الشيف ألان الجعم من غسل الصحون إلى الحصول على نجمة ميشلان

أطباقه فرنسية مطعّمة بالنكهات اللبنانية

سفرة لبنانية بامتياز تجدها في مطعم «قصتي» في باريس
سفرة لبنانية بامتياز تجدها في مطعم «قصتي» في باريس
TT

الشيف ألان الجعم من غسل الصحون إلى الحصول على نجمة ميشلان

سفرة لبنانية بامتياز تجدها في مطعم «قصتي» في باريس
سفرة لبنانية بامتياز تجدها في مطعم «قصتي» في باريس

مجبول بالحب على اختلاف مظاهره، نشأ ألان عزام الجعم في مدينة طرابلس ضمن عائلة دافئة محبة للناس ومعروفة بكرمها. من هناك بدأت قصته مع الطعام، إذ كانت والدته إلهام صاحبة نفس طيب تعد الأكلات اللبنانية الشهية وتشتهر بها. أما والده صاحب دكان السمانة الذي يبيع كل ما يخطر على بال جيرانه وأهل المدينة، من مونة لبنانية ومعلبات وأغراض أخرى، فقد تعلم منه الحس التجاري. جمع ألان بين مهارات والدته في الطبخ وحنكة والده في التجارة، وقرر أن ينطلق وراء أحلامه البعيدة.
عاش الأمرين في ظل حرب أهلية شرسة شهدتها البلاد، وزاد عليها أحوال عائلته المادية التي اضطرتهم إلى العيش في القلة. كانت أحلامه فسحة الضوء الوحيدة التي يحلق معها في خياله، منفتحاً على الغرب ومتابعاً لأخبار ثقافاته ومطابخه وأكلاته. وعندما يتفرّج على صورة لطبق «كوردون بلو» يتأمله بتأن وكأنه لوحة رسم قيمة. فيما واقعه لم يكن يتألف سوى من طنجرة نحاسية كبيرة الحجم، تعد فيها الطعام والدته، فشكلت هي أيضاً له ثقافة من نوع آخر.

                                                      تأثر الجعم بطعام والدته فحفظ نكهاته ونقلها إلى باريس
يقول لـ«الشرق الأوسط»: «يمكن القول إنه كان عندي حشرية الاطلاع على مطابخ الغرب، ولا سيما فرنسا المعروفة بمطبخها العريق. كنت أحب تناول الطعام وكذلك تحضيره لأنه يشكل أسلوب سعادة لدى الآخر. وكنت ألمس ذلك عن قرب عندما كنت أفاجئ شقيقتي الصغرى بقطعة من الشوكولاته أضعها تحت وسادتها، فأشاهد علامات الفرح ترتسم على محياها، وكأنها حصلت على هدية ثمينة».
ورث ألان حب إسعاد الناس من والدته، فدمغته بها لا شعورياً عندما كان يراقب تصرفاتها مع الأهل والجيران. «حسن استقبالها للآخرين بابتسامة كبيرة وعجقتها في تحضير لقمة لذيذة تعبر فيها لهم عن حبها، طبعتني بشكل كبير». يقول ألان الذي لا ينسى أن يذكر والده أيضاً، فهو كان يساعده في بيع المنتجات في دكانه الصغير.

                                                                الشيف ألان حصد نجمة ميشلان في مطعمه الفرنسي
كان ألان يلتصق بوالدته في المطبخ أثناء تحضيرها الطعام، يدقق في كيفية إعدادها المكونات، ويستمتع من ناحية ثانية برائحة الدجاج المقلي أو يخنة الفاصولياء بالكزبراء وغيرها. «لا أزال أتذكر هذه الروائح حتى اليوم، فهي علقت في أنفي وحفزتني على دخول هذا المجال، كي أصل إلى ما أنا عليه اليوم».
بدأ مشواره بإعداد الطعام في إحدى الثكنات العسكرية إذ تم تخييره في خدمة العلم بين القيام بأمور لوجيستية أو العمل في المطبخ، فمال نحو الخيار الثاني من دون تردد. في عام 1999 تسنى له مغادرة مدينته في شمال لبنان والسفر إلى فرنسا. ويقول: «هناك تأكدت أني أحب العمل في مجال الطعام. وعندما أسريت بذلك لأمي لم يعجبها الأمر، كون أحد إخواني تخصص في الطب وابن عمي كذلك. فرأت أن هذا المجال سيقلل من قيمتي الاجتماعية».

