منطقة «القرن الأفريقي» بين الإرهاب والمصالح الاستراتيجية الدولية

جيبوتي لاعب مهم.. وإيران استفادت من علاقاتها بإريتريا

منطقة «القرن الأفريقي» بين الإرهاب والمصالح الاستراتيجية الدولية
TT

منطقة «القرن الأفريقي» بين الإرهاب والمصالح الاستراتيجية الدولية

منطقة «القرن الأفريقي» بين الإرهاب والمصالح الاستراتيجية الدولية

يلعب القرن الأفريقي بحكم موقعه الجيو - استراتيجي دورًا محوريًا مؤثرًا على البحر الأحمر، فهو منطقة ارتباط بين القارة الأفريقية والأوروبية والآسيوية عبر ممر باب المندب، الذي يعتبر شريان التجارة الدولية من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر والعكس كذلك. ومن جهة ثانية تعتبر هذه المنطقة الحساسة جوارًا لكل من المملكة العربية السعودية واليمن، وهي امتداد استراتيجي لقناة السويس، كما تصل أهميتها البالغة إلى الأردن من الجهة الشرقية.

يضم القرن الأفريقي كلا من إريتريا وجيبوتي وإثيوبيا والصومال، ويمكن أن يضاف إليهما السودان وكينيا. وهذه مجموعة من الدول يعاني مجملها من وجود ميليشيات مسلحة، وحركات إرهابية.
ولكون المنطقة ذات أهمية استراتيجية، فإن التنافس الدولي حولها أخذ منعطفًا جديدًا مع تحرك العسكري لميليشيات الحوثي، المدعومة من إيران، وانقلابها على الشرعية باليمن. ويأتي ذلك في ظروف إقليمية تشهد هجمات إرهابية قاسية في كثير من دول القرن الأفريقي، خصوصا في الصومال وكينيا التي تنشط فيهما «حركة الشباب» الصومالية الإرهابية، ما تسببت في قتل أكثر من 200 شخص في عملياتها الأخيرة. وكانت العملية الأسوأ بلا شك المذبحة التي نفذتها في جامعة بمدينة غاريسا في كينيا مطلع أبريل (نيسان) الماضي، والتي أسفرت عن قتل نحو 150 شخصًا، وما تبعها من عمليات انتحارية ضد كوادر الأمم المتحدة في مدينة غارويه الصومالية.
وتظهر هذه العودة القوية لـ«حركة الشباب» نوعًا من تزايد قدرتها على التحرك بعدما عانت من تراجع واضح، بجهود حثيثة من القوات الصومالية والأفريقية، والطائرات من دون طيار الأميركية. وكذلك بسبب خلافات التنظيم الداخلية بين «التيار الجهادي العالمي» الذي تزعمه أحمد هادي غودنا، الذي يطالب بتعميم الجهات خارج البلد، والتيار المحلي الصومالي.
فلقد تبنت «حركة الشباب» مسؤولية الهجوم بسيارة مفخخة على مطعم في مقديشو أسفر عن سقوط عشرة قتلى، بتاريخ 21 أبريل 2015، كما قتلت النائب البرلماني عن منطقة بونتلاند سعيد حسين نور في 9 مايو (أيار) 2015 بمدينة غالكايو. كذلك سيطر هذا التنظيم على مناطق جديدة بجنوب الصومال فجر يوم 15 مايو 2015، من ضمنها منطقة أوطغلي وقريتي مبارك ودار السلام وبلدة الشام، بعد مواجهات مع القوات الحكومية.
في ظل هذا الوضع غير المستقر، يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية تعمل على تكييف استراتيجيتها مع هذه المستجدات وعلاقتها بتطورات كبيرة تمسّ منطقة «القرن الأفريقي» ودورها الحساس على المستوى الدولي. وتأتي جولة وزير الخارجية جون كيري التي ابتدأت بتاريخ 4 مايو 2015 في كينيا لتؤكد من جديد على أهمية المنطقة بالنسبة للرؤية الأميركية لأمنها القومي، فقد ركز الوزير كيري خلال مباحثاته مع الرئيس الكيني أوهورو كيناتا على مكافحة الإرهاب في «القرن الأفريقي» واستئصال «حركة الشباب» الصومالية. كذلك أعلن كيري عن دعم بلاده لمكتب مفوضية اللاجئين بكينيا بـ45 مليون دولار لمساعدة اللاجئين الصوماليين في كينيا. وفي خطوة لا تخلو من الدلالة قام وزير الخارجية الأميركي في 5 مايو الحالي بزيارة للصومال، وهي الأولى من نوعها لمسؤول رفيع المستوى للجهاز الدبلوماسي الأميركي منذ ثمانينات القرن العشرين. وأجرى كيري في أول زيارة يقوم بها وزير خارجية أميركي إلى جيبوتي، يوم 6 مايو 2015، مباحثات مع الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيله، تناولت أهمية منطقة «القرن الأفريقي» والبحر الأحمر. كما جرى التركيز على التعاون والتنسيق في مجالات التعاون الأمني والعسكري، ومكافحة «الإرهاب» وخصوصًا «حركة الشباب». وحرص الوزير الأميركي في خطاب موجه إلى العالم الإسلامي من مسجد سليمان على التأكيد أمام القيادات الدينية والشبابية والنسائية والأكاديميين والإعلاميين التي حضرت خطابه على «الاعتدال الديني» وحاجة العالم والقرن الأفريقي إلى الاستقرار، والتمكين السياسي للشباب وتحسين أوضاعهم الاجتماعية. وجاءت هذه الزيارة في سياقٍ دولي لا يخفي الصراع القائم حاليًا حول جيبوتي، التي تقارب مساحتها 23 ألف كيلومتر، وتطل على مضيق باب المندب ذي الأهمية استراتيجية لدول الجوار والقوى الدولية الكبرى.
ولا يخفى أن هذه العوامل جعلت الولايات المتحدة تسابق الزمن لتطوير العلاقات الثنائية مع هذا البلد الهام، الذي سيستضيف منتدى التعاون الأميركي - الجيبوتي الثاني مطلع بداية 2016. وانسجاما مع الرؤية الأميركية الخاصة بالصراعات الدولية حول الممرّات المائية الدولية الاستراتيجية، كانت الولايات المتحدة قد وقعت مع جيبوتي عام 2003 اتفاقا، يجري بموجبه استخدام المنشآت العسكرية في جيبوتي، ولا سيما المرافق البحرية واتخاذ قاعدة أميركية في حملتها المناهضة للإرهاب في «القرن الأفريقي». وكان قد تم تجديد الاتفاقية الخاصة بقاعدة «لومنييه» أثناء زيارة للرئيس الجيبوتي غيله لواشنطن في الخامس من مايو 2014.
هذا، وتوجد في جيبوتي أيضا مراكز لقواعد عسكرية أجنبية تابعة للقوات الفرنسية واليابانية، علما بأن هذه الأخيرة تمركزت في هذا الموقع الجيو - استراتيجي في أول سماح للقوات اليابانية بالتموضع وبناء القواعد العسكرية خارج تراب اليابان. من جانب آخر لا يستبعد الرئيس الجيبوتي السماح للصين بإقامة قاعدة عسكرية في بلاده إذا رغبت في ذلك، وهو ما يفسّر احتدام الصراع الدولي على هذه الدولة الصغيرة، التي تعد كذلك البوابة البحرية الأساسية لإثيوبيا.
والجدير بالذكر أن ثمة تعاونا وتنسيقا مشتركا بين بعض دول خليج عدن في ما يخص مكافحة الإرهاب، فبتاريخ 4 / 2 / 2014 م انعقد منتدى «خليج عدن الإقليمي الثاني لمكافحة الإرهاب» في جيبوتي لمواجهة تهديدات تنظيم القاعدة و«حركة الشباب». ويأتي هذا الاجتماع تتمة لما تم في عام 2013 في اليمن، وبتمويل من الولايات المتحدة، وقد شاركت فيه وفود رسمية من وزارات الداخلية والدفاع والخارجية لكل من الصومال واليمن وإثيوبيا وجيبوتي، وجرى التركيز على الخطر «الإرهابي» في منطقة خليج عدن، وسبل مواجهته، ومواجهة تجارة السلاح والمشكلات البحرية.
بعد انقلاب ميليشيا الحوثي وقوات علي عبد الله صالح على السلطة الشرعية في اليمن، برزت من جديد الأهمية الجيو - استراتيجية لجيبوتي، وضرورة استثمار ذلك لصالح الأمن القومي والإقليمي الخليجي. وتماشيا مع طبيعة العلاقات السعودية مع هذا البلد، أكد سفير جيبوتي ضياء الدين سعيد بامخرمة لدى الرياض إن بلاده «أيدت التحالف منذ اللحظة الأولى وفتحت مجالها الجوي لعمليات عاصفة الحزم»، وبالتالي، فهي مشاركة في التحالف الذي تقوده العربية السعودية ضد الحوثيين في اليمن.
