ما زال شكل العلاقة بين منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية محوراً للجدل والمناقشات بين خبراء الإعلام، والقائمين على إدارة وسائل الإعلام التقليدية -المقروءة والمسموعة والمرئية- والمنصات الرقمية. وبينما يعتبر بعض خبراء الإعلام أن مواقع التواصل منافس قوي يعمل أحياناً ضد الصحافيين والمؤسسات الإعلامية، يرى آخرون أن العلاقة بينهما علاقة «تكاملية»، شريطة أن تحسن وسائل الإعلام استخدام هذه المنصات، وأن تتقن أدوات الإعلام الجديد.
تجدد الجدل والتساؤل حول شكل العلاقة بين منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية، في أعقاب تصريحات نجا نيلسن، مديرة القسم الرقمي في «بي بي سي»، خلال حلقة نقاشية على هامش مؤتمر المحرّرين في العاصمة البريطانية لندن، اتهمت فيها منصات التواصل الاجتماعي «بالعمل ضد الصحافيين». وقالت نيلسن إن «المؤسسات الإعلامية لم تعد تتنافس الآن بعضها مع بعض؛ حيث تقضي معظم وقتها بين محاولة زيادة الوقت الذي يقضيه الجمهور في متابعة الصحافة، أو تقليصه». وتابعت: «لا يمكن الاعتماد على منصات التواصل وحدها، فلا أعتقد أنها تعمل كموزع لما تنشره وسائل الإعلام؛ حيث تخدم خوارزميات (تيك توك) مثلاً بعض الجماهير، وليس جميعهم، فليس من بين أهداف منصات التواصل الاجتماعي إخبار الجميع».
لكن نيلسن أشارت إلى «وجود مساحة صغيرة من الاهتمامات المشتركة، تعطي فرصة لوسائل الإعلام التقليدية للعمل مع المنصات الرقمية، وإن كانت في الغالب تعمل ضد الإعلام والصحافة –على حد قولها-، فبسبب الخوارزميات يطالع 4 في المائة فقط من مستخدمي (فيسبوك) الأخبار بنشاط».
تزامناً مع تصريحات نيلسن، حللت دراسة أصدرتها منظمة «اليونيسكو» في مارس (آذار) الماضي تطورات «الترند» في الإعلام من 2016 وحتى 2022، بعنوان «الترندات العالمية في حرية التعبير وتطورات الإعلام». ووفق الدراسة فإن «مؤسسات الإعلام تُكافح الآن لدفع مزيد من القراء للضغط على روابط المواضيع التي تنشرها؛ حيث يُعد ذلك أحد محددات عائدات الإعلانات، ويجدون أنفسهم تحت ضغط انتشار الأصوات الجديدة على الفضاء الإلكتروني والخوارزميات والوسائط الإلكترونية».
الدكتور أسامة المدني، أستاذ الإعلام البديل في جامعة «أم القرى» السعودية، ومستشار الإعلام الرقمي وتطوير الأعمال، يرى أن «منصات التواصل الاجتماعي تعتبر حديث الساعة الآن». ويضيف المدني في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أنه «لا يمكن إنكار تراجع الإعلام التقليدي بقوة لصالح هذه المنصات التي أصبحت المصدر الرئيسي للخبر؛ خصوصاً بين فئة الشباب، وهي النسبة الأكبر في المجتمعات العربية». إلا أن المدني يختلف مع مديرة القسم الرقمي في «بي بي سي»، مؤكداً أن «التكنولوجيا أمر واقع يجب تقبله والتطور معه. وفي ظل بيئة إعلامية شديدة المنافسة ومتعددة المصادر، ما زال الباب مفتوحاً على مصراعيه للاستفادة من منصات التواصل الاجتماعي، وتسخيرها لصالح المؤسسات الصحافية». وبحسب المدني فهناك شروط لذلك، من بينها «الانفتاح والوجود الصحيح والفعال على هذه المنصات، وتعلم أدوات ولغة كل منصة، فكل منصة لها قواعدها التي تختلف عن الأخرى، وهو ما يتطلب تنويع أشكال المحتوى ليناسب المنصات المختلفة».
أما الدكتورة نهى عاطف، الباحثة الإعلامية في جامعة «سايمون فريزر» الكندية، فتتفق جزئياً مع نيلسن؛ إذ تقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «البعض قد ينزعج عند سماع أو قراءة تصريحات نيلسن، ويعتقد أنها تسيء إلى الإعلام الاجتماعي الذي يرنو له المستخدم باعتباره (خدمة مجانية)، وهو في الحقيقة غير ذلك، فمنصات التواصل الاجتماعي شركات تأخذ من المستخدمين نظير ما تعطيهم، وتخطط للاستفادة القصوى منهم؛ لكنها استفادة غير مادية... إذ إن منصات التواصل الاجتماعي تبيع وقت المستخدمين وتفضيلاتهم وبياناتهم».
غير أن عاطف تؤكد أن «العلاقة بين الإعلام التقليدي ومنصات التواصل الاجتماعي ليست علاقة منافسة كما وصفتها نيلسن؛ حيث تشكل مواقع التواصل تحدياً للصحافة الموروثة، والصحافة مضطرة للتجاوب معه... وهو ما يظهر في استحداث مسميات ومهام وظيفية جديدة، منها -مثلاً- وظيفة نيلسن نفسها في (بي بي سي) التي تتضمن الإشراف على حسابات التواصل الاجتماعي لهذه الهيئة، وهو ما يدفع أحياناً إلى حالة من الارتباك، نتيجة سوء فهم كيفية استخدام هذه الحسابات، كما حدث مع حساب (بي بي سي) على (تيك توك)».
هذا، وكانت «بي بي سي» قد أطلقت في مارس الماضي حساباً على «تيك توك» يضم حالياً نحو 35 ألف متابع. وقالت نيلسن إن «استخدام منصة (تيك توك) يجب أن يكون على طريقتنا الخاصة، ولا أعتقد أننا توصلنا إلى الطريقة الصحيحة لاستخدامها». ولمجابهة التحديات التي تواجهها وسائل الإعلام التقليدية، أكدت نيلسن «ضرورة تطوير وسائل الإعلام لمنصاتها الخاصة»، داعمة «فرض تشريعات تنظم عمل منصات التواصل الاجتماعي». وهنا تشير عاطف إلى أن «أولويات التغطية الإعلامية أصبحت مبنية على اختيارات المستخدمين كلياً في مواقع التواصل الاجتماعي، والخوارزميات معدة للاستجابة لهذه الأفضليات. وهو ما يعني أن المستخدم الذي لا يبحث أو يشاهد محتوى عن الأزمة الروسية الأوكرانية على سبيل المثال، لن تأتي له خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي بأخبار عنها، ولن يعرف عنها شيئاً، وهو ما يجعل كل شخص في فقاعته الإخبارية».
من جهة ثانية، ذكرت دراسة «اليونيسكو» أن «الفضاء الإلكتروني أطلق فيضاناً من المنافسة في المحتوى، وحوّل شركات التكنولوجيا الكبرى إلى حراس جدد للبوابة؛ حيث تضاعف عدد مستخدمي (السوشيال ميديا) من 2.3 مليار في 2016 إلى 4.2 مليار في 2021، وهو ما زاد من مساحة الوصول للمحتوى؛ لكنه لم يكن بالضرورة إضافة لقيمة المحتوى الصحافي». كذلك، أشارت الدراسة إلى أن «غوغل» و«ميتا» («فيسبوك» سابقاً) يحصلان وحدهما على نصف الإنفاق الإعلاني في العالم. عودة إلى عاطف التي تقول إن «تطوير منصات جديدة لخدمة الإعلام التقليدي أمر غير واقعي، وليس في صالح المستخدم... ولو حدث، فسيكون مقصوراً على المؤسسات العملاقة القادرة على تحمل هذه التكلفة، على حساب المؤسسات الصحافية الأصغر. وبالتالي، سيكون معظم المحتوى المتداول مصدره عدد محدد من المنافذ الإعلامية». وتضيف أن «الإعلام التقليدي في تحدٍّ ضاغط، لا بد أن يدفعه إلى التطوير والابتكار بشكل متسارع». ومن جانبه يؤكد المدني أن «المؤسسات الصحافية تتنافس وبشكل ملحوظ في استخدام التقنيات التحويلية المتطورة من خلال الذكاء الاصطناعي، و(الروبوت) و(الدرونز)، وبقية تقنيات الثورة الصناعية الرابعة في تغطياتها، والوجود الجيد على منصات التواصل الاجتماعي».
ويشير إلى أن «المعلومة قديماً كانت حصراً على المؤسسات الصحافية، أما الآن أصبحت المعلومة ملكاً للجمهور... وانتقل الجمهور من متلقٍّ للمعلومة إلى مُنتج لها، وهذا مُنحنى آخر يسمى (الصحافي المواطن) الذي يتسم بسرعة الوصول وإيصال المعلومة وتوثيقها بكل سهولة ويسر، من خلال توفر جهاز محمول به كاميرا، ومتصل بشبكة الإنترنت».
الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية... إشكاليات تُثير تساؤلات
الإعلام التقليدي والمنصات الرقمية... إشكاليات تُثير تساؤلات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة