الدراسات العربيّة في الغرب... تاريخ لم يكتمل

مقالات هاملتون تمحورت حول فترة صعودها خلال القرن السابع عشر وأهملت جذورها

ألستير هاملتون
ألستير هاملتون
TT

الدراسات العربيّة في الغرب... تاريخ لم يكتمل

ألستير هاملتون
ألستير هاملتون

أثار كتاب ألستير هاملتون «العرب والمستعربون... مقالات مختارة*» عند صدوره قبل أشهر اهتماماً استثنائياً في الأوساط المتخصصة بالدراسات العربيّة والإسلاميّة في العالم الغربي، بوصفه إحدى المحاولات النادرة في تأريخ اهتمام الغرب بتلك النوعيّة من الرصد المؤسسي المحترف والأكاديمي لكل ما يتعلّق بثقافة ولغة العالم العربي (والإسلامي عموماً)، ليس للوقائع والأسماء فحسب، وإنما للبحث في الغايات من وراء تلك الجهود، وتحولات هذي الغايات عبر المراحل التاريخية المختلفة. وربّما هو الأهم. على أن مقالات هاملتون المختارة، وإن تضمنت تغطية مشوّقة وإضاءات لطيفة على جوانب من ذلك التاريخ الطويل والمتشابك، فإنها تمحورت بشكل أساسي حول فترة صعود الدراسات العربيّة خلال القرن السابع عشر، مع ملاحظات محدودة عمّا تلاها، وقطيعة شبه كليّة عن جذور تلك الدراسات في إطار تجربة الأندلس، فضاء الجدل الحضاري - صداماً وتلاقياً في آن - بين الشرق والغرب، الذي استمر 8 قرون كاملة (بداية من العام 711 ميلاديّة) قبل إنهائه بمحض العنف الدّموي مع نهاية القرن الخامس عشر (لحظة سقوط آخر ممالك العرب هناك في 1492)، ما يعيدنا إلى نقطة غياب تأريخ شامل لهذه الظاهرة، رغم دورها الخطير في صياغة العلاقات بين طرفي العالم.

لقد انتشرت الثقافة العربيّة الإسلاميّة بشكل واسع بين سكان شبه الجزيرة الأيبيريّة، مسلمين ومسيحيين ويهوداً، وأصبحت لغة الفاتحين الذين عبروا البحر إلى جنوب أوروبا من جبل طارق مساحة لا بدّ من عبورها لكلّ أوروبي رغب في الالتحاق بثقافة الحضارة الغالبة حينها، في وقت كانت فيه القارة القديمة سجينة ظلام فوضى ما بعد سقوط الإمبراطوريّة الرّومانيّة. وهناك إشارات موثقة على إقبال كبير بين سكان أيبيريا الأصليين على استيعاب الثقافة العربيّة وتعلّم لغتها على حساب اللاتينيّة، لعل أشهرها تلك الشكوى المريرة التي أطلقها القس ألفرو القرطبي من ذلك، وقال فيها: «إن إخواني في الدّين يجدون منتهى اللذة في قراءة أشعار العرب وحكاياتهم، ويقبلون على دراسة مذاهب أهل الدين والفلسفة المسلمين، لا ليردوا عليها وينقضوها، وإنما لكي يكتسبوا من ذلك أسلوباً عربياً جميلاً صحيحاً. فأين تجد الآن واحداً من غير رجال الدين يقرأ الشروح اللاتينية التي كتبت على الأناجيل المقدسة؟ ومن سوى رجال الدين يعكف على دراسة كتابات الحواريين، وآثار الأنبياء والرسل؟ يا لحسرتي! إن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون اليوم إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها ويقبلون عليها في نهم، وهم ينفقون أموالاً طائلة في جمع كتبها، ويفاخرون في كل مكان بأن هذه الآداب جديرة بالإعجاب. فإذا حدثتهم عن الكتب النصرانية أجابوك في ازدراء بأنها غير جديرة بأن يصرفوا إليها جلّ اهتمامهم. يا للألم! لقد نسي النصارى لغتهم، فلا تكاد تجد في الألف منهم واحداً يستطيع أن يكتب إلى صاحبه كتاباً سليماً من الخطأ. فأما عن الكتابة بلغة العرب، فإنك واجد فيهم عدداً عظيماً ممن يجيدها بأسلوب منمق، بل منهم من ينظم في الشعر العربي ما يفوق عطاء شعراء العرب أنفسهم فناً وجمالاً».
ولكن ما غاب عن القس الحزين أن العربيّة وقتها كانت أيضاً لغة الإدارات العامّة وشؤون الحكم، وطوّرت ألفاظاً خاصة ومصطلحات لكل ما يتعلق بالزراعة والبناء والعمران، والأزياء والزينة، كما الفلسفة والجدل، إضافة إلى أن المسلمين أنفسهم تعلموا أيضاً النسخة الإسبانيّة المحليّة من اللغة اللاتينية، وعرفت بـ«الرومانثي». الأمر الذي خلق أجواء غير مسبوقة، وربما لن تتكرر من التمازج الحضاري المتبادل بين الشرق والغرب، بالطبع كما نفهم المصطلحين اليوم.
ومن المعروف أن أوروبيين كثيرين من قلب القارة القديمة جلبهم الفضول والبحث عن المعرفة، وربما المصالح التجاريّة أيضاً، نحو الأندلس، فتجولوا في البلاد وتعاطوا مع أهلها وتعلموا لغتها ودرسوا في جامعتها واقتنوا من كتبها، ودوّن بعضهم انطباعاته عنها. ناهيك بالطبع عن انتقال شكل آخر من ذلك الفضول إلى الدويلات الإيطالية المطلة على المتوسط، التي شهدت اهتماماً كبيراً بالعربيّة وثقافة العرب، أقله من بوابة الترجمة لإعادة اكتشاف العلوم والفلسفات التي انقطع اتصال الأوروبيين بها خلال عصور الفوضى. وهناك ما يكفي من الإشارات، وإن تفرقت وأهملت، عن ترافق هذا التواصل المعرفي (شرق - غرب) مع إرهاصات ما عرف لاحقاً بعصر النهضة الأوروبيّة. وهذا كلّه غير اصطدام الحديد بالحديد طوال فترة الحملات الصليبيّة التي مع ذلك تضمنت تبادلات ثقافيّة ولغويّة عميقة بالاتجاهين.
ويذهب مستشرقون إلى إغفال كل تلك التقاطعات، وينسبون البدايات الجادة للدراسات العربية إلى العام 1312، عندما أصدر مجمّع فيين البابوي مرسوماً يقضي بضرورة تدريس اللغة العربية في جامعات أفينيون وباريس وأكسفورد وبولونيا وسالامانكا. لكن الحقيقة أنّ ذلك المرسوم بقي دائماً حبراً على الورق لأن التمويل اللازم لم يكن متاحاً، ولم نجد سجلات موثقة عن دراسات منهجيّة معنيّة بالعرب والعربيّة في مؤسسات غربية قبل القرن السادس عشر، بداية مع أبحاث غيوم بوستل، من بارما في إيطاليا الحاليّة، ولاحقاً في القرن السابع عشر مع دراسات رصينة أنتجها باحثون تمركزوا حينها في جامعة لايدن، بهولندا الحاليّة. على الرغم من أن أحد أهم هؤلاء، ويدعى توماس إربينيوس، قد اقترح في محاضرة له عام 1613 أن الدراسات العربية تستحق التشجيع لأنها ستكون مفيدة للتجار وغيرهم من المسافرين، إلا أن هناك قليلاً من الأدلة على أن العمل الذي أنتجه إربينيوس وزملاؤه قد أنتج شيئاً ذي فائدة كبيرة لأي من هؤلاء التجار والمسافرين المزعومين، ومن المسلم به الآن أن تلك الدراسات كان تجري في إطار أغراض دينية مسيحيّة محضة، إذ ساد اعتقاد حينها بأنّ الدراسة المتأنية للقرآن والمعتقدات الإسلامية بشكل عام من شأنها أن تساعد المبشرين المسيحيين في تحويل المسلمين عن دينهم، ودفع الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية للسعي إلى تحويل المسيحيين المشرقيين إلى نسخة غربية من الإيمان، وهم نجحوا بالفعل في جذب الموارنة إلى شركة كاملة مع الكنيسة الكاثوليكية، لكن تجربتهم في التواصل مع الأقباط وغيرهم من المسيحيين الشرقيين فشلت على العموم.
وقد عانت دراسة العربيّة في تلك الفترة من إعاقة شديدة بسبب الاعتقاد السائد بين اللغويين أن العبرية هي أم جميع اللغات، وأنّ دراسة العربية قد يكون مهماً لناحية الإضاءة على أصول بعض الكلمات العبرية، وبالتالي نصوص العهد القديم، كما أن البعض ممن حاول دراسة القرآن الكريم لدحضه انتهى أيضاً في ذات الفخ من الاعتماد على قواعد اللغة العبرية وترتيب أبجديتها كدليل لترجمة اللغة العربية، وهو أمر لم يكن مفيداً بأي شكل، وأضاع جهود كثيرين إلى هباء تام. وانتشرت أسطورة شعبيّة وقتها تقول إن دراسة القرآن تؤدي بصاحبها إلى موت مبكّر، يبدو أن وراءها متعصبين في إطار الكنيسة، ولذلك تجنّب كثيرون نشر أعمالهم عن العربيّة والقرآن للعموم في حياتهم، ولم تصبح متداولة إلا بعد وفاتهم. وهكذا نُشر قاموس رافيلينجيوس الرائد بعد وفاته، وتوفي كثير من زملائه الألمان مبكراً، وعُثر على هنري سايك، الذي ترجم القرآن ووصفه بأنّه «الكتاب الأكثر أناقة وعقلانية في العالم»، مشنوقاً في غرفته في كامبريدج عام 1712. ولم يعثر على أوراقه التي تضم تلك الترجمة قط.
على الرّغم من كلّ هذا الارتباك العلمي والتعصّب الدينيّ، فإن القرن السابع عشر كان عصراً ذهبياً سابقاً لأوانه للدراسات العربية، إذ تراجعت الأمور بشكل فادح في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كما اكتشف إدوارد جيبون، ولاحقاً ريتشارد بيرتون، عندما حاولا دراسة اللغة العربية في جامعة أكسفورد، وانتقلت بعدها الدراسات المتعلقة بالشرق عموماً، وبشكل كبير، من حيّز التحليل العلمي والفقهي المرتبط بأسباب دينية وتبشيريّة، إلى أداة للدول الاستعماريّة، لكن تلك قصّة أخرى.



أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية
TT

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

يُعد الروائي الجزائري أمين الزاوي من أبرز الأصوات الأدبية في المشهد المغاربي الراهن؛ يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وحصل على عدة جوائز دولية، منها جائزة «الحوار الثقافي» عام 2007 التي يمنحها رئيس الجمهورية الإيطالية، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 13 لغة، كما وصل عدد منها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، آخرها رواية «الأصنام» (2024)، ومن رواياته بالفرنسية «الخنوع»، و«طفل البيضة». يعمل أستاذاً للأدب المقارن بجامعة الجزائر المركزية، وتولى منصب المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية حتى عام 2008. صدرت له أخيراً رواية «منام القيلولة» عن دار «العين للنشر» بالقاهرة... هنا حوار معه حولها والمحطات المهمة في تجربته الأدبية.

* في روايتك الأحدث «منام القيلولة» تتفرع من الواقع مسارات للغرابة من خلال حكاية «أم» جزائرية... حدِّثنا عن ملامح هذا العالم الروائي الجديد؟

- كتبت هذه الرواية بقلبي، بحس خاص جداً، كانت أحداثها تسكنني منذ سنوات، وهي مرتبطة، ليس بشكل مباشر، بأشخاص شكلوا جزءاً مهماً في حياتي منذ الطفولة. كل شخصية روائية في «منام القيلولة» لها معادلها الاجتماعي لكنها كُتبت بشكل أدبي بكل ما في الأدب من نزعة التخييل والمسخ والتحوير والاختراق.

تتشكل الرواية إلى قسمين متداخلين في تناوُب وتناغُم؛ قسمٌ سمعتُ جلَّ وقائعه أو رُوي لي، وهو القسم الخاص بزمن الثورة المسلحة، حيث الحديث عن الخيانة الوطنية وخيانة الصداقة، وفيها أردت أن أقول إن التاريخ هو من صناعة البشر، والبشر مُعرضون للضعف ولارتكاب الأخطاء الصغيرة والكبرى، والثورة لها منطقها المتميز بالعنف والخوف والشجاعة، كل هذه القيم تتقدم معاً مختلطةً ومتنافرةً ومتقاطعةً، وهذا هو الجو الذي يتشكل فيه شقاء وعي المناضل.

أما القسم الثاني من الرواية فقد عايشته وعشته، وفيه أعرض بعض شخوص تشبه بعض الذين قاطعتهم في حياتي، ولكنهم سردياً خرجوا وتحرروا من الحالة الواقعية ولبسوا لبوس الشخوص الروائية، وهم من يمثلون الجيل الجديد في ظل الاستقلال وشكل الدولة الوطنية وما عاشته من تقلبات سياسية وحروب أهلية.

