تنظيم داعش يهدد بنسف المعالم التاريخية في ليبيا

رئيس مصلحة الآثار لـ«الشرق الأوسط»: أخفينا القطع النادرة وزدنا قوات الحراسة على المدن القديمة

د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي  -  د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي - د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
TT

تنظيم داعش يهدد بنسف المعالم التاريخية في ليبيا

د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي  -  د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي - د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية

ليس مصدر المشكلة التي تواجه الآثار التاريخية في ليبيا تنظيم داعش فقط، بل الكثير من الجماعات والتيارات الأخرى ذات الأفكار المتشددة التي تدور في فلك هذا التنظيم، أو تستغل فتاواه لأغراض تجارية. يقول الدكتور أحمد حسين، رئيس مصلحة الآثار الليبية، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أثناء زيارته للقاهرة، إن المصلحة اضطرت لاتخاذ العديد من الإجراءات لمواجهة احتمال استهداف المتطرفين للمعالم التاريخية كما حدث في العراق وسوريا وغيرهما على يد هذا التنظيم خلال الفترة الماضية، ومن بين هذه الإجراءات إخفاء القطع الأثرية النادرة، وزيادة قوات الحراسة على المدن القديمة.
تولت جماعة الإخوان في ليبيا الحكم من عام 2012 إلى مطلع عام 2014، وبدلا من تأسيس دولة بمؤسسات مسؤولة عن مختلف القطاعات، ومنها الآثار، اتجهت اتجاها آخر منحازا لتقوية الكتائب والميليشيات الخاصة بعد أن انتهت من محاربة نظام العقيد الراحل معمر القذافي. ووقفت الجماعة ضد محاولات عودة الجيش الوطني الليبي للعمل، وبهذا أعطت ما يشبه الضوء الأخضر للمسلحين لكي يثيروا الفوضى في البلاد.
يوجد في هذا البلد النفطي شاسع المساحة موظفون مخضرمون يعملون في مصلحة الآثار، التي تأسست لأول مرة في عهد الاحتلال الإيطالي عام 1914، تحت اسم «إدارة الآثار وتنظيم الحفريات»، بينما ظهر الاسم الرسمي «مصلحة الآثار» المعمول به حاليا منذ عام 1953، أي ما بعد الاستقلال.
حتى قبل ظهور اسم «داعش» في ليبيا كان المتطرفون قد بدأوا يدركون أهمية القطع الأثرية النادرة.. «يفتون بأن هذه الشواهد الرومانية أو البيزنطية حرام، ويفجرونها ويأخذون ما فيها لبيعه للسماسرة»، كما يقول أحد العسكريين الليبيين. يضيف أن بعض الميليشيات كانت تستهدف بالأساس مواقع الأسلحة والآثار، وتستولي عليها. لكنه يشير إلى أنه بعد ظهور «داعش» في عدة مدن ليبية، ومنها درنة وسرت وصبراتة، أصبح التنظيم ينظر للآثار كمصدر بديل للحصول على الأموال، خاصة عقب فشله في السيطرة على آبار النفط.
من جانبه، يقول الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، المستشار في الجيش الليبي، لـ«الشرق الأوسط» خلال زيارته للقاهرة، إن المخاطر في ليبيا «هي على كل الأصعدة»، ولكن تظل الآثار وكل ما هو تراث إنساني في ليبيا عرضة للخطر إذا ما استطاعت هذه العصابات الإرهابية من الدواعش وحلفائهم من أدعياء الدين الجديد الوصول للمخزون الثقافي للشعب الليبي، والذي يتمثل في المدن الأثرية القديمة، مثل مدن لبدة وصبراتة وشحات وسوسة وتوكرة وجرزة وغيرها.
ويشير إلى أن الفتوحات الإسلامية حين دخلت شمال أفريقيا حافظت على هذا التراث الإنساني، ولم تستهدفه بالتدمير كما فعل الدواعش الآن في العراق وسوريا. ويقول إنه خلال الشهور الماضية جرى بالفعل استهداف مناطق تضم مقابر تاريخية وجرى مسحها من على الأرض، منها «زوايا سنوسية»، وموقع «عبد السلام الأسمر» في بلدة زليتن، بالإضافة إلى استهداف مساجد قديمة في طرابلس وغيرها.