                                                                 يحمل الشيف الجعم لبنان بأطباقه الأصيلة
أصر ألان على خياره وبدأ مشواره الشاق في الحياة، بتنظيف العمارات. ثم انتقل للعمل في مطعم صغير أيضاً في مجال التنظيف، ولكنه دعم عمله المسائي هذا بالدراسة صباحاً. «كان من الضروري أن أتعلم الفرنسية، فاللغة هي جسر المرور الذي كنت أحتاجه لبلوغ أهدافي. كنت أمسك بالكتاب من ناحية والمكنسة من ناحية ثانية». بعد حوالي سنة ونصف السنة، عمل في مطعم فرنسي (le totem trocadero). هناك بدأ إصراره يزداد وصار يلحق بالشيف المسؤول طالباً منه إعطاءه ولو فرصة واحدة، لمساعدته في تحضير الطعام. وبين صلصة المايونيز مع الليمون والـ«vinaigrette» راح يزيد من مجهوده. «كنت أقول لنفسي، لماذا علي أن أبقى في مجال التنظيف وغسل الصحون؟ أنا عندي حلمي وأريد أن أحققه وأصبح طباخاً ماهراً».
في عام 2002 حقق أول خطوة من حلمه، وأصبح طاهياً. تذكر أسلوب والده التجاري، وراح يجمع المال إلى حد سمح له بشراء أول مطعم، وكان اسمه «أوبيرج نيكولا فلاميل». «كان منزلاً قديماً ومهجوراً قمت بتصليحه وحولته إلى مطعم فرنسي، بعد أن قرأت بنهم أصول الطبخ عند الفرنسيين».
طيلة ذلك الوقت كان يحمل ألان جروح لبنان معه، لا بل لا يستطيع التحدث لأحد عن أصله وبيئته، كي لا تتفتح هذه الجروح من ناحية، وكي لا يشار إليه بالأصبع بأنه من بلاد الحرب. عندما كان حنينه لبلده يكبر، يحاول لجمه مع صوت فيروز أو مع طبق يعدّه على الطريقة اللبنانية، لأنه لم يجد أي مطعم يقدم أكلات المطبخ اللبناني كما يجب. وفي عام 2015 راح يلون أطباقه الفرنسية بنكهات لبنانية. يتذكر: «مع رشة زعتر من هنا، وصلصة دبس الرمان من هناك، أو ملعقة زيت زيتون جبلية، حققت انطلاقتي الحقيقية في تحضير الطعام، تماماً كما تعلمتها من مدرسة أمي».

