قنبلة الأقليات في إيران.. ومهاباد الشرارة

اتسعت رقعة الاحتجاجات لتصل إلى الأحواز جنوبًا بعد كردستان غربًا

قنبلة الأقليات في إيران.. ومهاباد الشرارة
TT

قنبلة الأقليات في إيران.. ومهاباد الشرارة

قنبلة الأقليات في إيران.. ومهاباد الشرارة

على نحو متزامن وبعد طول انقطاع، عاودت الاضطرابات الإثنية في إيران الاشتعال على أكثر من جبهة، إذ اتسعت رقعة الاحتجاجات لتصل إلى إقليم الأحواز (عربستان) جنوبا، بعدما تفجرت في إقليمي كردستان غربا وبلوشستان شرقا، ثم مؤخرا في مدينة مهاباد، ذات الأغلبية الكردية بولاية أذربيجان الغربية، بسبب انتحار فتاة كردية جراء تعمد السلطات الإيرانية الإساءة إلى الأكراد وسلبهم كرامتهم وحرياتهم وحقوقهم القومية والثقافية والإنسانية، الأمر الذي أسفر عن اعتقال أكثر من 300 كردي في مدينة مهاباد، بينهم العشرات من النساء، وأكثر من مائة آخرين في مدينة سردشت، بينهم ثلاث نساء.
في كل مرة تهتز جنبات إيران على وقع احتجاجات بعض الأقليات هناك، تطفو على السطح مجددا خطورة الملف الإثني في إيران، خصوصا ما يتعلق بحقوق الطوائف الدينية في الجمهورية الإسلامية الشيعية. وفيما اعتاد النظام الإيراني على اعتبار أحداث العنف الطائفي مؤامرات خارجية من تدبير أجهزة استخبارات غربية وإسرائيلية وإقليمية، توخيا منها للي ذراعه وتكثيف الضغوط عليه عبر النيل من أمن بلاده واستقرارها وكسر إرادتها، تظل استراتيجية نظام ولاية الفقيه في التعاطي مع التركيبة الإثنية في بلاده لغما ينذر بتوتير العلاقة بين الدولة الإيرانية ومواطنيها خصوصا الأقليات الإثنية من جانب، كما يشكل نقطة ضعف محورية يستغلها خصومه في الخارج ضده من جانب آخر.

ساعدت تطورات شتى على إعادة أزمة الملف الإثني في البلاد إلى الواجهة خلال السنوات القليلة الماضية، من بينها تفاقم المشاكل الاقتصادية والسياسية، ومحاولات الاتجاه بنظام ولاية الفقيه نحو مزيد من التسلط واحتكار السلطة عبر ما عرف بـ«النجادية»، نسبة إلى الرئيس محمود أحمدي نجاد الأمر الذي أدى إلى احتدام حرب تكسير العظام بين الخصوم والأجنحة السياسية المتنافسة داخل النظام الإيراني بشكل ملحوظ خلال الولاية الثانية لنجاد، على نحو تجلت ملامحه في إقالة وزير الخارجية منوشهر متقي وتعيين أكبر صالحي بدلا منه. وتتنوع الأقليات في بلد لا يتعدى تمثيل الفرس فيه نسبة 40 في المائة تقريبا من جملة السكان.