منذ وقت مبكر من حكم المتطرفين، حيث كان «الإخوان» ومعهم الجماعة الليبية المقاتلة (الموالية لتنظيم القاعدة)، يسيطرون على القرار الحكومي، أدرك موظفو الآثار وجود خطر على القطع النادرة والعملات الذهبية والمصوغات والمخطوطات التاريخية، وغيرها من المحفوظات الثمينة. خلال وجود هذه الحكومة في السلطة بدأ الكثير من موظفي مصلحة الآثار في التذمر من الإهمال، وبدأوا في ذلك الوقت، أي في أواخر 2013، تنظيم الاحتجاجات.
لكن، وبعد مضي نحو عام ونصف العام، يبدو أن الخطر زاد عن السابق بعد أن رصدت أجهزة أمنية ليبية خططا من جانب تنظيم داعش لاستهداف الآثار سواء النسف بالديناميت أو بالسرقة، وقام بتنفيذ بعضها بالفعل خاصة في درنة وسرت. وتوجد آثار تعود لفترات تاريخية مختلفة، لكن العجيب في الأمر هو قيام المتطرفين خلال الفترة الأخيرة بتوجيه معاول الهدم إلى المعالم التاريخية الإسلامية وتفجير زوايا سنوسية ومساجد عثمانية وأضرحة لشخصيات كان لها صيت قبل 700 عام. ودمر المتطرفون مواقع ترتبط بشخصيات تاريخية لها مكانة. ومن بين ما جرى هدمه وتفجيره والاعتداء عليه منطقة «زويلة».
يقول الدكتور حسين، الذي تولى رئاسة مصلحة الآثار في بلاده في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها، إن خارطة الآثار في ليبيا كبيرة ومتشعبة. ويرجع تاريخ بعضها إلى آلاف السنين، وهي تتنوع ما بين حضارات ما قبل التاريخ، وحضارات العصر البرونزي والحضارة الإغريقية والرومانية في شرق ليبيا، والحضارة الفينيقية والرومانية في الغرب، بالإضافة إلى حضارة الأمازيغ والقبائل في عموم البلاد، إلى جانب حضارات العصر الإسلامي التي تمتد على كامل رقعة ليبيا.. وبالتالي ليبيا كنز حضاري منذ آلاف السنين حتى اليوم.
وشجعت فتاوى المتطرفين، وعلى رأسهم تنظيم داعش ضد الآثار في ليبيا، العديد من أصحاب المصالح الاقتصادية والتجارية على مسح مواقع تاريخية من على وجه الأرض واستخدام مكانها في إقامة مبان جديدة أو محال تجارية أو حتى في الزراعة. وعما إذا كان لديه مخاوف من أن يقوم «داعش» بتكرار تجربة ما حدث في العرق من هدم للآثار في ليبيا على نطاق واسع، يؤكد الدكتور حسين قائلا: «نعم بكل تأكيد.. الآثار في ليبيا مهددة بشكل قوي، ونخشى من أن يحدث لها مثل ما حدث للآثار في العراق في ظل تردي الوضع الأمني وفي ظل تراخي المجتمع الدولي عن دعم الجيش الوطني والحكومة الشرعية».
وبعد لحظة من الصمت والتفكير في المأساة التي تمر بها بلاده، ومنها الخطر الذي يواجه ما فيها من معالم تاريخية، يقول رئيس مصلحة الآثار الليبية: «إذا قام المتطرفون بتدمير الموروث الثقافي، فستكون خسارة كبيرة ليس للشعب الليبي فقط، ولكن للعالم. وهذا سيأتي ضمن خسارة كبيرة.. خسارة الوطن ومعه التراث الليبي والإنساني».