في عام 2017 صار لدى ألان 3 مطاعم، ولكنه بقي لا يملك الجرأة للتحدث عن بلده وأصوله اللبنانية. «كنت أخجل من هذا الأمر، وكذلك لا أتحمل فتح جروح معاناتي الكبيرة والغوص فيها من جديد». في مطعمه الذي حمل اسم «ألان عزام الجعم» بدأ يفكر بالتميز وبلفت النظر. «رحت أحدث نفسي وأتساءل إلى متى سأبقى مختبئاً وراء الأطباق الأجنبية؟ قررت أن يشاركني وطني مسيرتي. رحت أقدم أطباقا فرنسية بأسلوب ونكهة لبنانيتين، وأقف على رأي الزبائن. هكذا انفجرت مشاعري تجاه وطني، وصرت قادراً على إخبار الناس قصتي. فمع الطعام اللبناني استعدت حريتي وقضيت على خوفي».
بعد نحو 6 أشهر من هذه المحطة، زاره أحدهم في المطعم، تناول أحد أطباقه، وسأله عن سر نكهته، فأخبره أنها لبنانية، وروى له قصته الطويلة والشاقة مع حلم الطبخ، بدءاً من بلاد الأرز وصولاً إلى فرنسا، أم المطابخ في العالم.
«عندها أخرج بطاقته من جيبه ليعرفني عن نفسه، وبأنه مفتش معتمد من دليل ميشلان العالمي. دهشت، ولكن مفاجأتي الأكبر كانت في عام 2018، إثر مرور نحو ثمانية أشهر على زيارته هذه. اتصلوا بي يزفون خبر حصولي على «نجمة ميشلان». وبدأ بعدها اسمي كشيف لبناني يكبر محققاً النجاح تلو الآخر».
قصة مؤثرة يرويها لك بحذافيرها ألان الجعم، بحيث لا تستطيع إلا أن تتفاعل معه، وتتعاطف مع مشوار قاسٍ وطويل أمضاه من أجل تحقيق حلمه. اليوم صار الشيف الجعم أشهر من أن يعرف عنه في باريس، وكذلك في مرسيليا، حيث افتتح فيهما مطعمان تحت اسم «قصتي» (Qasti). فهو أراد لقصته أن تكون درساً يتعلمه كل من يشعر بالاستسلام والإحباط.
أكلات ومازات لبنانية يقدمها اليوم الشيف اللبناني في «قصتي» بدءاً من السلطات والفلافل والحمص بالطحينة، وصولاً إلى أطباق الدجاج واللحوم، وخاصة المصنوعة مع الفريكة. «هذا المكون أحمله في ذكرياتي من مطبخ والدتي. وهو يشهد رواجاً كبيراً في مطعمي». يقول: «يعاونني في مطاعمي 5 طهاة لبنانيين متخصصين بالنكهة اللبنانية الأصيلة لأيام زمان. وهو أمر صار من الصعب توفره في زمننا الحديث، خصوصاً أن مكونات الطعام التي نستخدمها، محلية ولا تأتي من أرض جدودي».
وعندما يتذكر رأي والدته في أطباقه اللبنانية التي يحضرها في فرنسا يضحك لاشعورياً ويقول: «عندما تذوقتها قالت لي بلهجتها الطرابلسية المحببة إلى قلبي (مش هيك علّمتك أنا)». وفي «قصتي شاورما» المتخصص بتقديم هذا الطبق اللبناني المشهور، يفتخر ألان بذكر ميزات مطعمه ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذا المطعم افتتحته منذ نحو 4 أشهر، وأتحدى من يقول إن في فرنسا من يقدم هذه النكهة. فهي من دون شك أفضل شاورما يمكنك أن تتذوقها هنا».
ولم ينس ألان أن يوجه تحية إلى والده، ويتذكره من خلال قسم استحدثه في مطعمه تحت عنون «الدكانة»، حيث يبيع أصنافاً من المونة اللبنانية.
ويختم: «مسؤوليتي اليوم صارت أكبر، خصوصاً أن بعضهم يعتبرني مرجعاً للطعام اللبناني في باريس. أعرف أني صرت بمثابة بصيص أمل لكل حالم بالشهرة. أتوجه إلى جميع هؤلاء بالقول: اجتهدوا كي تبلغوا أحلامكم. نجاحي في مسيرتي هو بمثابة تكريم لبلدي ولأهلي. أما سر النجاح في تحضير الطعام فيكمن بالحب. العطاء في مهنة الطهي هو حب من نوع آخر، وقبل أن تطبخ للناس يجب أن تحبهم، وإلا فإن الفشل بانتظارك».



«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
TT

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة، وتنوع أطباقه التي تبدأ من زبدية الجمبري والكاليماري إلى الفسيخ بطريقة مختلفة.

وتعتبر سلسلة المطاعم التي تحمل اسم عائلته «أبو حصيرة» والمنتشرة بمحاذاة شاطئ غزة هي الأقدم في الأراضي الفلسطينية، لكن بسبب ظروف الحرب اتجه بعض أفراد العائلة إلى مصر؛ لتأسيس مطعم يحمل الاسم العريق نفسه، وينقل أطباق السمك الحارة المميزة إلى فضاء جديد هو مدينة القاهرة، وفق أحمد فرحان أحد مؤسسي المطعم.

«صينية السمك من البحر إلى المائدة»، عنوان إحدى الأكلات التي يقدمها المطعم، وهي مكونة من سمك الـ«دنيس» في الفرن بالخضراوات مثل البقدونس والبندورة والبصل والثوم والتوابل، وإلى جانب هذه الصينية تضم لائحة الطعام أطباق أسماك ومقبلات منوعة، تعتمد على وصفات قديمة وتقليدية من المطبخ الفلسطيني. وتهتم بالنكهة وطريقة التقديم على السواء، مع إضفاء بعض السمات العصرية والإضافات التي تناسب الزبون المصري والعربي عموماً؛ حيث بات المطعم وجهة لمحبي الأكلات البحرية على الطريقة الفلسطينية.

على رأس قائمة أطباقه السمك المشوي بتتبيلة خاصة، وزبدية الجمبري بصوص البندورة والتوابل وحبات القريدس، وزبدية الجمبري المضاف إليها الكاليماري، والسمك المقلي بدقة الفلفل الأخضر أو الأحمر مع الثوم والكمون والليمون، وفيليه كريمة مع الجبن، وستيك، وجمبري بصوص الليمون والثوم، وجمبري بالكريمة، وصيادية السمك بالأرز والبصل والتوابل.

فضلاً عن قائمة طواجن السمك المطهو في الفخار، يقدم المطعم قائمة متنوعة من شوربات السي فود ومنها شوربة فواكه البحر، وشوربة الكريمة.

يصف محمد منير أبو حصيرة، مدير المطعم، مذاق الطعام الفلسطيني لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً: «هو أذكى نكهة يمكن أن تستمتع بها، ومن لم يتناول هذا الطعام فقد فاته الكثير؛ فالمطبخ الفلسطيني هو أحد المطابخ الشرقية الغنية في منطقة بلاد الشام، وقد أدى التنوع الحضاري على مر التاريخ إلى إثراء نكهته وطرق طبخه وتقديمه».

أطباق سي فود متنوعة يقدمها أبو حصيرة مع لمسات تناسب الذوق المصري (الشرق الأوسط)

وأضاف أبو حصيرة: «وفي مجال المأكولات البحرية يبرز اسم عائلتنا التي تتميز بباع طويل ومميز في عالم الأسماك. إننا نتوارثه على مر العصور، منذ بداية القرن الماضي، ونصون تراثنا الغذائي ونعتبر ذلك جزءاً من رسالتنا».

«تُعد طرق طهي الأسماك على الطريقة الغزاوية خصوصاً حالة متفردة؛ لأنها تعتمد على المذاق الحار المميز، وخلطات من التوابل، والاحتفاء بالطحينة، مثل استخدامها عند القلي، إضافة إلى جودة المكونات؛ حيث اعتدنا على استخدام الأسماك الطازجة من البحر المتوسط المعروفة»، وفق أبو حصيرة.

وتحدث عن أنهم يأتون بالتوابل من الأردن «لأنها من أهم ما يميز طعامنا؛ لخلطتها وتركيبتها المختلفة، وقوتها التي تعزز مذاق أطباقنا».

صينية أسماك غزوية يقدمها أبو حصيرة في مصر (الشرق الأوسط)

لاقت أطباق المطعم ترحيباً كبيراً من جانب المصريين، وساعد على ذلك أنهم يتمتعون بذائقة طعام عالية، ويقدرون الوصفات الجيدة، والأسماك الطازجة، «فنحن نوفر لهم طاولة أسماك يختارون منها ما يريدون أثناء دخول المطعم».

ولا يقل أهمية عن ذلك أنهم يحبون تجربة المذاقات الجديدة، ومن أكثر الأطباق التي يفضلونها زبدية الجمبري والكاليماري، ولكنهم يفضلونها بالسمسم أو الكاجو، أو خليط المكسرات، وليس الصنوبر كما اعتادت عائلة أبو حصيرة تقديمها في مطاعمها في غزة.

كما انجذب المصريون إلى طواجن السي فود التي يعشقونها، بالإضافة إلى السردين على الطريقة الفلسطينية، والمفاجأة ولعهم بالخبز الفلسطيني الذي نقدمه، والمختلف عن خبز الردة المنتشر في مصر، حسب أبو حصيرة، وقال: «يتميز خبزنا بأنه سميك ومشبع، وأصبح بعض الزبائن يطلبون إرساله إلى منازلهم بمفرده أحياناً لتناوله مع وجبات منزلية من فرط تعلقهم به، ونلبي لهم طلبهم حسب مدير المطعم».

تحتل المقبلات مكانة كبيرة في المطبخ الفلسطيني، وهي من الأطباق المفضلة لدى عشاقه؛ ولذلك حرص المطعم على تقديمها لزبائنه، مثل السلطة بالبندورة المفرومة والبصل والفلفل الأخضر الحار وعين جرادة (بذور الشبت) والليمون، وسلطة الخضراوات بالطحينة، وبقدونسية بضمة بقدونس والليمون والثوم والطحينة وزيت الزيتون.

ويتوقع أبو حصيرة أن يغير الفسيخ الذي سيقدمونه مفهوم المتذوق المصري، ويقول: «طريقة الفسيخ الفلسطيني وتحضيره وتقديمه تختلف عن أي نوع آخر منه؛ حيث يتم نقعه في الماء، ثم يتبل بالدقة والتوابل، ومن ثم قليه في الزيت على النار».

لا يحتل المطعم مساحة ضخمة كتلك التي اعتادت عائلة «أبو حصيرة» أن تتميز بها مطاعمها، لكن سيتحقق ذلك قريباً، حسب مدير المطعم الذي قال: «نخطط لإقامة مطعم آخر كبير، في مكان حيوي بالقاهرة، مثل التجمع الخامس، أو الشيخ زايد».