تنظيم داعش يهدد بنسف المعالم التاريخية في ليبيا

رئيس مصلحة الآثار لـ«الشرق الأوسط»: أخفينا القطع النادرة وزدنا قوات الحراسة على المدن القديمة

د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي  -  د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي - د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
TT

تنظيم داعش يهدد بنسف المعالم التاريخية في ليبيا

د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي  -  د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية
د. صلاح الدين عبد الكريم المستشار بالجيش الليبي - د. أحمد حسين رئيس مصلحة الآثار الليبية

ليس مصدر المشكلة التي تواجه الآثار التاريخية في ليبيا تنظيم داعش فقط، بل الكثير من الجماعات والتيارات الأخرى ذات الأفكار المتشددة التي تدور في فلك هذا التنظيم، أو تستغل فتاواه لأغراض تجارية. يقول الدكتور أحمد حسين، رئيس مصلحة الآثار الليبية، في مقابلة مع «الشرق الأوسط» أثناء زيارته للقاهرة، إن المصلحة اضطرت لاتخاذ العديد من الإجراءات لمواجهة احتمال استهداف المتطرفين للمعالم التاريخية كما حدث في العراق وسوريا وغيرهما على يد هذا التنظيم خلال الفترة الماضية، ومن بين هذه الإجراءات إخفاء القطع الأثرية النادرة، وزيادة قوات الحراسة على المدن القديمة.
تولت جماعة الإخوان في ليبيا الحكم من عام 2012 إلى مطلع عام 2014، وبدلا من تأسيس دولة بمؤسسات مسؤولة عن مختلف القطاعات، ومنها الآثار، اتجهت اتجاها آخر منحازا لتقوية الكتائب والميليشيات الخاصة بعد أن انتهت من محاربة نظام العقيد الراحل معمر القذافي. ووقفت الجماعة ضد محاولات عودة الجيش الوطني الليبي للعمل، وبهذا أعطت ما يشبه الضوء الأخضر للمسلحين لكي يثيروا الفوضى في البلاد.
يوجد في هذا البلد النفطي شاسع المساحة موظفون مخضرمون يعملون في مصلحة الآثار، التي تأسست لأول مرة في عهد الاحتلال الإيطالي عام 1914، تحت اسم «إدارة الآثار وتنظيم الحفريات»، بينما ظهر الاسم الرسمي «مصلحة الآثار» المعمول به حاليا منذ عام 1953، أي ما بعد الاستقلال.
حتى قبل ظهور اسم «داعش» في ليبيا كان المتطرفون قد بدأوا يدركون أهمية القطع الأثرية النادرة.. «يفتون بأن هذه الشواهد الرومانية أو البيزنطية حرام، ويفجرونها ويأخذون ما فيها لبيعه للسماسرة»، كما يقول أحد العسكريين الليبيين. يضيف أن بعض الميليشيات كانت تستهدف بالأساس مواقع الأسلحة والآثار، وتستولي عليها. لكنه يشير إلى أنه بعد ظهور «داعش» في عدة مدن ليبية، ومنها درنة وسرت وصبراتة، أصبح التنظيم ينظر للآثار كمصدر بديل للحصول على الأموال، خاصة عقب فشله في السيطرة على آبار النفط.
من جانبه، يقول الدكتور صلاح الدين عبد الكريم، المستشار في الجيش الليبي، لـ«الشرق الأوسط» خلال زيارته للقاهرة، إن المخاطر في ليبيا «هي على كل الأصعدة»، ولكن تظل الآثار وكل ما هو تراث إنساني في ليبيا عرضة للخطر إذا ما استطاعت هذه العصابات الإرهابية من الدواعش وحلفائهم من أدعياء الدين الجديد الوصول للمخزون الثقافي للشعب الليبي، والذي يتمثل في المدن الأثرية القديمة، مثل مدن لبدة وصبراتة وشحات وسوسة وتوكرة وجرزة وغيرها.