فسيفساء إثني

تطوي إيران موزاييك مكونا من عدة قوميات أهمها الفرس والترك والكرد والعرب والتركمان واللور والجيلان. ويتهم نشطاء هذه القوميات السلطات المركزية بممارسة سياسة التفريس حيالها منذ ثمانية عقود بهدف صهر هويتها في أخرى فارسية. لذا، نشطت تلك الأقليات في تحري الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على هويتها بالتوازي مع مطالبة السلطات الإيرانية بتطبيق المواد المعطلة من الدستور الحالي التي تؤكد المساواة بين القوميات والسماح لأبنائها بتعليم لغاتها القومية، وصولا إلى مطالبة بعضها بالانفصال.
وبينما تؤكد الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنها لا تفرق بين مواطنيها على أساس القومية أو اللغة أو اللون أو المذهب، مبررة تعطيل بعض مواد الدستور الخاصة بضمان حريات وحقوق تلك الأقليات، بقسوة اعتبارات الأمن القومي وظروف عدم الاستقرار الإقليمي التي لا تسمح بذلك في الوقت الحاضر، ترتئي تلك الأقليات أن ثمة خللا ما يكتنف أسلوب تعاطي النظام الإيراني مع قضيتي المواطنة والتنمية إزاء المناطق التي تعيش فيها أفرادها. فبخصوص المواطنة، لا يتورع النظام الإيراني عن ممارسة التمييز ضد مواطني الأقليات في صور شتى ما بين استبعادهم من تولي المناصب الرفيعة في الدولة، وهو تمييز محمي من قبل الدستور الإيراني الذي يحتوي على مواد عنصرية. فرغم أن المادة 19 من الفصل الثالث منه تنص على عدم التمييز بين الإيرانيين على أساس عرقي، فإن المادة 12 تتجاهل حق التنوع الإثني والحرية الدينية إذ تنص على أن المذهب الجعفري الإثني عشري هو المذهب الرسمي للدولة، كما تلزم المادة 121 رئيس البلاد بحماية هذا المذهب بكافة الوسائل، واشترط الدستور أيضا على من يتولى رئاسة الدولة أن يكون من أصل إيراني ويحمل الجنسية الإيرانية، ويكون مؤمنا ومعتقدا بمبادئ جمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد، وهو ما يصادر على حق المسلمين السنة من أكراد وتركمان وعرب وغيرهم في هذا المضمار.
كذلك، تعاني الأقليات في إيران من وطأة القيود التي تعوقها عن مباشرة حقوقها الثقافية رغم أن الدستور الإيراني ينص في البندين 15 و19 على حق الأقليات في استعمال لغاتهم في المجالات التعليمية والثقافية، حيث تمنع السلطات بناء أي مسجد للسنة بالعاصمة طهران رغم وجود كنائس ومعابد يهودية وحتى أماكن عبادة لأتباع الديانات الوثنية كالزرادشتية. وفيما يتعلق بالتنمية، تشكو تلك الأقليات من تهميش نظام طهران لها وتقصيره في تنمية الأقاليم التي تعيش بها، كما تعامله بعنف واستعلاء مع سكانها، لا سيما بعد أن أوكلت السلطات أمن المنطقة الحدودية إلى قوات الحرس الثوري بزعم التصدي لتهريب وتجارة المخدرات في ظل الوجود الأميركي العسكري بالمنطقة.
ولا تقتصر الاتهامات للنظام الإيراني بممارسة التمييز الممنهج ضد الأقليات الإثنية في بلاده على ممثلي تلك الأقليات فحسب، وإنما اتسعت لتشمل جهات دولية وإقليمية. فمن جانبها، أدانت منظمة هيومن رايتس ووتش ما سمته اضطهاد الأقليات في إيران، وجاء في تقرير لها أنه «لا يزال أبناء الأقليات العرقية والدينية في إيران عرضة للتمييز، بل وللاضطهاد». وأشارت إلى «معاناة البلوش من عدم تمثيلهم في الحكومة المحلية». وفي سياق مواز، ورغم قيامها مؤخرا بإدراج تنظيم «جند الله» على «قائمة الإرهاب الأميركية» بعد أن أعلنت أنه استوفى، من وجهة نظرها، المواصفات الأميركية في هذا الصدد، ألقت واشنطن باللائمة، في أعمال العنف الطائفي التي تجتاح إيران، على ممارسات طهران التمييزية ضد السنة هناك. فرغم إدانتها لحوادث التفجير التي يقوم بها التنظيم داخل إيران، بما فيها ذلك الأخير، أوردت تسريبات «ويكيليكس» الأخيرة بشأن إيران عبر برقية صادرة من السفارة الأميركية بالعاصمة الأذرية باكو وموجهة إلى واشنطن بتاريخ 12 يونيو (حزيران) 2009 تحميل واشنطن تصرفات الرئيس الإيراني نجاد المعادية للسنة، مسؤولية الاضطرابات والتدهور الأمني في إقليم بلوشستان - سيستان. وأوردت البرقية أن مصادر عسكرية أذرية بينت قلق بلادها من تصاعد العنف بين الأقليات الإيرانية والحكومة، وأن أذربيجان التي تشارك إيران حدودا طولها أكثر من 430 كيلومترا لا تريد جارا مضطربا داخليا.
وأكدت المصادر أيضا أن الرئيس أحمدي نجاد يرتكب ممارسات معادية ومستفزة للسنة في إيران مثل التعرض لمشايخهم ومضايقتهم في صلاتهم والإغارة على مساجدهم. كما أمر أحمدي نجاد بعدة حملات استعراضية للتنكيل بالسنة خلال السنين الماضية. وقالت المصادر - وفق البرقية - إن ما يثير قلق بلادهم أن تلك الممارسات، وإلى جانبها نسبة البطالة المرتفعة والشعور بالتمييز وقلة الخدمات الحكومية، قد ساهمت جميعها في تكوين غضب كامن في نفوس البلوش الإيرانيين، حتى صاروا ينعتون الحكومة المركزية بطهران بـ«العدو»، وإن أحمدي نجاد تعمد إثارة البلوش السنة، عندما عين حليفه وأقرب أعوانه حبيب الله ديهموردا، الذي وصفته المصادر بالغبي والدموي واتهمته بكراهية السنة، حاكما على بلوشستان.
يعقوب التستري مسؤول المكتب الإعلامي لحركة النضال العربي لتحرير الأحواز، التي تأسست عام 1999، يقول لـ«الشرق الأوسط» إن الحركة تناضل من أجل تحرير الأحواز أرضا وشعبا بكل السبل المشروعة. يضيف: «شهدت الأحواز منذ مارس (آذار) الماضي مظاهرات واحتجاجات متواصلة ضد السياسات (الإجرامية للاحتلال الفارسي) على رأسها سياسة الاستيطان والاعتقالات والإعدامات العشوائية بحق أبناء شعبنا العزل. ويقول إن المظاهرات توسعت لتشمل عدة مدن أحوازية كمدينة الأحواز العاصمة والمحمرة والسوس. وبعد عدة أسابيع انضم الشعب الكردي لانتفاضة شعبنا بعد أن تظاهر الآلاف من أبناء شرق كردستان في مدينة مهاباد دفاعا عن كرامة وشرف الفتاة الكردية فريناز خسروي، ردا على القمع الوحشي للمظاهرات السلمية لشعبنا».
وقال إن النظام الإيراني لا يثق بالأقليات القومية أو الطائفية، وهناك علويون في إيران وأيضا لا يثق بهم. مؤخرا تم فتح مراكز دينية لهم ويتم التعامل معهم مجاملة للنظام السوري ومحاولة لاستمالتهم ويطلق عليهم هناك طائفة تسمى الـ«يارسان» قريبة منهم، قريبون جدا من العلويين ويتعرض هؤلاء لاضطهاد شديد من قبل الملالي.
وتتضارب المعلومات إزاء حجم السنة في إيران، فوفقا للإحصاءات الرسمية فهم يشكلون 10 في المائة من السكان، لكن مصادر سنية تقول إنهم يشكلون ثلث حجم السكان البالغ 74 مليون نسمة، في حين تقول مصادر مستقلة إنهم يشكلون ما بين 15 و20 في المائة من السكان وهم مقسمون إلى العرقيات الرئيسية الثلاث الأكراد والبلوش والتركمان، إضافة إلى العرب بإقليم خوزستان الذي كان يسمى عربستان قبل أن تضمه إيران إليها عام 1925. ويسكن هؤلاء قرب حدود إيران مع باكستان وأفغانستان، والعراق وتركمانستان.
وبينما يعاني البلوش والزرادشتيون التهميش والتمييز ضدهم، يعاني الأذريون الأتراك في إيران من بعض التمييز والغبن ففي مباراة لكرة القدم بثها التلفزيون الإيراني قبل أشهر، تضمنت هتافات مناهضة لهم بمدينة «تبريز» عاصمة إقليم أذربيجان الشرقي ذات الأغلبية التركية في شمال غربي إيران، حيث أطلق المشجعون شعارات تنعت الأتراك بالغباء. واندلعت الاحتجاجات بعدما أطلق مشجعو فريق بيروزي الإيراني خلال المباراة مع فريق تراكتورسازي التبريزي شعارات مسيئة ضد الأتراك وبثها التلفزيون الرسمي الذي كان ينقل المباراة مباشرة الأمر الذي أثار مشاعر الكثير من المواطنين الترك. وأطلق المتظاهرون الأتراك الغاضبون شعارات قومية أكدوا خلالها تمسكهم بهويتهم التركية واتهموا السلطات الإيرانية بانتهاج سياسات مناهضة لهويتهم واعتقل الأمن الإيراني العشرات من المشاركين في المظاهرات.
