالإنجليزية، يقول عليّ، أكثر من 1600 كتاب أُلفت في مراحل مختلفة ومن زوايا نظر متفاوتة عن تشرشل تتوفر للعموم للاختيار منها، لكن لا يكاد أي منها يخرج عن الخطوط العريضة للسرديّة الرسميّة، اللهمّ ربّما في تفاصيل فنيّة لا تفسد للصورة السائدة قضيّة.
أما مصدر الصعوبة الآخر فلا شكّ هو بعد الشقّة زمنياً، إذ إن رئيس الوزراء العتيد رحل عن عالمنا منذ عقود، ومضت مرحلة الحرب العالمية الثانية التي تُوِّج نجماً لها بشكل كبير من حيّز الذاكرة الحيّة في أذهان من عاشوا تلك المرحلة إلى فضاء التاريخ البارد المحض بعدما فارق أغلبهم الحياة أو كادوا، فيما تبدو الأجيال الجديدة وقد فقدت بشكل عام الاهتمام بها، حتى إن استطلاعاً حديثاً للرأي يقول إن واحداً من كل خمسة مراهقين بريطانيين يعتقد جازماً بكون وينستون تشرشل شخصيّة خيالية من فضاء الروايات الأدبيّة أو مجلات الكوميكس.
في «وينستون تشرشل... أوقاته وجرائمه»، وفق علي، لن تجد إجزال الثناء المعهود على «رجل الدّولة»، أو التهويلات من نوعيّة «أفضل بريطاني في التاريخ»، ولا المزاعم بشأن «عبقريّة القيادة في الخطاب الشهير عن القتال على الشواطئ»، ولا حتى ما يشير إلى ذلك «القائد العنيد الذي أنقذ بريطانيا والعالم من النازية والفاشيست»، وبدلاً من ذلك، تجد قصة سياسي يميني متعصّب عرقيّاً، متطرف في المنافحة عن الاستعمار حد ارتكاب جرائم حرب، متحمّس لشن الحروب وإرسال الجنود إلى حتفهم بعكس نصائح كل رجاله، وأنموذج عريق في ممارسة القمع السياسي محلياً كما في مستعمرات الإمبراطوريّة التي كانت ذات يوم لا تغيب عنها الشمس –شمس للقهر لا للنّور.
وإذا كان أمر المختص بشؤون التاريخ سهلاً لناحية الأخذ بأيٍّ من هاتين الصورتين المتناقضتين بالكليّة، فإن التساؤل الذي لا شكّ يتبادر لذهن القارئ العادي بدايةً من تعبير «جرائمه» في عنوان الكتاب إلى خاتمته هو «أين الحقيقة إذن؟»، أيدع المرء 1600 كتاب من الإشادة بالرجل إلى كتاب واحد من الهجاء (السياسي)، لا سيّما وإن علمنا أن كاتب السيرة البديلة هذه ينتمي إلى تيار فكري يتناقض بالضرورة مع توجهات اليمين -وبالتبعيّة أبطاله المُطوّبين؟ لعله من الأهميّة بمكان هنا الارتكان إلى الإطار الكلي للأحداث التي شكلت المعالم الرئيس للتشرشليّة، ومن ثم السعي الصبور لتأسيس معالم سيرة الرجل من خلال رسم مواقفه الموثقة في خضم تلك الأحداث كأنها نقاط مرجعيّة على ورقة بيضاء خالية، ليقرر القارئ بنفسه، مع تقدّم النصّ وتعدد النقاط المثبتة، صورة تشرشل التي شرعت بالتشكل أمامه.