عقب استيلاء المتطرفين من جماعة الإخوان وغيرها على طرابلس قاموا بتنصيب مقاتل ليبي سابق في سوريا يدعى مهدي الحاراتي، وهو من قياديي الجماعة الليبية المقاتلة، ليكون عميدا لبلدية العاصمة. في عهده اختفى تمثال «الغزالة والحسناء» الشهير من أحد أهم ميادين العاصمة. جرى الأمر كالآتي: أحضر مجموعة من المتطرفين شاحنة وربطوا التمثال الذي يعود تاريخه لمئات السنين بحبل حتى نزعوه من مكانه ثم نقلوه إلى جهة مجهولة.
استهدف متطرفون آخرون مجموعة من المباني التي تعود للعهد العثماني في طرابلس، منها مسجد أحمد باشا القره مانلي، ومسجد شايب العين، ومدرسة عثمان باشا، وغيرها. وبعد عدة أيام جرى تفجير مقر قديم لشيخ يدعى علي الميرغني في وسط العاصمة. بينما كانت معاول الهدم ومعدات التفجير والسرقة مستمرة في عدد من المدن الأخرى. ويضيف المسؤول العسكري الذي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه أن «المتطرفين أنفسهم الذين كانوا يعتدون على الآثار أصبحوا إما ضمن (داعش) أو من الموالين له في الخفاء.. يوجد خطر حقيقي من هؤلاء، خاصة في مدن طرابلس وبنغازي وسوسة وشحات».
وتقول مصادر أمنية ليبية إن أكثر من عشرين موقعا أثريا تعرضت إما للتجريف والهدم، أو السرقة، خاصة في المناطق التي ينشط فيها المتطرفون. ومن بين الآثار التي تعرضت للسرقة في الفترة الأخيرة مجموعة من الأواني الفخارية جرى السطو عليها من متحف السلطان الذي يقع في نطاق مدينة سرت، وهي مدينة يسيطر عليها تنظيم داعش في شمال وسط البلاد. كما تعرض متحفا «سوسة» و«شحات» في شرق ليبيا للسرقة عدة مرات، ومن بين المسروقات أوانٍ ترجع لعصور قديمة ولوحات من الفسيفساء.
السلطات الأمنية الليبية تحقق في اختفاء قطعة أثرية من مدينة شحات القريبة من مدينة البيضاء مقر الحكومة الشرعية، وهي عبارة عن تمثال نادر يبلغ ثمنه نحو خمسة ملايين دولار، يعتقد أنه جرى تهريبه إلى بريطانيا بأوراق مزيفة عبر تونس وتركيا. كما تجري التحقيقات في ملابسات بيع مخطوطات أثرية ليبية في مالطا. بينما تمكن المتطرفون بالفعل من تدمير لوحات فنية يعود تاريخها لنحو عشرة آلاف عام، في منطقة جبلية تسمى «أكاكوس» في جنوب ليبيا.
اشترك الدكتور حسين مع ممثلي دول أخرى بالمنطقة، منها السعودية ومصر، في ملتقى عقد في القاهرة الأسبوع الماضي، يهدف لحماية الآثار التي تتعرض لخطر الاعتداء عليها من الجماعات المتطرفة، خاصة بعد هدم آثار في العراق وسوريا، على يد «داعش»، منها مدينة نمرود التاريخية. يقول: «أردنا أن نطلق جرس إنذار للعالم، لكي يأخذ معنا خطوة إلى الأمام لحماية الموروث الثقافي الذي هو جزء من الموروث العالمي، وبالتالي المسؤولية عن حمايته مسؤولية تضامنية من العالم أجمع».
وعما إذا كانت هناك وعود من المجتمع الدولي لحماية الآثار في ليبيا، يقول الدكتور حسين: «إن موضوع الدعم الدولي لليبيا في هذا المجال، في الحقيقة، لم يتبلور بعد بشكل كامل. حتى برامج اليونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) في ليبيا هي ممولة بتمويل ذاتي من حصة ليبيا في هذه المنظمة الدولية، ويُصرف منها على برامج التدريب في ليبيا».
ويوجه رئيس مصلحة الآثار الليبية اللوم للبعثات الأجنبية والمؤسسات الدولية التي يقول إنها «استفادت كثيرا من الموروث الثقافي في ليبيا من خلال الدراسات والأبحاث التي قامت بها في السابق.. واليوم لم نر منها شيئا يذكر، باستثناء البعثة (الأثرية) الأميركية».