* يُحيل عنوان روايتك «الأصنام» إلى ميراث مجازي من التطرف والتحجّر، ثم سرعان ما يحملنا إلى فضاء الرواية المكاني وهو مدينة «الأصنام». حدِّثنا عن هذا التراوح بين المجاز والمكان.

- أحياناً يكون العنوان هو النقطة التي تتشكل منها الرواية ككرة الثلج، تُحيل كلمة «الأصنام» إلى بُعدين مركزيين؛ الأول يرمز إلى هذه الأصنام السياسية والدينية الجديدة التي نُصبت في المؤسسات وأصبحت بديلاً عن الله وتتكلم باسمه وبديلاً عن الوطن وتتكلم باسمه، والبعد الآخَر هو الإحالة إلى مدينة «الأصنام» التي توجد في الغرب الجزائري، التي أصبحت تسمى اليوم «شلف»، وتغيير اسمها جاء جراء تخريجات شعبوية دينية وسياسية أفتت بها «أصنام» السياسة والدين في ثمانينات القرن الماضي، حيث تعرضت المدينة لزلزال مدمر، ففسرته «الأصنام» الدينية والسياسية الشعبوية على أن الله ضرب المدينة بهذا الزلزال بسبب اسمها الذي تحمل والذي يُحيل إلى الشرك والكفر ويضرب وحدانية الله.

بهذا المعنى فالمكان في الرواية ليس حيادياً بل هو جزء من إشكالية الرواية، وهو يحيل إلى مستوى زيف الوعي التاريخي الجمعي، اختياره له دلالاته السياسية والحضارية والعقلية.

* تحاورت عبر التخييل الأدبي مع القصة التاريخية الأولى للقتل «قابيل وهابيل» ووضعتها في سردية مضادة في روايتك. ما الذي ألهمك لتطوير تلك المعارضة الأدبية؟

- سبق لي أن نشرت رواية بعنوان «حر بن يقظان»، وفيها أقمت معارضة فلسفية لقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، وهي أيضاً قريبة من معارضة رواية «روبنسون كريزوي» الفرنسية، حاولت بها أن أقول إن «الحرية أسبق من الحياة والوجود»، لذا استبدلت بـكلمة «حي» كلمة «حر».

وفي رواية «الأصنام» حاولت مقاربة فلسفة الأخوة التي لم يُكتب عنها إلا القليل جداً، عدت للحكاية التي وردت في الكتب السماوية الثلاثة عن قابيل وهابيل، وكيف كانت أول عملية إجرامية في التاريخ، لكني عكست الحكاية وبنيت علاقة عشق بين الأخوين مهدي وحميميد، وكيف أن الأخ الأصغر يعطي حياته للمخاطر والأسفار والحروب بحثاً عن قاتل أخيه والانتقام منه.

* الحِس الساخر بارز كأداة نقدية في أعمالك، كالقبض، مثلاً على والد البطل في رواية «الأصنام» بسبب اسم ابنه...

- السخرية سلاح مُقاوم، في رواية «الأصنام» اشتغلت على السخرية التي تكشف مستوى الرقابة والقمع الممارَس على المواطن، فحتى الأسماء يمكنها أن تكون سبباً في توقيف وسجن مواطن بسيط، ومن ذلك أن الأب يتم سجنه لسبب بسيط هو أنه سمى ابنه الذي وُلد يوم الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة، سمَّاه باسم حميميد، وهو الاسم الذي كان يُطلق على الرئيس أحمد بن بلة. وفي السجن يتعرف على «الصرصور» الذي يرافقه في زنزانته ويكسر عنه وحدته ويصبح صديقاً حميماً له، ويظل قلبه مشدوداً له حتى بعد خروجه من السجن.

* في أعمالِك انشغال بصوت العائلات وتتبع أصواتها ومآلاتها، ما أكثر ما يؤرقك في سيرة الأجيال الجزائرية المتلاطمة بين تيارات الاستعمار والتحرر والثورات؟

- العائلة مؤسسة بقدر ما هي قامعة هي في الوقت نفسه مورِّثة لمجموعة من التقاليد تتناولها الأجيال. إنَّ الحرية لا يمكنها أن تُفهَم وتُدرَك إلا داخل الأسرة؛ فالعلاقة بين الأب والزوجة، بين الأب وابنته، بين الأخ وأخته هي مقياس أساسي لفهم الوعي الجمعي لحرية المرأة، والخطابات بين أفراد العائلة تعكس في مفرداتها كثيراً من اللامسكوت عنه واللامفكَّر فيه، لذا جاءت رواياتي، وبالأساس روايتا «الأصنام» و«منام القيلولة»، تكتب التاريخ والمجتمع من خلال تفكيك سلّم العلاقات ما بين أفراد العائلة، وفيما بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. فالأسرة تشبه في بنيتها هرم بنية السلطة السياسية بشكل واضح.