لقد كان تشرشل حتماً، بحكم الولادة والنشأة، ودون اختيار منه، ابناً طبيعياً للإمبراطوريّة البريطانيّة بنخبويتها المفرطة، وعنصريتها الممنهجة، وجرأتها على شن الحروب على الأمم الأضعف. فقد وُلد في قصر منيف سليلاً لعائلة أرستقراطية -ابن عم دوق مارلبورو السياسي البريطاني المعروف- ولذلك فإن تشكل وعيه السياسي كان محكوماً بتوجهات طبقته اليمينيّة وأشواقها، ولم يكن سجلّه الأكاديمي الضعيف في مدرسة هارو ليقف عائقاً أمام تطوّر حياته المهنيّة كصحافي وتالياً كسياسي ورجل دولة، مأخوذاً دائماً بالصراع والحرب وهالة مجد بريطانيا العظمى. فعندما بلغ سن الرشد، كانت بريطانيا في ذروة الصراع الإمبريالي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ولم يكن لمن هم مثله نقص في الفرص، فانخرط في حرب السودان (1898) وحرب البوير بجنوب أفريقيا في مطلع القرن العشرين. وعند قامت الحرب العالميّة الأولى (1914) كان واحداً من أقوى السياسيين في مجلس الوزراء، ومسؤولاً عن أكبر بحرية في العالم.
وتُظهر السّجلات من تلك الفترة دوراً أساسياً له في الدّفع نحو الحرب، سواء في النقاشات داخل الحكومة، أو إجراءات أحاديّة اتخذها لوضع البحرية البريطانيّة في حال التأهب قبل أسبوع كامل من غزو بلجيكا، ومن ثمّ إعلان الحرب على ألمانيا التي كلّفت بلاده والعالم ملايين الأرواح. على أن اندفاع تشرشل للعدوان والصراعات الحربيّة لم يكن نتاج عبقريّة عسكريّة بأي شكل، إذ لا يمكن تجاهل قراره الأحمق محاولة الاستيلاء على البحر الأسود رغم كل نصائح قادة الجيش بعكس ذلك، وهي معركة ذهبت في التاريخ كإحدى أهم الهزائم التي تعرضت لها الأمّة البريطانية وراح ضحيتها بلا طائل 45 ألف جندي بمن فيهم أُستراليون ونيوزلنديون وهنود، وأُجبر على أثرها على ترك منصبه في الأميراليّة.
سجلّ تشرشل الذي يورده علي لا يقتصر على تلك الهزيمة المجلجلة على شاطئ الدردنيل، بل يمتد في سياق مشين من خلال دوره كوزير حرب خلال قمع حرب الاستقلال الآيرلنديّة وتقسيم آيرلندا المستمر إلى الآن، كما القرار باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد أكراد العراق بعد الحرب العالمية الأولى، وإذكاء الحرب الأهلية في روسيا بعد الثورة البلشفيّة عام 1917 والحرب ضد الشيوعيين اليونانيين عام 1945، والانقلاب ضد حكومة مصدق في إيران عام 1953، وفظائع اضطهاد الكينيين خلال حرب الاستقلال هناك في الخمسينات، ناهيك بمسؤوليته المباشرة عن الإجراءات التي أدت إلى حدوث مجاعة البنغال التي قضى فيها عدة ملايين من البشر جوعاً دون داعٍ.
وحتى فيما يتعلّق بدوره كبطل للحرب العالميّة الثانية، فإن علي يورد حقائق تشير إلى أن المحافظين واليمين البريطاني بعمومه كان يميل إلى تجنّب الحرب وغير جاد في التحضير لها ومستعداً بشكل أو آخر لقبول توازن مع ألمانيا الصاعدة، وأن تشرشل الذي كان قد تولى رئاسة الوزراء بعد تشمبرلين كان وراء توريط بريطانيا في الحرب، ولذهول المراقبين وقتها بدعم من مقاعد حزب العمال المعارض ولذلك حكم بالائتلاف معهم، وأرسل ملايين البريطانيين ليقتلوا ويُقتلوا، وساهم بذلك في دمار أوروبا، وتهاوي مكانة بلاده لمصلحة صعود القطبين الأميركي والسوفياتي.
وحسب علي دائماً، فإن تاريخ تشرشل محلياً لم يكن بحال أفضل من سجله الدموي عالميّاً. لقد أمر بإطلاق النار على العمال المضربين في تونيباندي (1910) وقمع الإضراب العمالي الأكبر في تاريخ بريطانيا (1926) بمحض القوة، وكان شخصياً وراء حادثة شارع سيدني التي أدت إلى مقتل اثنين من اليهود الأناركيين حرقاً. وهو يورد كل هذه السيرة ترافقاً مع رسمه للتحيزات الطبقيّة والعنصريّة لتشرشل، بما فيها مقته العميق للعمال وعنصريته المعلنة ضد شعوب المستعمرات، وضد اليهود أيضاً.
أهميّة كتاب علي في تفكيكه سيرة تشرشل لا تتعلق أساساً بتأريخ الأحداث التي كان الرجل جزءاً منها رغم الجهد الملحوظ في تسجيل بعض محطاتها، وإنما في كشفه عن خطورة أن يصمّ مجتمع متقدّم مثل بريطانيا -تعد دولته من الأكثر ثراءً في العالم وأوسعها تأثيراً ثقافياً- أذنيه عن الحقائق بشأن أحد أهم سياسييها في التاريخ، فيُشيّد حوله جداراً من وهمٍ بعلو 1600 كتاب أدمن عليه، منتظراً ابن مهاجر باكستاني كي يكتب له حكايته النقيضة.

* Tariq Ali, «Winston Churchill: His Times, His Crimes”, Verso, 2022



«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر
TT

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

هي رواية تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، تحمل اسم «عورة في الجوار»، وسوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر والتوزيع، وتقع في 140 صفحة.

