الصورة الذهنية للآخر المختلف

مقارنة بين سيرتي أسامة بن منقذ وطه حسين

الصورة الذهنية للآخر المختلف
TT

الصورة الذهنية للآخر المختلف

الصورة الذهنية للآخر المختلف

بالانتقال من الذات إلى خارجها، وإرباك الواقع بمنظار بعيدٍ عن الحقيقة المجردة؛ إذ لا بد من إضافة إسقاطات نفسية وثقافية وعقائدية، وربما سياسية واقتصادية واجتماعية، تتحور عبر هذه الإسقاطات صورة الآخر، ويتحول نتيجة لها إلى شيطان وعدو، ليصبح الازدراء، والكره، والتشفي؛ سماتٍ أساسية تحضر مع كل ذِكر لهذا الآخر المختلف.
كتاب «الاعتبار» للأمير أسامة بن منقذ؛ «سيرة ذاتية» حملت هذه السمات، حيث عايش فترة الحروب المسيحية (الصليبية) على الشرق، فانهمك بالجهاد منذ بلوغه الخامسة عشرة إلى أن جاوز الثمانين، وهي فترة كافية؛ كي يحكم على هذا الآخر، القادم من وراء البحر، ويرسم له صورة ذهنية، هي الصورة ذاته التي سيحملها أبناء عصره.
تنبع أهمية السيرة من الحشد الكبير للحوادث، التي وقعت خلال ما يربو على سبعين سنة، وكذلك للكثير من الأسماء؛ لشخصيات قيادية وسياسية ودينية وبطولية، كان لها أثر في الانتصارات؛ كالملك الكامل، والملك العادل، والأمير عماد الدين زنكي، لكن أشهرها بلا منازع صلاح الدين الأيوبي.
كتابة السيرة الذاتية، خلال تلك الفترة الزمنية؛ لم تكن واضحة المعالم، وليس لها قواعد خاصة، حيث لم تُصنَّف بعدُ، فناً قائماً بذاته، وإنما اعتمد المؤرخون، وناقلو الأخبار، على أسلوب الترتيب الزمني؛ بداية من الولادة، مروراً بالنشأة، وصولاً إلى الشيوخ والمعلمين، وانتهاءً بالمنجزات والمؤلفات.
أسامة لم يبدأ كما اعتاد كُتَّاب عصره، فانطلق من معركة دموية شارك فيها، نتيجتها الانتصار، وقتل ثلاثة آلاف فارس، من فرسان العدو، وهي حادثة وقعت ضمن فترة متقدمة من حياته، لا شك في أهميتها، ورسوخها داخل ذاكرته؛ لكونه لم يبدأ في تسجيل أحداث سيرته، إلا بعد أن قارب التسعين، أو جاوزها.
تُعد سيرة «الاعتبار»؛ وثيقة مهمة، وشاهداً على عصر؛ اتسم بصراع طويل ودامٍ، ضد الغزاة، المحتلين لبيت المقدس، إلى أن تم تحريره بالانتصار في «حطين»، مشتملة على الكثير من المشاهدات والحوادث، التي ذكرها بتجرُّد، ودون تحيِّز ضد الآخر المعتدي، فذكر مساوئه ومحاسنه، راسماً له صورة ذهنية، انتقلت إلى الأجيال اللاحقة، وصولاً إلى عصرنا الراهن، وأثرت بالتالي في ذهنية أبنائه، مثلما هو الحال مع سيرة طه حسين، التي كتبها في ثلاثة أجزاء، وعنونها بـ«الأيام».
تُعتبر «الأيام» شاهداً على عصرٍ مضطرب، يموج بالأحداث والمشكلات، ليس على مستوى الدولة المصرية فحسب، إنما على مستوى الأمة العربية والعالم؛ إذ شهد وقوع حرب عالمية، صبَّت إحدى نتائجها في غير صالح العرب؛ حيث استمرار الوصاية الغربية المسيحية على فلسطين، وفي هذا تتقاطع «الأيام» مع «الاعتبار»، فالسيرتان ترسمان صورة الآخر المختلف زمن الحرب.
الصورة الذهنية المرسومة للآخر ضمن «الأيام»؛ اتسمت بالصدق وعدم التحيُّز، كما أنها أهملت العدائية تجاهه؛ إذ استفادت من علومه ومعارفه، وتواصلت معه مكانيّاً، عبر إكمال الدراسة على أراضيه، متوِّجة ذلك بالزواج من فتاة فرنسية، أُعجب بها الكاتب وأحبها. أهمية السيرة وقيمتها تنبع من النظرة المختلفة لهذا الآخر، حيث لم تعد تنظر إليه باعتباره عدوّاً، يجب محاربته والقضاء عليه.
الفارق بين السيرتين؛ يتمثل في أنَّ «الاعتبار»، ورد كذكريات ويوميات لا تعتمد ترتيباً زمنيّاً واضحاً، مع غلبة الاستطراد وإيراد الأخبار الجانبية، التي تثير شهية المتلقي؛ كي يتابع حتى النهاية، أما «الأيام» فجاءت كتابتها بشكل مغاير تماماً، حيث استفادت من تطور فن السيرة، فاتَّبعت ترتيباً زمنيّاً واضحاً، بدأ من الطفولة والنشأة، وصولاً إلى الدراسة الجامعية والزواج.
السيرتان مكتوبتان بأسلوبين مختلفين، لكنهما تقاربان الموضوع نفسه، وهو الصورة الذهنية للآخر المختلف زمن الحرب، ورغم ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ من غلبة العداوة والبغضاء، وكثرة الشتائم والسباب، ضدَّ هذا الآخر؛ إلا أن «أفق التوقع» لديه سيخيب؛ بسبب شفافيتهما وحياديتهما، حيث ذكرا المحاسن إلى جانب المساوئ.
الصورة الذهنية المرسومة للآخر؛ لا تقتصر على العداوة والكره، فثمة مشاعر أخرى، أقرب للمحبة والود، وهو ما يشير إلى تغيُّر النظرة تجاهه، خصوصاً لدى طه حسين، الذي أدرك شرط الانخراط في الحضارة، وأنه يتضمن القبول بالآخر، والاعتراف بتفوقه؛ من أجل الاستفادة منه.
* كاتب وناقد سعودي



«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!