* يبدو التراث جلياً في تفاصيل أعمالك، كتلك المقاربة في عنوان «الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق»، وتُصدِر إحدى رواياتك برثاء المهلهل بن ربيعة لشقيقه كُليّب... حدِّثنا عن علاقتك بالتراث العربي؟

- أعدّ نفسي قارئاً نهماً للتراث العربي والإسلامي ومهتماً به، التراث المكتوب والشفوي على حد سواء، ولكن يجب أن ننظر إلى تراثنا، ونتعامل معه، في علاقته مع التراثات الإنسانية الأخرى حتى تتجلى لنا الصورة الناصعة فيه والمتردية أيضاً، لأن التقوقع حول تراثٍ وطنيٍّ والزهو به كثيراً قد يُسقطنا في مرض الاكتفاء بالذات. حين اكتشفتْ الإنسانية قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» تبناه الجميع، لا لأنها من هذه الهوية أو تلك، ولكن لأنها تعكس إبداعاً خالداً يمس البشرية جمعاء.

في تراثنا الجزائري أسعدُ دائماً بقراءة «الحمار الذهبي» لأبوليوس، وأيضاً «مدينة الله» للقديس أو أوغسطين وغيرهما، ويثيرني أيضاً التراث الأمازيغي الذي هو وعاء حقيقي لذاكرة البلاد، كما أقرأ الجاحظ وأعدّه معلم الحكاية، وأقرأ المعرّي «رسالة الغفران» وأعدّه مُعلم الجرأة.

* تحمل أعمالك رؤية آيديولوجية ونقدية، هل يصعب على الروائي صاحب الموقف أن يُحيّد نفسه وموقفه وهو يكتب الأدب، أم أن الحياد هنا نزعٌ لصوته الخاص؟

- الكاتب له قناعة فلسفية وسياسية واجتماعية، وبالتالي لا كتابة خارج هذه القناعة، لكن يجب النظر إلى هذه العلاقة بشكل مُعقد وليس ميكانيكياً، فالفن ومنه الأدب لا يعكس قناعة الكاتب بشكل آلي ولكن الكتابة الإبداعية تقول تلك القناعة بقناع جمالي مُعقد ومركّب إنْ على مستوى اللغة أو من خلال تحليل نفسيات الشخوص الروائية أو من خلال البناء السردي نفسه، الرواية تحتاج إلى قول الآيديولوجيا جمالياً وتلك هي مغامرة الكتابة والتحدي الذي عليها مجابهته.

* كيف تتأمل المسافة بين اللغتين العربية والفرنسية؟ ما الذي يجعلك تختار الفرنسية لكتابة رواية؟

- أكتب باللغتين العربية والفرنسية في انسجام منذ ثلاثين سنة. نشرت 15 رواية باللغة الفرنسية، بعضها يدرَّس في كثير من الجامعات الأوروبية المختلفة، ونشرت 15 رواية باللغة العربية. تربطني باللغة علاقة شخصية-ذاتية أكثر منها موضوعية، لكل كاتب لغته، وما أُصر عليه هو أنني لا أخون قارئي في اللغتين. ما يشغلني بالعربية هو ذاته ما يشغلني بالفرنسية، والإشكالات التي أكتبها لا تفرِّق بين هذه اللغة وتلك.

حين أبدأ كتابة العمل الروائي تسكنني حالة سيكولوجية لغوية غير مفسَّرة، فأجدني أكتب من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار، ثم أغرق في شهوة الكتابة بهذه اللغة أو بتلك. ما يُفرق بين الكتابة باللغتين هو القارئ، فالقارئ بالفرنسية له تقاليد قبول كل الموضوعات والإشكاليات، لا تابوه في رأسه، وهذا ناتج عن علاقته بنصوص روائية فرنسية أو مترجمة إلى الفرنسية كُتبت في ظل حرية كبيرة وسقف قبول عالٍ، أما القارئ بالعربية، وإن كنا نلاحظ تغيرات كثيرة طرأت عليه أخيراً فإنه لم يتخلص من نصب المحاكَم للروائيين في كثير من المرات، هي في غالبيتها محاكم أخلاقية أو دينية لا علاقة لها بالأدب، وهذا العطب في الفهم وفي المفاهيم قادم من مناهج المدرسة والجامعة التي تحتاج إلى مراجعة جوهرية.