ومن خلال الهتافات التي رددها المتظاهرون الأتراك في مدينة تبريز، أكدوا على اسم الخليج العربي إلى جانب تسميتهم لبحر قزوين بالبحر التركي حيث هتفوا «بحر قزوين بحيرة لنا والخليج للعرب» إلى جانب شعارات أخرى من قبيل «ليعلم الجميع أننی ترکي» و«تحيا أذربيجان» و«أذربيجان موطننا والهلال والنجمة علمنا» و«الديمقراطية حقنا نناضل ضد الاستبداد» و«إننا مستعدون للشهادة إننا أحفاد بابك خورمدين».
عمر الخانزاده، السكرتير العام لحزب كادحي كردستان، قال إن ممارسات نظام الملالي الخارجية وأطماعه التمددية والتنكيل والاستمرار في سياسة التنكيل والقمع بحق الأقليات القومية والطائفية جعل صبر الشعب الإيراني ينفذ كسر حاجز الخوف من شبح الباسيج والحرس الثوري. لم يعد شعبنا تحمل مزيدا من ممارسات هذا النظام الطائفي، والاحتجاجات الأخيرة والانتفاضة في شرق كردستان كانت دليلا واضحا على أن إيران داخليا على صفيح ساخن، وجاءت أيضا لتؤكد أن النظام الإيراني رغم يده الطولى في بلدان الجوار الإقليمي فإن أحكام قبضتها الحديدة على الداخل أصبحت مهددة.
ويؤكد أن الانتفاضة التي اندلعت مؤخرا في شرق كردستان ضد نظام الطائفي في إيران سوف تستمر رغم تهديدات الاطلاعات (جهاز الاستخبارات الإيرانية) والباسيج (الحرس الثوري الإيراني) للنشطاء الكرد في كردستان إيران والذين ينظمون الاحتجاجات ويقودون حملات التضامن مع مهاباد التي شهدت موجة غضب تحولت إلى انتفاضة عارمة اتسعت رقعتها لتشمل غالبية المدن في شرق كردستان، على أثرها أعلنت حكومة الملالي قوانين الطوارئ في كثير من المدن الكردية المنتفضة وعلى رأسهم مهاباد.
من جهته قال رئيس حزب الكادحين الثوريين الإيراني عبد الله مهتدي، إن «إيران تلعب دورًا سلبيًا في منطقة الشرق الأوسط، وهي السبب الأساسي في الاضطرابات التي تشهدها كل من اليمن والعراق والبحرين ولبنان والخليج العربي، وهي التي تمنع سقوط نظام الأسد في سوريا، وسيطرة حزب الله في لبنان، ودعم الحوثيين في اليمن، وهي التي دفعت العراق إلى الأزمة من خلال دعمها سياسة رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي، وتعد العامل الرئيسي للاضطرابات في البحرين، والخليج العربي». وأضاف مهتدي أن النظام الإيراني لا يخفي مطامعه في المنطقة من خلال تصريحات كبار القيادات الإيرانية، ومنهم علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي لمح في تصريحات سابقة إلى أنهم «يخططون لتأسيس الإمبراطورية الشيعية وهذه المطامع ستربك المنطقة وستطيل أمد التوترات».

الأكراد..الخطر المحدق

لا يمكن الجزم بعدد كرد إيران في ظل غياب مرجع ذي صدقية كافية بهذا الصدد، خاصة أن تعداد الأقليات يعد سلاحا سياسيا في منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالأقليات والطموحات الانفصالية. وبحسب بعض المصادر غير الكردية، تتفاوت التقديرات لأعداد الكرد ما بين 7 في المائة إلى 9 في المائة من إجمالي سكان إيران، لكن المصادر الكردية تذهب أبعد من ذلك. والأقرب إلى الحقيقة أن الكرد هم العرقية الثالثة في البلاد بعد الفرس والأذريين، ويتركز وجودهم في جبال زاغروس على امتداد الحدود مع تركيا والعراق. وهم موزعون على أربع محافظات هي: أذربيجان الغربية، كردستان، كرمنشاه، إيلام.
ولم تعترف إيران يوما ما بخصوصية العرق الكردي، وللكرد الإيرانيين تجربة تاريخية في إقامة حكم مستقل، ألا وهو دولة «مهاباد» التي لم تدم إلا فترة وجيزة ولكنها كانت كافية لتلهم الشعور الكردي - عامة والإيراني منه خاصة - بالاستقلال. وحينما قامت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.