عن عوالمها وفضائها السردي، يقول تاج السرّ لـ«الشرق الأوسط»: «تروي هذه الرواية التحولات الاجتماعية، وحياة الريف المكتنز بالقصص والأساطير، وانتقال البلد إلى (العصرنة) والانفتاح ورصد التأثيرات الثقافيّة التي تهبّ من المدن إلى الأرياف، لكنها ترصد أيضاً تأثير الأوضاع السياسية المضطربة في السودان على حياة الناس العاديين وما تسببه الانقلابات العسكرية من معاناة على السكان المحليين، خاصة في الأرياف... إلى جانب اهتمامها بتفاصيل الحياة اليومية للناس، في سرد مليء بالفكاهة السوداء».

حمل غلاف الرواية صورة الكلب، في رمزية مغوية إلى بطل الرواية، الذي كان الناس يطلقون عليه لقب «كلب الحرّ» كتعبير عن الشخص كثير التنقلّ الذي لا يستقرّ في مكان. كان كثير التنقّل حيث يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع بين الريف والعاصمة وبقية المدن، والزمان هو عام 1980، وفي هذا الوقت يلتقي هذا السائق، وكان في العشرينات من عمره بامرأة جميلة (متزوجة) كانت تتبضع في متجر صغير في البلدة التي ينحدرُ منها، فيهيمُ فيها عشقاً حتى إنه ينقطع عن عمله لمتابعتها، وتشمم رائحتها، وكأنها حلم من أحلام الخلود.

وعن الريف السوداني الذي توليه الرواية اهتماماً خاصاً، ليس كرحم مكاني فحسب، إنما كعلاقة ممتدة في جسد الزمان والحياة، مفتوحة دائماً على قوسي البدايات والنهايات. يتابع تاج السر قائلاً: «الريف السوداني يلقي بحمولته المكتنزة بالقصص والأساطير حتى الفانتازيا في أرجاء الرواية، حيث ترصد الرواية ملامح وعادات الحياة الاجتماعيّة... لتنتقل منها إلى عالم السياسة، والانقلابات العسكرية والحروب الداخلية، حيث تسجل صراعاً قبلياً بين قبيلتَين خاضتا صراعاً دموياً على قطعة أرض زراعية، لا يتجاوز حجمها فداناً واحداً، لكنّ هذه الصراعات المحلية تقود الكاتب إلى صراعات أكبر حيث يتناول أحداثاً تاريخيّة كالوقائع العسكريّة والحروب ضدّ المستعمِر الإنجليزي أيّام المهدي محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، قائد الثورة المهديّة، ومجاعة ما يعرف بـ(سنة ستّة) التي وقعت عام 1888، حيث تعرض السودان عامي 1889 – 1890 إلى واحدة من أسوأ المجاعات تدميراً».

وعلى الصعيد الاجتماعي، ترصد الرواية الغزو الثقافي القادم من المدن إلى الأرياف، وكيف استقبله الناس، خاصة مع وصول فرق الموسيقى الغربية، وظهور موضة «الهيبيز»، وصولاً إلى تحرر المرأة.

رواية جديدة تتنقل بخفة ولغة ساخرة بين المعاناة والحب والسياسة والفانتازيا والأساطير، سوف تصدر قريباً عن دار «نوفل» للنشر.

يشار إلى أن أمير تاج السر روائي سوداني ولد في السودان عام 1960، يعمل طبيباً للأمراض الباطنية في قطر. كتب الشعر مبكراً، ثم اتجه إلى كتابة الرواية في أواخر الثمانينات. صدر له 24 كتاباً في الرواية والسيرة والشعر. من أعماله: «مهر الصياح»، و«توترات القبطي»، و«العطر الفرنسي» (التي صدرت كلها عام 2009)، و«زحف النمل» (2010)، و«صائد اليرقات» (2010)، التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية عام 2011، تُرجمَت أعماله إلى عدّة لغات، منها الإنجليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة والفارسيّة والصينيّة.

نال جائزة «كتارا» للرواية في دورتها الأولى عام 2015 عن روايته «366»، ووصلتْ بعض عناوينه إلى القائمتَين الطويلة والقصيرة في جوائز أدبيّة عربيّة، مثل البوكر والشيخ زايد، وأجنبيّة مثل الجائزة العالميّة للكتاب المترجم (عام 2017 بروايته «العطر الفرنسي»، وعام 2018 بروايته «إيبولا 76»)، ووصلت روايته «منتجع الساحرات» إلى القائمة الطويلة لجائزة عام 2017.

صدر له عن دار «نوفل»: «جزء مؤلم من حكاية» (2018)، «تاكيكارديا» (2019) التي وصلتْ إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب (دورة 2019 – 2020)، «سيرة الوجع» (طبعة جديدة، 2019)، «غضب وكنداكات» (2020)، «حرّاس الحزن» (2022). دخلت رواياته إلى المناهج الدراسيّة الثانويّة الإماراتيّة والبريطانيّة والمغربية.