ويشير إلى أن الفتوحات الإسلامية حين دخلت شمال أفريقيا حافظت على هذا التراث الإنساني، ولم تستهدفه بالتدمير كما فعل الدواعش الآن في العراق وسوريا. ويقول إنه خلال الشهور الماضية جرى بالفعل استهداف مناطق تضم مقابر تاريخية وجرى مسحها من على الأرض، منها «زوايا سنوسية»، وموقع «عبد السلام الأسمر» في بلدة زليتن، بالإضافة إلى استهداف مساجد قديمة في طرابلس وغيرها.
منذ وقت مبكر من حكم المتطرفين، حيث كان «الإخوان» ومعهم الجماعة الليبية المقاتلة (الموالية لتنظيم القاعدة)، يسيطرون على القرار الحكومي، أدرك موظفو الآثار وجود خطر على القطع النادرة والعملات الذهبية والمصوغات والمخطوطات التاريخية، وغيرها من المحفوظات الثمينة. خلال وجود هذه الحكومة في السلطة بدأ الكثير من موظفي مصلحة الآثار في التذمر من الإهمال، وبدأوا في ذلك الوقت، أي في أواخر 2013، تنظيم الاحتجاجات.
لكن، وبعد مضي نحو عام ونصف العام، يبدو أن الخطر زاد عن السابق بعد أن رصدت أجهزة أمنية ليبية خططا من جانب تنظيم داعش لاستهداف الآثار سواء النسف بالديناميت أو بالسرقة، وقام بتنفيذ بعضها بالفعل خاصة في درنة وسرت. وتوجد آثار تعود لفترات تاريخية مختلفة، لكن العجيب في الأمر هو قيام المتطرفين خلال الفترة الأخيرة بتوجيه معاول الهدم إلى المعالم التاريخية الإسلامية وتفجير زوايا سنوسية ومساجد عثمانية وأضرحة لشخصيات كان لها صيت قبل 700 عام. ودمر المتطرفون مواقع ترتبط بشخصيات تاريخية لها مكانة. ومن بين ما جرى هدمه وتفجيره والاعتداء عليه منطقة «زويلة».
يقول الدكتور حسين، الذي تولى رئاسة مصلحة الآثار في بلاده في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها، إن خارطة الآثار في ليبيا كبيرة ومتشعبة. ويرجع تاريخ بعضها إلى آلاف السنين، وهي تتنوع ما بين حضارات ما قبل التاريخ، وحضارات العصر البرونزي والحضارة الإغريقية والرومانية في شرق ليبيا، والحضارة الفينيقية والرومانية في الغرب، بالإضافة إلى حضارة الأمازيغ والقبائل في عموم البلاد، إلى جانب حضارات العصر الإسلامي التي تمتد على كامل رقعة ليبيا.. وبالتالي ليبيا كنز حضاري منذ آلاف السنين حتى اليوم.
وشجعت فتاوى المتطرفين، وعلى رأسهم تنظيم داعش ضد الآثار في ليبيا، العديد من أصحاب المصالح الاقتصادية والتجارية على مسح مواقع تاريخية من على وجه الأرض واستخدام مكانها في إقامة مبان جديدة أو محال تجارية أو حتى في الزراعة. وعما إذا كان لديه مخاوف من أن يقوم «داعش» بتكرار تجربة ما حدث في العرق من هدم للآثار في ليبيا على نطاق واسع، يؤكد الدكتور حسين قائلا: «نعم بكل تأكيد.. الآثار في ليبيا مهددة بشكل قوي، ونخشى من أن يحدث لها مثل ما حدث للآثار في العراق في ظل تردي الوضع الأمني وفي ظل تراخي المجتمع الدولي عن دعم الجيش الوطني والحكومة الشرعية».
وبعد لحظة من الصمت والتفكير في المأساة التي تمر بها بلاده، ومنها الخطر الذي يواجه ما فيها من معالم تاريخية، يقول رئيس مصلحة الآثار الليبية: «إذا قام المتطرفون بتدمير الموروث الثقافي، فستكون خسارة كبيرة ليس للشعب الليبي فقط، ولكن للعالم. وهذا سيأتي ضمن خسارة كبيرة.. خسارة الوطن ومعه التراث الليبي والإنساني».
عقب استيلاء المتطرفين من جماعة الإخوان وغيرها على طرابلس قاموا بتنصيب مقاتل ليبي سابق في سوريا يدعى مهدي الحاراتي، وهو من قياديي الجماعة الليبية المقاتلة، ليكون عميدا لبلدية العاصمة. في عهده اختفى تمثال «الغزالة والحسناء» الشهير من أحد أهم ميادين العاصمة. جرى الأمر كالآتي: أحضر مجموعة من المتطرفين شاحنة وربطوا التمثال الذي يعود تاريخه لمئات السنين بحبل حتى نزعوه من مكانه ثم نقلوه إلى جهة مجهولة.
استهدف متطرفون آخرون مجموعة من المباني التي تعود للعهد العثماني في طرابلس، منها مسجد أحمد باشا القره مانلي، ومسجد شايب العين، ومدرسة عثمان باشا، وغيرها. وبعد عدة أيام جرى تفجير مقر قديم لشيخ يدعى علي الميرغني في وسط العاصمة. بينما كانت معاول الهدم ومعدات التفجير والسرقة مستمرة في عدد من المدن الأخرى. ويضيف المسؤول العسكري الذي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه أن «المتطرفين أنفسهم الذين كانوا يعتدون على الآثار أصبحوا إما ضمن (داعش) أو من الموالين له في الخفاء.. يوجد خطر حقيقي من هؤلاء، خاصة في مدن طرابلس وبنغازي وسوسة وشحات».
وتقول مصادر أمنية ليبية إن أكثر من عشرين موقعا أثريا تعرضت إما للتجريف والهدم، أو السرقة، خاصة في المناطق التي ينشط فيها المتطرفون. ومن بين الآثار التي تعرضت للسرقة في الفترة الأخيرة مجموعة من الأواني الفخارية جرى السطو عليها من متحف السلطان الذي يقع في نطاق مدينة سرت، وهي مدينة يسيطر عليها تنظيم داعش في شمال وسط البلاد. كما تعرض متحفا «سوسة» و«شحات» في شرق ليبيا للسرقة عدة مرات، ومن بين المسروقات أوانٍ ترجع لعصور قديمة ولوحات من الفسيفساء.
السلطات الأمنية الليبية تحقق في اختفاء قطعة أثرية من مدينة شحات القريبة من مدينة البيضاء مقر الحكومة الشرعية، وهي عبارة عن تمثال نادر يبلغ ثمنه نحو خمسة ملايين دولار، يعتقد أنه جرى تهريبه إلى بريطانيا بأوراق مزيفة عبر تونس وتركيا. كما تجري التحقيقات في ملابسات بيع مخطوطات أثرية ليبية في مالطا. بينما تمكن المتطرفون بالفعل من تدمير لوحات فنية يعود تاريخها لنحو عشرة آلاف عام، في منطقة جبلية تسمى «أكاكوس» في جنوب ليبيا.
اشترك الدكتور حسين مع ممثلي دول أخرى بالمنطقة، منها السعودية ومصر، في ملتقى عقد في القاهرة الأسبوع الماضي، يهدف لحماية الآثار التي تتعرض لخطر الاعتداء عليها من الجماعات المتطرفة، خاصة بعد هدم آثار في العراق وسوريا، على يد «داعش»، منها مدينة نمرود التاريخية. يقول: «أردنا أن نطلق جرس إنذار للعالم، لكي يأخذ معنا خطوة إلى الأمام لحماية الموروث الثقافي الذي هو جزء من الموروث العالمي، وبالتالي المسؤولية عن حمايته مسؤولية تضامنية من العالم أجمع».
وعما إذا كانت هناك وعود من المجتمع الدولي لحماية الآثار في ليبيا، يقول الدكتور حسين: «إن موضوع الدعم الدولي لليبيا في هذا المجال، في الحقيقة، لم يتبلور بعد بشكل كامل. حتى برامج اليونيسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) في ليبيا هي ممولة بتمويل ذاتي من حصة ليبيا في هذه المنظمة الدولية، ويُصرف منها على برامج التدريب في ليبيا».
