ربما يكثر استخدام مصطلح «ثقافة الفوز» في كرة القدم الحديثة، لكن ريال مدريد وكارلو أنشيلوتي أثبتا على حساب ليفربول، وجود معنى حقيقي وقيمة لهذا المصطلح. وبفوزه 1 - صفر على فريق المدرب يورغن كلوب أصبح أنشيلوتي أول مدرب يتوج بلقب دوري أبطال أوروبا أربع مرات؛ إذ يأتي لقبه الثاني مع ريال مدريد بعد لقبين مع ميلان. وربما كانت أفضل لحظة لإلقاء نظرة على الطريقة التي يدير بها كارلو أنشيلوتي المباريات الكبيرة هي لحظة إطلاق صافرة النهاية على ملعب «سانتياغو برنابيو»، حيث كان ريال مدريد متقدماً على مانشستر سيتي بهدفين مقابل هدف وحيد لتمتد المباراة لوقت إضافي مدته 30 دقيقة أخرى. وبينما كان جوسيب غوارديولا يجمع لاعبيه في دائرة ضيقة ويوضح لهم بالضبط ما يتعين عليهم القيام به، سار أنشيلوتي بكل هدوء نحو مارسيلو وتوني كروس على مقاعد البدلاء وسألهما عن رأيهما في التغييرات التي يجب أن يجريها خلال الوقت الإضافي؛ لأنه لم يكن متأكداً حقاً مما يجب أن يفعله.
بالطبع، لو خسر ريال مدريد تلك المباراة وتأهل مانشستر سيتي إلى المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا، كان من الممكن بكل سهولة تحويل تلك الحكاية إلى قصة حول كيف خسر أنشيلوتي السلبي السيطرة على المباراة، وكيف نجح غوارديولا في تحقيق الفوز في ذلك اليوم بفضل خطته المحكمة وتعليماته الدقيقة. لقد فعل أنشيلوتي كل شيء وشاهد كل شيء على مستوى الأندية، ومع ذلك فهو غالباً أول من يعترف بأن أول سر في مجال التدريب هو أنك تكون في حاجة إلى القليل من الحظ. لكن النقطة المحورية حقاً في الدور نصف النهائي لدوري أبطال أوروبا هي أن يقرر أنشيلوتي الاستعانة برأي لاعبيه الكبار، في الوقت الذي تتمحور فيه العقيدة السائدة للتدريب الحديث في التحكم: التحكم في الكرة، والتحكم في المواقف، والثبات أمام الضغوط العالية. ومع ذلك، قرر أنشيلوتي في تلك اللحظة أن يتخلى عن السيطرة، وسلم مفاتيح القرار إلى اللاعبين الذين يجب أن يكون هو مسؤولاً عنهم في نهاية المطاف. وقال كروس بعد ذلك «ما حدث يعكس شخصيته تماماً كمدير فني».
أنشيلوتي يواصل سطوعه في سماء الكرة الأوروبية (أ.ب)
من الطبيعي أن يعكس ذلك الانطباع السائد عن أنشيلوتي كمدير فني ينتمي إلى مدرسة المديرين الفنيين الهادئين الذين لا يحملون الهموم، والذي يدخن السيجار، ويمكنه إصلاح أي شيء. لكن الحقيقة هي أن هذا الهدوء هو مظهر زائف إلى حد كبير، وشخصية صُنعت بعناية مثل التعبيرات التي يرسمها مديرون فنيون آخرون وهم يقفون بجوار خط التماس في الوقت الحالي. وقال المدير الفني المخضرم مؤخراً عندما طُلب منه الحديث عن تجربته في المباريات النهائية لدوري أبطال أوروبا «بالنسبة لي، أصعب فترة هي الثلاث أو أربع ساعات قبل انطلاق المباراة. إنه توعك جسدي. لقد عانيت من ذلك كثيراً هذا الموسم: زيادة التعرق وتسارع في معدل ضربات القلب. الأفكار السلبية تتسلل إليك، لكن لحسن الحظ أن كل هذا يتوقف بمجرد بدء المباراة».
ومن الواضح أن هناك شيئاً آخر يحدث هنا أيضاً، وربما يمكنكم إلقاء نظرة خاطفة عليه في المباريات الكبرى التي تكون فيها الضغوط مرتفعة للغاية، وهي أن أنشيلوتي لا يعتز فقط بلاعبيه ويضع ذراعه حول كتفهم من أجل تقديم كل الدعم اللازم لهم، لكنه يثق بهم أيضاً، ليس فقط لتنفيذ خطة المباراة ولكن في وضعها وصياغتها من الأساس، وليس فقط لاستيعاب رسائله وقراراته ولكن لنقلها وتحويلها إلى رسائل خاصة بهؤلاء اللاعبين أنفسهم. في الحقيقة، ما يقوم به أنشيلوتي في هذا الصدد هو مجرد شكل مختلف من الشجاعة: شجاعة الإيمان والثقة في نفسه وفي لاعبيه.
هناك قصة يرويها أنشيلوتي من الفترة التي تولى خلالها القيادة الفنية لنادي ميلان، عندما كان يواجه معضلة ممتعة تتمثل في محاولة استيعاب أربعة لاعبين من لاعبي خط وسط من الطراز العالمي - أندريا بيرلو، وكلارنس سيدورف، وكاكا، وروي كوستا – في خط الوسط في الوقت نفسه. وبعد أن تحدث إلى هؤلاء اللاعبين الأربعة، قال لهم أنشيلوتي «يتعين عليكم أن تعملوا على حل هذه المشكلة، وإلا سيكون أحدكم على مقاعد البدلاء في كل مباراة». لذلك؛ وبالتعاون مع أنشيلوتي، تألق هؤلاء اللاعبون الأربعة بشكل مثير للإعجاب، وهو الأمر الذي ساهم بشكل كبير في حصول كاكا على الكرة الذهبية كأفضل لاعب في العالم وحصول ميلان على لقب دوري أبطال أوروبا في عام 2007. ربما لا ينجح هذا النهج إلا في نادٍ تتمتع فيه الموهبة بالاستقلالية مثل نادي ميلان في تلك الفترة، أو ريال مدريد حالياً.
