لأول مرة منذ بداية العقوبات الأوروبية ضد روسيا بسبب حربها على أوكرانيا، واجهت الدول الأعضاء في الاتحاد صعوبة بالغة في الاتفاق حول الحزمة الأخيرة التي ولدت هذا الأسبوع بعد عملية قيصرية استغرقت أكثر من شهر، وكشفت عمق التباين بين الشركاء عندما تمسّ هذه العقوبات مفاصل الإمدادات الحيوية للاقتصاد الأوروبي، الذي بدأت تظهر عليه بوادر الوهن والتراجع منذ أسابيع.
ولأول مرة أيضاً، ترصد المؤسسات الأوروبية اتساع دائرة الاستياء بين الأوساط الاقتصادية والاجتماعية من تداعيات هذه العقوبات التي تدفع إلى ارتفاع نسبة التضخم إلى مستويات قياسية لم تشهدها منطقة اليورو منذ تأسيسها.
يقوم المبدأ الأساسي الذي استندت إليه العقوبات الأوروبية منذ بداية الحرب على إلحاق أكبر قدر ممكن من الضرر بالاقتصاد الروسي، والحدّ قدر الإمكان من الأضرار على الاقتصادات الأوروبية، التي يمكن أن تنشأ عنها. لكن الحزمة الأخيرة، التي من المفترض أن تضرب «الشريان الأبهر» لتدفق العملة الصعبة إلى الاقتصاد الروسي، مرشحة لتعقيدات كثيرة في مراحل تنفيذها التدريجية لقطع إمدادات الطاقة الروسية إلى بلدان الاتحاد التي تعتمد عليها بنسبة عالية، فضلاً عن أن تشعباتها السياسية مشفوعة بالتذمّر المتزايد من الاستمرار بتزويد أوكرانيا بالأسلحة، وإطالة أمد الحرب التي لا يلوح في الأفق القريب بصيص أمل في نهايتها.
اعترفت المفوضية الأوروبية، مطالع الشهر الماضي، عندما كانت الحزمة السادسة ما زالت مجرد أفكار مطروحة، بأن حظر النفط الروسي لن يكون سهلاً بالنسبة لكثير من الدول الأعضاء، وأنه سيؤدي إلى تراجع إجمالي الإنتاج القومي وارتفاع الأسعار بنسبة لا تقلّ عن 8 في المائة. يضاف إلى ذلك أن المشهد الاقتصادي يتلبّد بمزيد من الغيوم بعد إعلان البنك المركزي الأوروبي عزمه رفع أسعار الفائدة قريباً.
لكن إذا كانت تقديرات المفوضية تشير إلى أن الاقتصادات الأوروبية قادرة على استيعاب قرار الحظر الجزئي والتدريجي للنفط الروسي من غير أن تواجه خطر الانكماش، فإن السيناريو الذي تخشاه العواصم الأوروبية الكبرى هو أن تردّ موسكو بقطع إمدادات الغاز الذي من شأنه أن يدفع اقتصادات منطقة اليورو نحو منحدر انكماشي وخيم العواقب.
وكانت المفوضية أشارت في تقرير وضعته منذ أسبوعين إلى أنه في حال قطع الغاز الروسي عن بلدان الاتحاد، سيدخل الاقتصاد الأوروبي في مرحلة من الركود هذا العام، وقد لا ينمو أكثر من 1 في المائة، في أحسن الأحوال، خلال السنة المقبلة. لكن السيناريو الأسوأ هو الذي يمكن أن ينجم لاحقاً عن انكماش اقتصاد ألمانيا وإيطاليا، اللتين تعتمدان بنسبة عالية على الغاز الروسي، وتداعيات ذلك على بقية الاقتصادات الأوروبية. وكان المصرف المركزي الألماني توقع أن قطع الغاز الروسي سيؤدي إلى تراجع إجمالي الناتج القومي في ألمانيا بنسبة تتجاوز 3 في المائة.
ويرى بعض الخبراء أنه في حال تعويض إمدادات الغاز الروسي من مصادر أخرى، لن تتمكّن الاقتصادات الأوروبية من كبح جموح التضخّم، لأن ارتفاع الأسعار، الذي بدأ المستهلكون يعانون منه، يشمل بشكل أساسي جميع المنتوجات والخدمات الأساسية التي يصعب الاستغناء عنها. يضاف إلى ذلك أن أرباح الشركات سوف تتراجع أكثر من المتوقع، وفي حال طال الحظر ستكون التداعيات كارثية على سوق العمل ونسبة البطالة.
لكن القلق الأوروبي لا يقتصر على التداعيات الاقتصادية الناشئة عن العقوبات ضد روسيا فحسب، بل يتعدّاه إلى الارتدادات الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تعيد المشهد الأوروبي إلى حال من التوتر أخطر من تلك التي عقبت أزمة العام 2008 والسنوات التي تلتها. فالحرب الروسية في أوكرانيا كانت أضعفت خلال مراحلها الأولى الأحزاب والقوى الشعبوية واليمينية المتطرفة التي كان معظمها يقيم علاقات وثيقة مع موسكو، لكن الاستطلاعات في الأسابيع الأخيرة تشير إلى أن هذه الأحزاب بدأت تستعيد شعبيتها المفقودة ممتطية صهوة الاحتجاجات المتزايدة ضد تزويد أوكرانيا بمزيد من الأسلحة وإطالة أمد الحرب وتدفق اللاجئين وارتفاع معدلات التضخم.
ويلاحظ في الفترة الأخيرة أن بعض هذه الأحزاب بدأ يسترجع قنوات التواصل مع موسكو، متجاوزاً المواقف والقرارات الوطنية الرسمية، ومطالباً الحكومات بتغيير وجهة تعاملها مع الحرب الدائرة والتركيز على تسويتها بالطرق السلمية عوضاً عن مدّها بالوقود وتأجيجها. وكانت بعض أجهزة الاستخبارات الأوروبية نبّهت مؤخراً من أن بعض القوى والأحزاب اليمينية تستعدّ لحملات احتجاجية واسعة في الأسابيع المقبلة ضد السياسة والمواقف الأوروبية المشتركة من الحرب، والمطالبة بوقف تزويد أوكرانيا بالأسلحة ورفع العقوبات عن روسيا تمهيداً للتفاوض معها.
استياء أوروبي متصاعد من تداعيات العقوبات على روسيا
مخاوف من قطع موسكو إمدادات الغاز... وانتعاش الحركات اليمينية المتطرفة
استياء أوروبي متصاعد من تداعيات العقوبات على روسيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة