لماذا يتحدث المثقف العربي دائماً عن الفلسفة؟

على هامش «ملتقى بيت الزبير الفلسفي»

لماذا يتحدث المثقف العربي دائماً عن الفلسفة؟
TT

لماذا يتحدث المثقف العربي دائماً عن الفلسفة؟

لماذا يتحدث المثقف العربي دائماً عن الفلسفة؟

كثرت في الآونة الأخيرة الندوات والمؤتمرات حول الفلسفة في عالمنا العربي. من بينها الندوة الكبيرة التي أقامتها مؤسسة «بيت الزبير» في العاصمة العمانية مسقط، تحت عنوان: «ملتقى بيت الزبير الفلسفي». وهي التي أسهم فيها عدد لا يستهان به من المثقفين العرب.
والآن دعونا نطرح هذا السؤال: لماذا يتحدث المثقف العربي عن الفلسفة؟ لماذا يستنجد بها؟ أكاد أقول: لماذا يستغيث؟ المثقف الفرنسي أو الألماني أو الإنجليزي ليس بحاجة إلى ذلك، لسبب بسيط هو أنه متخم بالفلسفة والفلاسفة منذ عدة قرون. ثقافته مليئة بالمناقشات الفلسفية الحرة على مدار الساعة عن المجتمع والسياسة والدين وكل شيء. وأما المثقف العربي فمتخم بشيء آخر لاعلاقة له بالفلسفة أو حتى مضاد للفلسفة. لنتفق على الأمور هنا: نحن لا ينقصنا الإيمان والحمد لله، ولكن تنقصنا العقلانية العلمية أو الفلسفية. ومعلوم أن الحضارات لا تقوم إلا على دعامتين اثنتين: العلم والإيمان، أو الدين والفلسفة. ومنذ أن أهملنا الفلسفة انهارت حضارتنا ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة. الإمام الغزالي كفر الفلاسفة في كتابه المعروف «تهافت الفلاسفة» الصادر نحو عام 1093.
وكذلك فعل ابن خلدون من بعده في مقدمته الشهيرة التي تحتوي على فصل بعنوان: «في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها». وفيه يقول بالحرف الواحد: «وضررها في الدين كثير، فوجب أن يُصدع الحق بشأنها ويُكشف عن المعتقد الحق فيها». على الرغم من عبقرية ابن خلدون في دراسة شؤون العمران وعلم الاجتماع والدراسة الدقيقة لكيفية نشوء الحضارات وصعودها ثم أفولها، فإنه أسهم على أثر الغزالي في الحط من شأن الفلسفة بل وتحريمها، إن لم نقل تجريمها وتكفيرها. إنه لشيء عجيب غريب: من جهة تجده مفكراً عقلانياً كبيراً فيما يخص تحليل الشؤون السياسية والدنيوية. ولكن عندما يصل الأمر إلى الشؤون الاعتقادية، فإن عقله يتوقف كلياً عن الاشتغال ويصبح أصولياً متشدداً! ولكن لا ينبغي أن نطالبه بما لا حيلة له به أو بما يتجاوز سقف عصره. ينبغي أن ننتظر عدة قرون أخرى، أي حتى وقتنا الراهن، لكي يظهر مفكر عملاق آخر ويتجرأ على ما لم يخطر على بال سلفه الكبير: عنيت هنا محمد أركون وكتابه الذي نقلناه إلى اللغة العربية تحت عنوان «تحرير الوعي الإسلامي: نحو الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة». (منشورات دار الطليعة. بيروت. 2011).
لنعد إلى الإمام الغزالي الذي كان عالماً ضخماً ومطلعاً كبيراً على الفلسفة. ولكنه أخطأ عندما عطل قانون السببية، لأن من يعطل قانون السببية يلغي العقلانية بكل بساطة. وربما لهذا السبب أصبحنا كسالى مستسلمين للمقدور والمكتوب وزاهدين بالحرية الشخصية والإرادة البشرية. كله مكتوب عليك أيها الإنسان ومقدر سلفاً بشكل محتوم، فلماذا تتعب نفسك إذن وتشغل عقلك وتحاول تغيير الأمور نحو الأفضل؟ ولكن تراث الإسلام العظيم يقول لنا: «اعقلها وتوكل» وليس فقط توكل. إنه يدعونا إلى تشغيل عقولنا التي زودنا بها الله. لهذا السبب نقول إن الغزالي وجه ضربة موجعة إلى الفكر العقلاني في الساحة الإسلامية. على العكس من ذلك كان ابن سينا نجماً مشرقاً في تاريخنا وكذلك الفارابي والمعري وبقية الكواكب والنجوم. كانوا يشغلون عقولهم تماماً حتى فيما يخص الشؤون الدينية. وما كانوا يفهمون الدين بشكل غيبي استلابي أو انغلاقي متعصب (بين قوسين: أحيل هنا إلى الكتاب الرائع للدكتور عمر مرزوق الصادر في باريس عام 2021 بعنوان: ابن سينا أو إسلام الأنوار). يقول المعري أحد قادة التنوير الفكري في تاريخنا:
إن الشرائع ألقت بيننا إحناً
وعلمتنا أفانين العداوات
المقصود بالشرائع هنا الطوائف والمذاهب. هل يتحدث عن عصره أم عن عصرنا؟
ويقول أيضاً:
كذب الظن لا إمام سوى العقل
مشيراً في صبحه والمساء
ويقول أيضاً:
فشاور العقل واترك غيره هدراً
فالعقل خير مشير ضمه النادي
