{الشرق الأوسط} في مهرجان برلين السينمائي ـ 6: أفلام برلين بين بوليسي ملغوم كوميديا ومسرحية تنطق سينما

الصينية منها ليست من النوع الذي سيشهد نجاحا تجاريا كبيرا

مشهد من «حياة رايلي» لرينيه
مشهد من «حياة رايلي» لرينيه
TT

{الشرق الأوسط} في مهرجان برلين السينمائي ـ 6: أفلام برلين بين بوليسي ملغوم كوميديا ومسرحية تنطق سينما

مشهد من «حياة رايلي» لرينيه
مشهد من «حياة رايلي» لرينيه

لا تعرض المهرجانات السينمائية عادة الأفلام التي تنجز الإيرادات الكبيرة. بطبيعة حالها، معظم تلك الأفلام تختار طريق السينما السائدة لعرض حكاياتها وأحداثها بينما يختار المهرجان من بين تلك التي تشكل تعبيرا عن المخرج وليس عن الصناعة.
لهذا السبب لن نرى الفيلم الذي يحقق حاليا رقما إيراديا في العروض التجارية تحت عنوان «سعدان ملك» Monkey King الذي هو الإنتاج الأول لشركة يديرها لي يانهونغ ويانهونغ (أو كما يسمي نفسه بالإنكليزية روبين لي) هو أغنى أغنياء الصين. الفيلم المذكور يستوحي أحداثه من الأسطورة الشهيرة التي سبق لمحطة «بي بي سي» أن عرضت بعض أعمال تلفزيونية اقتبست عنها: سعدان ملك، تبعا للأساطير الشعبية، كان محاربا يستطيع الإتيان بأعمال خارقة للعادة يساعد فيها الشخصيات الأخرى على تحقيق العدالة والسمو بالروح إلى مصافّ أعلى. الفيلم نفسه، كما حققه المخرج سوي تشينغ، مبني على تلك الأساطير لكنه أكثر ترديدا للنواحي الروحية من المعتاد.
بصرف النظر عن النجاح الذي يحققه حاليا، والذي يشجع المنتج يانهوغ على اعتبار دخوله صناعة السينما بمثابة نجاح يجب تكراره (لذلك يحضر حاليا لأكبر فيلم أنيميشن صيني - كوري مشترك) فإن الأفلام الصينية المعروضة في عروض مهرجان برلين الرسمية (يستمر حتى السادس عشر من الشهر) ليست من النوع الذي سيشهد نجاحا تجاريا كبيرا داخل الصين. ليس بحجم الخمسين مليون دولار التي جمعها «سعدان ملك» من صالات الصين حتى الآن، علما بأن سعر التذكرة هناك أرخص بكثير من سعرها في الدول الغربية ما يعني أن الإيراد الفعلي لهذا الفيلم حتى الآن ربما يتجاوز ال200 مليون دولار.

* بلا خبرة
يوم أمس (الأربعاء) كان اليوم الذي عرض فيه المخرج الجديد نسبيا دياو يينان فيلمه الجديد «فحم أسود.. ثلج رقيق» أمام جمهور الحاضرين حاصدا ردات فعل متباينة. الفيلم، الذي عرض للصحافة قبل ذلك بيوم واحد، يحمل حكاية محاطة بأسلوب سرد يجعلها تبدو على غير حقيقتها؛ فالقصة بذاتها بسيطة القوام: محقق يحاول حل قضية من الجرائم الغامضة التي ارتكبها رجل قطع فيها جثث ضحايا وبعثرها في مياه النهر. الحادثة الأخيرة تفتح ملفا مشابها كان وقع في عام 1999 عندما أخذ عمال مناجم الفحم في المقاطعة الشمالية التي تدور فيها الأحداث (الفيلم باللغة المندارينية) يكتشفون أطراف جثث تحملها شاحنات الفحم إلى المصنع.
الاكتشاف مرتبط بامرأة غامضة تعمل في دكان لغسل الثياب، لكنها ليست القاتلة ولو أنها تعرف هويته. والفيلم لا ينتهي عند معرفتنا نحن بها، ولا بمقتله برصاص البوليس إثر مطاردة قصيرة، بل يستمر ليكشف جوانب أخرى من شخصية المرأة التي ارتكبت بدورها جريمة قتل كانت واحدة من أسرار الفيلم القليلة.
معالجة المخرج يينان للفيلم تشكل مشكلته الجوهرية. هناك مطّ في سرد حكاية كان يمكن لها أن تتوجه مباشرة إلى النوع البوليسي. حقيقة أن المخرج اختار لها أن تتبع بصمته في العمل أمر جيد، لكن بصمته هذه ما زالت بلا خبرة لخلق حالة قصوى تستخرج من التطويل منافعه ولمحاته الفنية. هناك أيضا تركيبة مونتاجية غير مرتاحة. الكثير من المشاهد تبدأ ولا تنتهي عند نقطة صحيحة للتواصل بعدها مع المشهد الآخر. وإذا ما كان المخرج يود تحقيق «فيلم نوار» كما يذكر في أحاديثه، فإن ما يعالجه ربما - وفي أفضل الحالات - نوع من الفيلم البوليسي الداكن، لكنه ليس النوع الصحيح.
التركيبة الفاشلة ذاتها، وعلى نحو أفدح، موجودة في «تاريخ الخوف» لبنجامين نيشتات. إنه الاشتراك الأرجنتيني في المسابقة وعذره في اختيار تلك التركيبة أنه فيلم يميل إلى التجريبية. والتجريب في السينما - في الكثير من الأحيان وفي هذه الحالة نموذجا - ما هو إلا عذر لتغطية عجز في التواصل مع المشاهد وتحقيق فيلم يحترم المفردات حتى وإن كانت كلاسيكية.
«تاريخ الخوف» يبدأ بكاميرا تطير فوق ضاحية من ضواحي بيونس آريس مع صوت مايكروفون يحذر الناس من أمر غير مفهوم المصدر. إنه البث الأول للخوف وخيط الفيلم المحوري هو ذلك الخوف المنتشر بين الناس: الابن من أبيه، الأب من محيطه، البعض من جرس الإنذار، والبعض الآخر من الكلاب، والثالث من تلك الأشجار وما قد يكمن خلفها. الفكرة على هذا النحو مثيرة للاهتمام وكان يمكن لها أن تسفر عن فيلم مثير للأهمية، لكن معالجتها لا تمنحها مثل هذا البعد. عكس ذلك، هي محدودة ومجزأة بحيث يبدو كل حدث فيها بمثابة مشهد مسيج يبدأ وينتهي من دون أن يقول كلمته بعد. وحتى عندما تعود الشخصيات المتنافرة التي تتحرك على سطح هذا الفيلم للظهور مجددا فإن القليل من أفعالها أو ما تشهده من أفعال سواها مبرر.
إنها شخصيات تفتقر، باختيار المخرج، إلى الكتابة بحيث تتماثل خلفياتها لكي تبرر وجودها وكضرورة للتطوير. صحيح أن الناحية التجريبية قصد بها أن تعفي المخرج (أي مخرج) من الاقتداء بتقاليد السرد، لكن على الفيلم أن يكون أساسا تجريبيا كاملا لكي يتمتع بذلك النوع من الإعفاء.

* اقتباس فذ
إذا كان مصدر فيلم «تاريخ الخوف» هو التجريب، أو نصفه على الأقل، فإن مصدر اهتمام الفرنسي المعمر ألان رينيه (92 سنة) هذه الأيام هو المسرح. أفلامه في السنوات الخمس عشرة الأخيرة هي إما مسرحيات اقتبست للسينما أو ذات أساليب وحكايات توحي بانتماءاتها المسرحية.
فيلمه الجديد «حياة رايلي» هو ثالث اقتباس له عن مسرحية للإنجليزي ألان آيكبورن بعد «تدخين - لا تدخين» (1993) و«مخاوف خاصة في أماكن عامة» (2006)، كلاهما من أفضل أعمال رينيه. «حياة رايلي» لا يقل رونقا. هاك مخرج أنجز ما لا يقل عن خمسين فيلما ولا يزال مقبلا على الحياة يختار من بين قصصها ما يبعث على التفكير المحاط بالأمل والفرح. حتى شخصياته القلقة والتائهة لا تستطيع أن تغير من ذلك الشعور المبهج الذي يداخل المشاهد حين مشاهدة هذا الفيلم.
حكايته بسيطة الفحوى: رايلي كاتب مسرحي لديه ستة أشهر ليعيش بعدما اكتشف إصابته بالسرطان. ثلاث ممثلات تجاوزن منتصف العمر يردن الارتباط به اجتماعيا وربما عاطفيا إذا ما كان الأمر متاحا. كل واحدة تعيش مع رجلها في الوقت ذاته. مسرح الفيلم هو اللقاءات التي تقع بين النساء المتصادقات حيث يتبادلن الحديث الودي منه والعدائي، وأيضا بين كل واحدة والرجل أو الزوج الذي تعيش معه والذي يشعر كل منهم بأن الأرض تميد تحت قدميه عندما تفصح كل واحدة عن رغبتها في قضاء العطلة مع رايلي. إنها عطلته الأخيرة وكل واحدة منهن تعد نفسها المدعوة لتمضية العطلة معه.. كل هذا ونحن لا نرى رايلي مطلقا في الفيلم.
رينيه الذي يزداد رقة وشفافية مع كل فيلم، يفتتح على طريق ريفي ضيق. الصورة ثابتة على ذلك الطريق حيث تتوالى الأسماء. بعد ذلك يعود إلى تلك الطرق الريفية كفواصل بين كل مشهد وآخر. هذا لا بد مريح ومسرحي تماما في الوقت نفسه. مريح لأن مشاهد الطرق تلك تصبح فواصل لحظية عوض الاعتماد على تبرير ينبع من تأليف مداخل ومخارج سينمائية.
كذلك اللافت هو استعانة المخرج بشاشة بيضاء مع خطوط رمادية لتصوير شخصياته وهي تتحدث في لقطات قريبة متوسطة (كلوز أبس). للتفسير كل مشاهد الفيلم تعتمد على لقطات عامة وعامة متوسطة وكاميرا ثابتة وتقع في داخل منازل أو في حدائقها. لكن فجأة، وحيال بعض ما يختاره رينيه من مقاطع حوارية يقطع إلى تلك اللقطات القريبة وعلى شاشة بيضاء ليست موجودة في المشهد العام التي هي فيه.
هل هذا الفيلم سينما؟ بعد الإمعان نعم. طبعا ليس السينما التي ندركها في معظم الأحيان الأخرى، لأنها تقوم على مبدأ «تفليم المسرح»، وضمن هذا المنوال يتجاوز فيلم رينيه الحدود الفاصلة بين لغتي المسرح والسينما ويمنح العمل المسرحي بعدا آخر (وأفضل!) في أسلوب سرد صحيح ومحدد وغير مفتعل.

* بوليسي ملغوم
«نظام الاختفاء» The Order of Disappearance يعيدنا إلى جو الأفلام البوليسية، لكنه إذ يفعل ذلك لا يفوت مخرجه هانز بيتر مولاند في هذا الإنتاج النرويجي الحدث والتمويل معالجة الموضوع الماثل بين يديه بروح كوميدية ساخرة.
بطله هو نيلز ديكمان (ستيلان سكارغارد في رابع تعاون له مع المخرج) المتزوج الذي يعمل على آلة ضخمة من تلك المستخدمة في إزالة الثلج الذي يغمر الطرقات الجبلية حيث يعيش. لديه ولد شاب يعمل في المطار. وفي أحد الأيام تخطفه عصابة تتاجر بالكوكايين وتقتله بعدما حقنته بالهيروين لكي يبدو الأمر أن جرعة زائدة هي التي أودت به. نيلز لا يصدق. ولده لا يمكن له أن يكون مدمنا. يتسلح بالعزيمة عندما يأوي إليه زميل لابنه هارب من العصابة ذاتها ويكشف له اسم أحد أفرادها. نيلز يتعقب ذلك الفرد ويقتله بعدما يحصل منه على معلومات ستساعده في تعقب الآخرين.
العصابة ذاتها تأتمر بأمر رئيس شرس كان اقتسم المدينة وتجارة المخدرات فيها مع عصابة صربية لكنه الآن بات يعتقد أن تلك العصابة هي التي تقتل رجاله، فيختطف ابن رئيسها ويقتله. وهذه تلتئم وتقرر مبادلة القتل بالقتل. نيلز، الذي يخسر شقيقه خلال عملياته، يسبق العصابة الصربية بخطف ابن رئيس العصابة النرويجية ويحميه خلال الموقعة الأخيرة التي تصفي فيها كل عصابة الأخرى ويعمد هو إلى قتل رئيس تلك التي قتلت ابنه.
الكوميديا موجودة في طيات بعض المواقف التي تبدد بعض العنف الملحوظ، ما يمنح الفيلم حسا كاريكاتيريا. كما من خلال الحوار. رئيس العصابة البيضاء (ممثل جيد باسم سفير هاغن) يخلط بين الصرب والألبان فيوالي تسمية العصابة الأخرى بالعصابة الألبانية، وعندما يقول: «هؤلاء المحمديون الملعونون» يصحح له أحد رجاله (للمرة الثالثة) معلوماته فيقتله الرئيس ثم يأمر بقطع رأسه وإرساله هدية إلى رئيس العصابة الأخرى (الألماني برونو غانز) مع أحد أعوانه الرئيسيين، لكن رئيس العصابة الصربية يقتل المعاون ما يزيد من حدة الصراع بينهما.
كل ذلك ممارس بأسلوب فني جيد. الفيلم ليس من إخراج مارتن سكورسيزي أو كوينتين تارانتينو، لكنه يماثل أعمالهما التي تدور في رحى العصابات، قوة على خلق تأثير إنساني وكوميدي في الوقت الواحد.
شخصيا، كنت أفضل لو أن الكوميديا ذهبت في طريق مختلف أو أمَّت ميدان كرة قدم، لكن المخرج ينجح فيما قرر فعله وإلى حد مقبول. جزء من النظرة الساخرة التي يرسمها المخرج على عالمه ذاك (الساحر في تصوير ثلوجه في مواقع بعيدة على عكس ثلوج «فحم أسود.. ثلج رقيق» التي لا تعني في نهاية المطاف سوى أجواء مقصودة لذاتها) هو قيام المخرج بوضع اسم القتلى إثر كل موت يقع على الشاشة على لوحة سوداء تحت رسم صليب. في نهاية المطاف لديك نحو ثلاثين ميتا بينهم خمسة عشر في موقعة واحدة يضمهم المخرج في تأبين مشترك: لوحة سوداء تتوزع عليها أسماء الشخصيات وتحتها أسماء ممثليها. نيلز ديكمان ليس من بينهم.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».