عودة كاميرون

بعد انتخابه رئيسًا لوزراء بريطانيا.. الزعيم المحافظ يواجه معركتي الحكم بأغلبية بسيطة.. وأوروبا

عودة كاميرون
TT

عودة كاميرون

عودة كاميرون

تعود الأنظار إلى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ليس فقط لأنه أعيد انتخابه رئيسًا لوزراء المملكة المتحدة بعد انتخابات 7 مايو (أيار) الأخيرة بنتائج فاجأت الأحزاب السياسية بقدر ما فاجأت الإعلام، إلا لأنه ينوي خوض معركة داخل الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يحدد مستقبل الاتحاد نفسه

«إنه أحلى انتصار».. بهذه الكلمات وصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون فوزه التاريخي في انتخابات 7 مايو الحالي ليتولى رئاسة الحكومة لولاية ثانية. الفوز يعتبر تاريخيًا ليس لأنه جاء كاسحًا، بل لأن من النادر جدا أن يستطيع رئيس وزراء بريطاني زيادة عدد مقاعد حزبه في البرلمان بعد ولاية أولى في الحكومة. وهذه الزيادة، جعلت كاميرون يقود حكومة أغلبية بعد أن قاد ائتلافا حكوميا بين عامي 2010 و2015. وفعلها كاميرون بعدما عجز غيره، ما عدا قدوته السياسية رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر. وبينما يشبه كثيرون كاميرون بثاتشر من حيت الاتجاه الذي يتخذه حزب المحافظين الحاكم، فإن البعض يشبه وضعه الحالي بكونه أقرب إلى جون ميجور، رئيس الوزراء الذي خلف ثاتشر.
ويشرح البروفسور ريتشارد ويتمان، وهو بروفسور علوم سياسية في جامعة «كينت» أن «وضع كاميرون أقرب إلى ميجور من ثاتشر.. فلديه أغلبية 330 مقعدًا فقط، مما يعني أن بإمكان عدد قليل من النواب أن يزعجوا حكومته مثلما حدث مع ميجور».
ويحتاج رئيس الحزب الحاكم إلى 326 مقعدًا على الأقل في مجلس العموم لتشكيل الحكومة، مما يعني أن كاميرون بات مطالبًا اليوم بإرضاء جميع النواب. ويذكر أن حكومة ميجور عام 1992 كان لديها أغلبية ضئيلة في البرلمان مما جعل ميجور حينها ضعيفا أمام حزبه ورهينة للنواب المستقلين، إذ كانت له أغلبية 10 مقاعد برلمانية فقط. ولكاميرون اليوم أغلبية 4 مقاعد فقط.
من رأى فوز كاميرون ونتائج الانتخابات تعلن ليل 7 - 8 مايو قد لا يصدق أنه نفس الرجل الذي خسر مقعد حزبه عام 1997 عندما ترشح للمرة الأولى للبرلمان واكتسح حزب «العمال» حينها مجلس العموم. وقصته السياسية، المرتبطة بحياته الشخصية وخلفيته العائلة، تعكس عودة حزب «المحافظين» للواجهة بعد سنوات من الاضطرابات الداخلية بعد إخراج ثاتشر من الحكم. ويشرح الباحث في معهد «ديموس» الفكري في بريطانيا لوي رينولدز لـ«الشرق الأوسط»: «كاميرون السياسي المحنك استطاع أن يخطف فوزا للمحافظين، لكنه يواجه صراعات داخل حزب المحافظين حول مستقبل البلاد وحول مستقبل أوروبا». ولكن رينولدز لفت إلى أن قدرة كاميرون على بناء التحالفات داخل الحزب، معتمدًا على صداقات قديمة والموازنة بين المعتدلين والمتشددين في قضايا جوهرية مثل مصير المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، تجعله قادرًا على خوض هذه المرحلة.
يعكس كاميرون التنوع داخل حزب «المحافظين» اليوم، فهو يريد أن يظهر بأنه رجل عائلة حريص على القيم الأسرية، وهو من عائلة عريقة في البلاد، لديها روابط مع الطبقة الحاكمة وهو الموقع التقليدي لحزب المحافظين البريطاني. ولكن في نفس الوقت، يحاول كاميرون الظهور على أنه رجل قريب من عامة الشعب، ومن ضمن هذه المساعي يتحدث كاميرون عن عشقه لموسيقى «الإيندي» بدلا من الكلاسيكية. إلا أن فشله خلال حملة الانتخابات في الحديث بحماس عن كرة القدم وتحديد فريقه المفضل للعبة الوطنية البريطانية أظهرت ابتعاده بعض الشيء عن الرجل «العادي» في البلاد. ومثل غيره من الساسة في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية في الغرب، واجه كاميرون انتقادات من الصحافة على مدار رئاسته للحكومة لأسباب مختلفة، ولكن ربما أبرزها اعتباره من فئة اجتماعية عليا لا تشعر بما يعانيه الشعب.
وبينما يمثل حزب المحافظين مصالح الطبقة العليا في بريطانيا، كانت ثاتشر المنحدرة من عائلة بسيطة تمثل تغييرا في خلفيات رؤساء الأحزاب. إلا أن كاميرون أعاد الحزب إلى اقترابه من الطبقية، إذ إن الكثيرين يعتبرونه وُلد و«معلقة من فضة» بفمه. فهناك 3 نواب برلمانيون من حزب المحافظين سبقوا كاميرون إلى مجلس العموم، كما أن شجرة العائلة لديها قرابة، ولو بعيدة، من العائلة المالكة. أما زوجته سامانثا، فهي ابنة السير ريجينالد شيفيلد، وهو مالك أراض يحمل رتبة وراثية ذات ثقل بين الطبقة الأرستقراطية البريطانية، إذ إنه من سلالة الملك تشارلز الثاني.
وبعد أربعين عاما من اختيار حزب المحافظين زعماء من خلفيات بسيطة، خرج كاميرون ليتولى زعامة الحزب.
ولد ديفيد ويليام دانكون كاميرون يوم 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1966 في لندن ووالده إيان كاميرون الذي كان يعمل في البورصة في شركة «بانموير» الذي عمل فيها جد كاميرون ووالد جده أيضا. وبينما ترعرع في سنواته الأولى في لندن، انتقل مع عائلته للريف الإنجليزي، حيث عاش حياة عائلية هادئة.
وهو أول رئيس لحزب المحافظين يدرس في مدرسة «إيتون» العريقة منذ زعيم الحزب السير إليك داغلوس هيوم في الستينات من القرن الماضي. أكمل كاميرون دراسته الجامعية في جامعة أوكسفورد العريقة، حيث درس «الفلسفة والسياسة والاقتصاد» وهو من أهم الاختصاصات في العلوم الإنسانية في المملكة المتحدة. وهذه من النقاط التي يثيرها معارضوه التي تجعله «من الطبقة المخملية»، وبعيدًا عن الاحتياجات الواقعية للشعب البريطاني. وخلال فترة دراسته الجامعية، كان كاميرون عضوا في «نادي بولينغدون»، وهو ناد معروف بـ«طيش» أعضائه من الطلاب. وبعد أن نشرت صورة له ولعمدة لندن بوريس جونسون وهما في وضع غير لائق وظاهر عليهما أنهما ثمالى، رفض كاميرون الحديث عن شبابه وسحبت الصورة من النشر تحت قانون الخصوصية، إذ كانت الصورة خاصة وحقوق النشر غير متوفرة للصحافة.
ومن أكثر المقولات المعروفة عن كاميرون تعود لأستاذه في جامعة «أكسفورد» فيرنون بوغدانور الذي وصف كاميرون بأنه «من بين أكثر الطلبة قدرة» في الجامعة التي تستقطب أذكى الطلاب من حول العالم، وقد تخرج كاميرون بدرجة امتياز في الجامعة. كما أن بوغدانور شخص آراء طالبه كاميرون السياسية بأنها «معتدلة ومحافظة بعقلانية». ولقد التزم ديفيد كاميرون بآراء «معتدلة» ولكن الراسخة في مبادئ «المحافظين»، مما جعله قادرا على إعادة إحياء الحزب بعد سنوات من المشكلات الداخلية وتقلبات في القيادة خلال منتصف التسعينات من القرن الماضي وبداية القرن الحالي، حينما كان رئيس الوزراء العمالي توني بلير قادرًا على استقطاب الناخبين وتقوية قاعدته الحزبية.
بعد تخرجه من الجامعة، دخل كاميرون المخاض السياسي وكان من فريق المساعدين لجون ميجور خلال ترأسه للحكومة، حيث التقى بوزير الخزانة الحالي جورج أوسبورن. ومنذ ذلك الوقت، نمت صداقة «سياسية» استمرت لليوم. واكتسب كاميرون معرفة بالسياسة المالية عندما عمل مستشارا سياسيا لوزير الخزانة في حكومة ميجور، نورمان لامونت. ولكن سرعان ما قرر كاميرون أنه يريد أن يكون نائبا برلمانيا نفسه، متأكدا من أن مصيره أن يعمل في مجال السياسة. لكنه قرر أن يحصل على الخبرة المهمة في القطاع الخاص، ضمن جهوده للتقارب من أقطاب القطاع الخاص لاحقا، فانضم إلى شركة «كارلتون» الإعلانية المرتبطة بقناة «إي تي في» التلفزيونية الخاصة. ويقول رجل أعمال بريطاني نافذ، وهو عضو في «مجلس الأعمال» البريطاني الذي يقدم استشارات لكاميرون إن «هذه الخبرة كانت مهمة، جعلت كاميرون يفهم، جزئيا على الأقل، متطلبات القطاع العام». وعمل كاميرون سبع سنوات في «كارلتون»، يترأس العلاقات العامة للشركة آنذاك مايكل غرين ورافقه بزيارات حول العالم وسعت من أفقه وتطلعاته. وقال غرين في مقابلة مع صحيفة «ذا إندبندنت»: «حاولت إقناعه بأنه قد يتمتع بمستقبل جيد جدا في هذا القطاع، ولكنه (كاميرون) كان مصرا على العودة إلى السياسة».
وفي عام 1997، تمنى كاميرون لو استمع لنصيحة مديره غرين. لأنه خاض الانتخابات عام 1997 سعيا لكسب مقعد «ستافورد» البرلماني، ليخسر أمام خصمه العمالي. إلا أن تلك الخسارة زادت كاميرون عزما، وبنى علاقات داخل الحزب وانتقل إلى أكسفورد حيث خاض الانتخابات لمقعد «ويتني» عام 2001 ليفوز به وبعد 14 عاما ما زال يمثل المقاطعة.
عندما تلتقي كاميرون، يحرص كأي سياسي ماهر في الزمن المعاصر، على أن يبدي اهتمامه بك وخلفيتك. ويحرص على الاجتماع بشكل غير رسمي مع الفئات المؤثرة، إذا كان رجال الأعمال أو ممثلي الأقليات من الآسيويين والمسلمين. وكان خطابه أمام «منتدى الاقتصاد العالمي» في دافوس عام 2011، في أول خطاب له أمام نخبة السياسة والاقتصاد العالمية، حرص كاميرون على الحديث دون منصة أو خطاب معد مسبقا. وهو كثيرا ما يحاول أن يقلد أسلوب الساسة الأميركيين، لكنه ليس بمفرده، إذ بات ذلك شبه تقليدي في الساحة السياسية البريطانية.
ويشرح البروفسور ويتمان أن كاميرون اليوم بحاجة إلى «العمل على برنامج حكومي يبقي حزبه متحدا، ولن يكون الأمر سهلا، خاصة فيما يخص أوروبا». وبعد أن جعل كاميرون موضوع عضوية الاتحاد الأوروبي، والمطالبة بإعادة التفاوض مع الأوروبيين أمرًا جوهريًا خلال الانتخابات، عليه خوض عملية التفاوض و«تقديم نتيجة تبقي حزبه متحدا»، بحسب ويتمان. واليوم أمام كاميرون تحد لأنه في الأخير يريد إبقاء المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي ولكن بناء على أسس جديدة يتم التفاوض عليها، ومن ثم طرح الأمر للناخب البريطاني في استفتاء أعلن كاميرون أنه سيكون عام 2017 «أو أقرب». وطرح الأمر للاستفتاء مغامرة من كاميرون، ضمن أسلوبه المختلف بعض الشيء عن أسلافه.
وفي إشارة دالة على استعداد كاميرون للقيادة بطريقته الخاصة، اتخذ خطوة نادرة في إفصاحه خلال مقابلة تلفزيونية مع هيئة الإذاعة والتلفزيون «بي بي سي» في أبريل (نيسان) الماضي، وخلال الحملة الانتخابية، عن قراره عدم الترشح مجددا لرئاسة الحكومة بعد هذه الانتخابات. وبذلك، جعل كاميرون الكثير من الناخبين المتأرجحين يصوتون لصالحه بهدف منحه «إنهاء العمل الذي بدأه»، مما أوصله إلى حكومة أغلبية بعد أن كانت جميع التوقعات تدل على بروز «برلمان معلق». ولكن النتيجة الأخرى من تصريح كاميرون حول عدم الترشح هي فتح المجال إلى جيل جديد من القيادات للحزب من موقع قوة، بدلا من موقع خسارة، مثلما يشهده حزب العمال والحزب الليبرالي الديمقراطي بعد هزائم الانتخابات الأخيرة. فيرغب كاميرون في ترك قيادة الحزب دون أن يعني ذلك خسارة الحزب قيادة البلاد. وفي حال نجح في هذا الانتقال، المرتقب بعد خمس سنوات من الآن، سيذكر التاريخ كاميرون بأنه سياسي بارع بخض النظر من تقييمه كرئيس وزراء دولة تمر بتقلبات اقتصادية واجتماعية جسيمة.

> عمره 49 عاما، ولد 9 أكتوبر (تشرين الأول) 1966.
> لديه شقيق وشقيقتان.
> تزوج من سامانثا شيفيلد 1 يونيو (حزيران) 1996 ورزقا بأربعة أطفال، لكن ابنهما الأكبر إيفان الذي ولد عام 2002 توفى عام 2009 بعد صراع طويل مع المرض.
> أصبح نائبا في البرلمان البريطاني عام 2001.
> تولى رئاسة حزب المحافظين عام 2005.
> تولى رئاسة الحكومة عام 2010 – كان عمره 43 عاما حينها ليصبح أصغر رئيس وزراء سنا منذ اللورد ليفربول الذي أصبح رئيسا للوزراء عام 1812.
> فاز حزبه مجددا بانتخابات 7 مايو (أيار) 2015 ليعلن الفوز رسميا 8 مايو ويشكل الحكومة البريطانية.
> عمل 7 سنوات في شركة «كارلتون» للإعلانات قبل دخول الحكومة.
> تقدر ثروة كاميرون بنحو 4 ملايين جنيه إسترليني بحسب صحيفة «ذا تلغراف» البريطانية.
> لدى كاميرون 1.06 مليون متابع على موقع «تويتر».



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.