ويوجه رئيس مصلحة الآثار الليبية اللوم للبعثات الأجنبية والمؤسسات الدولية التي يقول إنها «استفادت كثيرا من الموروث الثقافي في ليبيا من خلال الدراسات والأبحاث التي قامت بها في السابق.. واليوم لم نر منها شيئا يذكر، باستثناء البعثة (الأثرية) الأميركية».
يجد العديد من المسؤولين الدوليين صعوبة في الدخول إلى ليبيا بسبب الوضع الأمني المتدهور. قبل عدة أيام اضطر أحد ممثلي منظمة اليونيسكو للاجتماع مع أطراف من مصلحة الآثار الليبية لكن في دولة تونس المجاورة. يقول مبعوث المنظمة، مايكل كروفت، في تصريحات له من تونس، إن اليونيسكو اطلعت على ما تقوم به مصلحة الآثار الليبية من جهود لحماية المعالم التاريخية، مشيرا إلى ضرورة التنسيق قبل عقد أي لقاءات على مستوى دولي بهذا الشأن، وذلك للتعرف على كيفية حماية الآثار من الاعتداءات والتهديدات.
خلال جولة قامت بها «الشرق الأوسط» في وقت سابق في بعض المدن الليبية لوحظ أن هناك من يستغل فتاوى «داعش» والمتطرفين ضد الآثار، وذلك بهدم مبان قديمة مثل المباني الإيطالية والتركية التي يتراوح عمرها بين مائة سنة وثلاثمائة سنة أو أكثر، وبناء أبراج سكنية جديدة محلها. يقول الدكتور حسين إن «هذا موضوع مقلق بالنسبة لنا في مصلحة الآثار وفي جهاز حماية المدن التاريخية».
يضيف أن ليبيا فيها نوعان من الدواعش.. «أصحاب الفكر المتطرف الذين لا يؤمنون بالتاريخ ولا بالحضارة، وبالتالي الاعتداء على الآثار يعد من واجبات هذا النوع من الدواعش. أما النوع الثاني فهم أولئك الأثرياء أصحاب المنافع المادية ممن لا تعني لهم القيمة التراثية أي شيء وبالتالي يسعون وراء المكاسب المادية. فهؤلاء أيضا يستغلون الفوضى ويعملون على إزالة المباني الأثرية والمواقع التاريخية».
الدكتور حسين يتابع موضحا أن هناك الكثير من المستوطنات التاريخية التي جرى تجريفها على أيدي مواطنين وللأسف هم ليبيون.. «جرفوا هذه المواقع واستحدثوا مخططات سكنية. ونحن نعمل كل ما نستطيع لحماية هذه المواقع، لكن هشاشة الوضع الأمني في ليبيا تفرض واقعا غير الذي نريده».
وعن الإجراءات التي اتخذتها مصلحة الآثار لمواجهة الخطر المحتمل، يقول الدكتور حسين: «في الحقيقة هناك تخوف من شيئين.. الأول هو المباني التاريخية والمواقع الأثرية، وهذه بطبيعة الحال لا يمكن نقلها، أما القطع الأثرية التي تحويها المخازن والمتاحف فنحن الآن نعمل على خطة لتأمينها أمنيا وتخزين القطع الثمينة في مخازن آمنة إذا قدرنا الله سبحانه وتعالي على ذلك، ونعتمد اعتمادا كليا على الجيش الليبي في تأمين هذه الآثار».
لكنه يضيف موضحا أن «الجيش الليبي يحتاج إلى دعم من المؤسسات الدولية التي تهتم بالتراث للضغط على حكوماتها من أجل دعم الجيش، ورفع الحظر عن تسليحه. نحن من جانبنا قمنا بكل الإجراءات المتعارف عليها بين الأثريين في حماية وتسجيل وتوثيق وتغليف القطع الأثرية. ما ننتظره الآن هو الدعم الدولي للحماية داخل المتاحف وحماية المباني الأثرية أو من خلال برامج التوعية أو برامج الحفظ والحماية والتدخل وقت الأزمات والحروب، وهذه البرامج سيكون هناك تدريب عليها في وقت قريب جدا، وبهذا نكون كليبيين أكملنا ما هو مطلوب منا تجاه حماية الآثار، والباقي ننتظره من العالم الخارجي».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