يجد العديد من المسؤولين الدوليين صعوبة في الدخول إلى ليبيا بسبب الوضع الأمني المتدهور. قبل عدة أيام اضطر أحد ممثلي منظمة اليونيسكو للاجتماع مع أطراف من مصلحة الآثار الليبية لكن في دولة تونس المجاورة. يقول مبعوث المنظمة، مايكل كروفت، في تصريحات له من تونس، إن اليونيسكو اطلعت على ما تقوم به مصلحة الآثار الليبية من جهود لحماية المعالم التاريخية، مشيرا إلى ضرورة التنسيق قبل عقد أي لقاءات على مستوى دولي بهذا الشأن، وذلك للتعرف على كيفية حماية الآثار من الاعتداءات والتهديدات.
خلال جولة قامت بها «الشرق الأوسط» في وقت سابق في بعض المدن الليبية لوحظ أن هناك من يستغل فتاوى «داعش» والمتطرفين ضد الآثار، وذلك بهدم مبان قديمة مثل المباني الإيطالية والتركية التي يتراوح عمرها بين مائة سنة وثلاثمائة سنة أو أكثر، وبناء أبراج سكنية جديدة محلها. يقول الدكتور حسين إن «هذا موضوع مقلق بالنسبة لنا في مصلحة الآثار وفي جهاز حماية المدن التاريخية».
يضيف أن ليبيا فيها نوعان من الدواعش.. «أصحاب الفكر المتطرف الذين لا يؤمنون بالتاريخ ولا بالحضارة، وبالتالي الاعتداء على الآثار يعد من واجبات هذا النوع من الدواعش. أما النوع الثاني فهم أولئك الأثرياء أصحاب المنافع المادية ممن لا تعني لهم القيمة التراثية أي شيء وبالتالي يسعون وراء المكاسب المادية. فهؤلاء أيضا يستغلون الفوضى ويعملون على إزالة المباني الأثرية والمواقع التاريخية».
الدكتور حسين يتابع موضحا أن هناك الكثير من المستوطنات التاريخية التي جرى تجريفها على أيدي مواطنين وللأسف هم ليبيون.. «جرفوا هذه المواقع واستحدثوا مخططات سكنية. ونحن نعمل كل ما نستطيع لحماية هذه المواقع، لكن هشاشة الوضع الأمني في ليبيا تفرض واقعا غير الذي نريده».
وعن الإجراءات التي اتخذتها مصلحة الآثار لمواجهة الخطر المحتمل، يقول الدكتور حسين: «في الحقيقة هناك تخوف من شيئين.. الأول هو المباني التاريخية والمواقع الأثرية، وهذه بطبيعة الحال لا يمكن نقلها، أما القطع الأثرية التي تحويها المخازن والمتاحف فنحن الآن نعمل على خطة لتأمينها أمنيا وتخزين القطع الثمينة في مخازن آمنة إذا قدرنا الله سبحانه وتعالي على ذلك، ونعتمد اعتمادا كليا على الجيش الليبي في تأمين هذه الآثار».
لكنه يضيف موضحا أن «الجيش الليبي يحتاج إلى دعم من المؤسسات الدولية التي تهتم بالتراث للضغط على حكوماتها من أجل دعم الجيش، ورفع الحظر عن تسليحه. نحن من جانبنا قمنا بكل الإجراءات المتعارف عليها بين الأثريين في حماية وتسجيل وتوثيق وتغليف القطع الأثرية. ما ننتظره الآن هو الدعم الدولي للحماية داخل المتاحف وحماية المباني الأثرية أو من خلال برامج التوعية أو برامج الحفظ والحماية والتدخل وقت الأزمات والحروب، وهذه البرامج سيكون هناك تدريب عليها في وقت قريب جدا، وبهذا نكون كليبيين أكملنا ما هو مطلوب منا تجاه حماية الآثار، والباقي ننتظره من العالم الخارجي».



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.