كذلك قال السفير إنه «لا يفصلنا عن اليمن سوى 22 كلم هي مسافة فوهة مضيق باب المندب الاستراتيجي»، مضيفًا أن «المساعدات المرسلة من دول الخليج سيصار إلى نقلها للمحتاجين في اليمن عبر جيبوتي». ثم علّق قائلاً: «أعتقد أنّه من المهم أنْ يتكاتف المجتمع الدولي مع قيادة تحالف عاصفة الحزم، بأنْ يساعد جيبوتي لتكون المنطلق الرئيسي لوصول المساعدات اللازمة والإنسانية التي يحتاج إليها أهل اليمن بشكل عام».
وفي هذا الإطار يمكن وضع حديث الرئيس الجيبوتي غيله يوم السبت 9 مايو 2015م، عن مخاطر تعزيز «إرهاب القاعدة» نتيجة النزاع في اليمن، وتعهده بدعم السكان الفارين من النزاع. ويذكر أن رؤساء جيبوتي وتنزانيا والصومال وكينيا، وبعض وفود دول أفريقية أخرى، كانوا قد عقدوا اجتماعا أمنيا على مستوى عالٍ، برعاية العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، يوم 19 - 4 - 2015 في ميناء العقبة بالأردن. وناقش هذا الاجتماع، وهو الأول من نوعه بين هذه الدول، سبل التصدي الجماعي للجماعات الإرهابية، وخصوصا في منطقة القرن الأفريقي والشرق الأوسط، وما يتطلبه ذلك من تقوية التنسيق، وتبادل المعلومات بين دول شرق أفريقيا والمملكة الأردنية في هذا المجال.
من جهتها، تسعى دولة الإمارات العربية المتحدة لتقوية القوات الصومالية ضد «حركة الشباب» الإرهابية، إذ دشن رئيس الصومال والسفير الإماراتي يوم 12 - 5 - 2015 مركزا للتدريب العسكري، وقال السفير الإماراتي إن بلاده «قامت ببناء مركز تدريب عسكري يعمل على تدريب أفراد الجيش الصومالي وتخريجه ليكونوا قادرين على مواجهة الإرهاب المتمثل في متمردي حركة الشباب المرتبطة بتنظيم القاعدة والتي تعرقل عملية السلام في البلاد»، في حين أكد الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود أن «الإمارات تكفلت بناءً على حاجتنا إلى الأمن والاستقرار بدعم قوى الأمن والجيش، وهي ستزودها بمعدات عسكرية وتدربها على التصدي لظاهرة الإرهاب».
ولكن رغم الجهود الدولية والعربية الخاصة بمواجهة الإرهاب وضمان الاستقرار في «القرن الأفريقي» وخليج عدن، وكذا تطوير الدول العربية والقوى العالمية الكبرى علاقاتها مع دول «القرن الأفريقي»، فإن ذلك يواجه صعوبات معقدة ناتجة عن تباين التحالفات القائمة بين دول «القرن الأفريقي» والقوى الكبرى، وكذا مع دول مجلس التعاون الخليجي. ومن ذلك طبيعة التحالفات القائمة بين إيران وإريتريا، خصوصا بعد عام 2009م، إذ اتجهت إريتريا لبناء علاقات أمنية وعسكرية مع طهران توجّت بالسماح لـ«الحرس الثوري الإيراني» بإقامة نشاط عسكري انطلاقا من قاعدة عسكرية غير معلنة، وهو ما مكّنه من تدريب آلاف الحوثيين والشيعة العرب الآخرين، كما تمكن «الحرس الثوري» من تهريب كميات وأنواع مختلفة من الأسلحة للداخل اليمني حتى الشهور الأولى من 2015.
ولا بد كذلك من الأخذ بعين الاعتبار أن العلاقات العربية مع منطقة «القرن الأفريقي» جزء من نظام عام من العلاقات الدولية المتباينة الأهداف، والتي تصل إلى حد تناقض المصالح. فلاعتبارات استراتيجية واقتصادية وعسكرية وأمنية تتجه جهود القوى الكبرى الغربية نحو محاصرة الدول الأفرو - عربية وعزلها عن دائرة التأثير في مناطق التوتر، وهو ما ينعكس بشكل سلبي على المصالح العربية، بما فيها تلك الناتجة عن الأنشطة الإرهابية، وخلق الميليشيات المسلحة المهدّد للأمن الخليجي، مما يزيد من قوة إيران الإقليمية.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.