هذه جواهر ما كان ينبغي أن ننساها. بالمعري نستطيع أن نفاخر الأمم، كل الأمم، لأنه لم يكفر أحداً بشكل مسبق ولم يحرم أحداً من نعمة الله. وقل الأمر ذاته عن ابن عربي وبقية عظمائنا وعباقرتنا. يقول نزار قباني مخاطباً طه حسين:
ارمِ نظارتيك ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان
نحن نمتلك واحداً من أعظم التراثات الدينية للبشرية: إنه التراث العربي الإسلامي. ولكن هل درسناه بطريقة فلسفية عقلانية مضيئة كما فعلت أمم الغرب المتقدمة مع تراثها المسيحي؟ هل نخلناه وغربلناه كما فعل أركون مثلاً في السوربون أو فضل الرحمن في جامعة شيكاغو؟ هذا هو السؤال. هناك إذن طريقة فلسفية لفهم الدين وطريقة تقليدية خرافية عفى عليها الزمن. معظم مفكري أوروبا كانوا مهتمين بدراسة الدين من وجهة نظر عقلانية، فلسفية، تنويرية. وهذا ما أدى إلى تقليص التيار الطائفي الأصولي عندهم، بل والقضاء عليه قضاء مبرماً. وعندئذ حُلت المشكلة الطائفية عندهم من جذورها. لنضرب على ذلك مثلاً كبير فلاسفة الأنوار في أوروبا: إيمانويل كانط. لقد أنقذ ألمانيا وقضى على التعصب المذهبي الكاثوليكي - البروتستانتي الذي كان قد مزقها ودمرها. كيف أنقذ كانط ألمانيا؟ عن طريق تأليف كتاب كبير بعنوان «الدين ضمن حدود العقل فقط». بمعنى: الدين مفهوماً من وجهة نظر فلسفية وعقلانية متسامحة وليس من وجهة نظر طائفية على طريقة الأصوليين التكفيريين والإخوان المسيحيين.. إلخ. نستنتج من ذلك أن مشكلة الفلاسفة التنويريين لم تكن الدين في المطلق وإنما الفهم الظلامي المتعصب للدين. ونحن أيضاً مشكلتنا ليست الدين وإنما الفهم الخاطئ والمتطرف للدين. على أي حال، لهذا السبب راح فلاسفة أوروبا يفككون الانغلاقات اللاهوتية المسيحية وينقذون بلدانهم من براثن التعصب. من قال إن الفلسفة لا تفيد شيئاً؟ من قال إن كلام المثقفين ثرثرات فارغة لا تقدم ولا تؤخر؟ كتاب واحد قد يضيء لك الدنيا ولكن ليس أي كتاب! كتاب فلسفي واحد قد يشق دياجير الظلمات. وهذا ما ينقصنا بشكل موجع في العالم العربي حالياً. لقد أرعبت الحروب الطائفية أوروبا إلى درجة أن مثقفيها ما كان شغلهم الشاغل على مدار ثلاثة قرون متواصلة إلا تفكيك الفتاوى اللاهوتية التكفيرية التي أشعلت الحرائق. الآن ما عادت المسألة تعنيهم لأنها بكل بساطة أصبحت محلولة في ذمة التاريخ. لم تعد هناك مشكلة طائفية بين الكاثوليكي والبروتستانتي في ألمانيا أو فرنسا أو عموم أوروبا المتنورة والمتحضرة. الوحدة الوطنية راسخة متراصة لا تستطيع أي أصولية أن تهدها أو تهددها. بل إن الأصولية أصبحت هي الخائفة عندهم وليس العكس!
لماذا شعر الألمان بالارتياح وتنفسوا الصعداء عندما ظهر كانط أو هيغل؟ وقل الأمر ذاته عن الفرنسيين عندما ظهر ديكارت أو روسو أو فولتير. لأن الفلاسفة هم أبطال الفكر والوجود. لأنهم هم وحدهم القادرون على فتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود. لأنهم هم وحدهم القادرون على تفكيك الفكر الطائفي القديم وتدشين الفكر الأنواري الجديد الذي تتسع أحضانه للجميع أياً تكن أعراقهم أو طوائفهم أو مذاهبهم. القادة السياسيون يظهرون بعد الفلاسفة لا قبلهم. الإصلاح الديني يسبق الإصلاح السياسي ويمهد له الطريق. الثورة التنويرية تسبق الثورة السياسية. مونتسكيو وفولتير وجان جاك روسو ظهروا قبل الثورة الفرنسية لا بعدها. لماذا فشل الربيع العربي؟
أخيراً نقول ما يلي: لأن فلاسفة الأنوار استطاعوا بلورة تفسير جديد للدين المسيحي فإنهم نفخوا الروح في الأمة الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية. بسمارك، موحد ألمانيا، ظهر بعد كانط وهيغل مباشرة وليس قبلهما (1815 - 1898). الآن أصبحت الأمة الألمانية موحدة كلياً بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي. ولا يمكن أن تعود مرة أخرى إلى عصر الطوائف والمذاهب المتناحرة لسبب بسيط: هو أن التفسير الأنواري الجديد للدين انتصر كلياً على التفسير الظلامي القديم. لكنه لم يستطع الانتصار عليه إلا بعد معارك طاحنة وجهد جهيد. وهذا ما كنا قد دعوناه مراراً وتكراراً: بالمعركة الحاسمة للذات ضد الذات!



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.