من المؤكد أن أنشيلوتي كان محظوظاً للغاية لأنه تولى القيادة الفنية لمجموعة من كبار اللاعبين الدوليين الذين يعرفون بالفعل أدوارهم ومسؤولياتهم، ويبذلون قصارى جهدهم دون الشعور بالغرور أو الرضا عن الذات. ومن أكثر الأشياء التي فاجأت أنشيلوتي عندما عاد إلى «سانتياغو برنابيو» في ولايته الثانية الصيف الماضي هي أن اللاعبين الذين تولى قيادتهم من قبل في الفترة من عام 2013 وحتى عام 2015 هي عدم تغير شخصية لاعبين مثل كروس ومارسيلو وكاسيميرو ولوكا مودريتش، وعدم تراجع رغبتهم في تحقيق الفوز وبذل قصارى جهدهم من أجل الفريق، وكأنهم ما زالوا في بداية مسيرتهم الكروية.
وعلى المنوال نفسه، هناك شيء رائع حقاً حول الطريقة التي نجح بها أنشيلوتي في تهدئة وتوحيد النادي الذي دفعت سياسته الداخلية والجلبة المثارة حوله خارجياً العديد من كبار المديرين الفنيين في العالم إلى فقدان تركيزهم وانتباههم. ويتعين علينا أن نتذكر الحالة التي كان عليها ريال مدريد عندما تولى أنشيلوتي القيادة الفنية له: مشاكل مالية، وانتقادات عالمية في جميع أنحاء العالم بسبب دوره في مشروع دوري السوبر الأوروبي، وحاجة ماسة إلى إعادة بناء الفريق، بعدما رحل عدد من اللاعبين البارزين، مثل سيرخيو راموس ورافاييل فاران، اللذين رحلا وأخذا معهما 26 عاماً من الخبرة في ريال مدريد.
يعود جزء كبير من الفضل في الحصول على لقبي الدوري الإسباني الممتاز ودوري أبطال أوروبا إلى نجوم الفريق مودريتش وكريم بنزيمة وتيبو كورتوا، الذين قدموا جميعاً مستويات ممتازة. لكن لا يجب أن نغفل الدور الهائل الذي قام به أنشيلوتي من حيث تغيير التشكيلة الأساسية للفريق وإعادة بناء الخط الأمامي حول النجمين البرازيليين فينيسيوس جونيور ورودريغو، الذين ما زالا في الحادية والعشرين من عمرهما ويتطور مستواهما بشكل مثير للإعجاب، ومنح إدير ميليتاو، البالغ من العمر 24 عاماً، دوراً منتظماً في خط الدفاع، وكذلك الاعتماد على فيدي فالفيردي، البالغ من العمر 23 عاماً، في خط الوسط.
في الحقيقة، يعد هذا شيئاً استثنائياً؛ نظراً لأن ريال مدريد عوّدنا دائماً على أنه لا يصبر على اللاعبين الشباب وكان يستغني عنهم على سبيل الإعارة لأندية أخرى حتى يكتسبوا الخبرات المطلوبة، لكن أنشيلوتي فعل عكس ذلك وضخ العديد من الدماء الشابة في صفوف الفريق، بالشكل الذي أعاد له النشاط والحيوية. وفي الوقت نفسه، قام المدير الفني الإيطالي المخضرم وبكل هدوء بإبعاد اللاعبين الأكبر سناً مثل إيسكو وإيدن هازارد ومارسيلو، من دون أن يتسبب ذلك في حدوث أي مشكلة للفريق. هذه هي الأجواء التي ساعد أنشيلوتي في خلقها: أجواء تساعد في التغلب على الضغوط وعدم الاستسلام لها، أجواء لا يدعي فيها أنشيلوتي أنه يملك إجابات لكل شيء، أجواء يقبل فيها ببساطة بحقيقة أننا جميعاً زائلون وأن الحياة أقصر من العداوات التافهة. لقد قال أنشيلوتي في وقت سابق من هذا الموسم «أنا أعمل في مجال كرة القدم منذ عام 1977، وليس لدي الوقت أو الرغبة في القتال».
وبالمثل، لا يهتم أنشيلوتي كثيراً بالإرث الذي صنعه لنفسه، أو بالعديد من النقاد الذين سخروا منه على مر السنين ووصفوه بأنه شخصية باهتة يعمل بطريقة عفا عليها الزمن. والآن، فاز أنشيلوتي بالدوري في خمس دول مختلفة، ويحظى بشعبية كبيرة في جميع أنحاء العالم، كما أصبح أول مدير فني يفوز بلقب دوري أبطال أوروبا أربع مرات، بعدما قاد النادي الملكي للفوز على ليفربول في باريس. فإذا كان هذا هو المدير الفني الذي عفا عليه الزمن، فهناك الكثير من المديرين الفنيين الشباب الذين يتمنون تحقيق جزء صغير للغاية من النجاحات التي حققها!
كارلو أنشيلوتي: مدرب قادر على إصلاح أي شيء وتحدي الزمن والنقاد
المدير الفني الهادئ يكتب تاريخاً لنفسه ويجلب «ثقافة الفوز» لريال مدريد مجدداً
كارلو أنشيلوتي: مدرب قادر على إصلاح أي شيء وتحدي الزمن والنقاد
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة