الأزمة الاقتصادية الراهنة تتجاوز قدرة البنوك المركزية

تزايد التكهنات بدخول الاقتصادات إلى دائرة التباطؤ

يرى كثير من المراقبين والمحللين أن الأزمة الاقتصادية الراهنة تتجاوز قدرة البنوك المركزية (رويترز)
يرى كثير من المراقبين والمحللين أن الأزمة الاقتصادية الراهنة تتجاوز قدرة البنوك المركزية (رويترز)
TT

الأزمة الاقتصادية الراهنة تتجاوز قدرة البنوك المركزية

يرى كثير من المراقبين والمحللين أن الأزمة الاقتصادية الراهنة تتجاوز قدرة البنوك المركزية (رويترز)
يرى كثير من المراقبين والمحللين أن الأزمة الاقتصادية الراهنة تتجاوز قدرة البنوك المركزية (رويترز)

عندما تعرض العالم للأزمة المالية في خريف 2008 واستمرت أغلب شهور 2009 كان صناع السياسة النقدية في البنوك المركزية الكبرى نجوم هذه المرحلة بفضل السياسات النقدية التي تبنوها لتجاوز الأزمة وإنعاش الاقتصادات. وعندما تعرض العالم لجائحة فيروس «كورونا» المستجد منذ أواخر 2019، عاد صناع السياسة النقدية في البنوك المركزية ليحتلوا مشهد الصدارة مجددا بفضل سياسات بالغة المرونة وحزم تحفيز نقدي ضخمة. ولكن يبدو أن الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم حاليا تحتاج إلى ما هو أكثر من تحركات البنوك المركزية. ويقول المحلل الاقتصادي ماركوس أشوورث في تحليل نشرته وكالة بلومبرغ إن الزيادات الأخيرة في أسعار الفائدة والتي جاءت متأخرة وقليلة للغاية وتقليص الميزانيات لن تمنع معدلات التضخم من الوصول إلى أكثر من 10 في المائة. في الوقت نفسه فإن تبني سياسات نقدية تدفع الاقتصاد في اتجاه الركود بعد سنوات من تبني سياسات نقدية فائقة المرونة لن يكون سوى فشل جديد بنكهة مختلفة. والمطلوب بحسب أشوورث الذي أمضى أكثر من ثلاثة عقود في العمل في القطاع المصرفي هو أن تتحمل السياسات المالية جزءا أكبر من عبء تنشيط الاقتصاد.
وبعد فترة قصيرة من التفكير المشترك بين البنوك المركزية والحكومات عندما زاد الإنفاق الحكومي بالتنسيق مع برامج التحفيز المبتكرة من جانب البنوك المركزية، عدنا إلى الوضع الذي تكون فيه البنوك المركزية هي الحصن الوحيد ضد الركود. فالانفصال الحالي بين مستويات السياسة المالية التي تضعها الحكومات والسياسة النقدية التي تضعها البنوك المركزية يضع صناع السياسة النقدية والمسؤولين عن الاستقرار المالي واستقلالهم عن الحكومة في دائرة الهجوم بشكل خطير.
ويحذر ماركوس أشوورث من أن السير على حبل مشدود بين الرغبة في مكافحة التضخم المرتفع ودخول الاقتصاد في دائرة الركود يمثل معضلة بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي. ففي حين يطالب الصقور في مجلس محافظي البنك بسرعة سحب برامج التحفيز والتخلي عن أسعار الفائدة السلبية، تتزايد مخاطر دخول اقتصادات منطقة اليورو إلى دائرة التباطؤ خلال العام المقبل مع التسريع في سحب حزم التحفيز.
ومع ذلك يتبقى شعاع من الأمل في تجنب هذا السيناريو الكابوسي وهو تراجع احتمالات استمرار ارتفاع الأجور، مما يحد من سرعة ارتفاع معدلات التضخم. وهنا بالتحديد تستطيع الحكومات المساعدة في الأمر من خلال تخفيف تأثير ارتفاع أسعار الطاقة على المستهلكين من أجل تخفيف آثار الموجة التضخمية الثانية.
وقد حقق الاتحاد الأوروبي نجاحا كبيرا عندما أنشأ «صندوق الجيل القادم» بقيمة 800 مليار يورو لمساعدة الدول الأعضاء في مواجهة التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس «كورونا». لكن استجابة الاتحاد المالية لتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا كانت باهتة. وتعتبر مرونة الاتحاد الأوروبي في مواجهة الصعوبات أبرز نقاط قوته، لذلك يجب أن يطور حزمة إجراءات للحفاظ على النمو الاقتصادي والحد من تداعيات ارتفاع الأسعار بسبب الحرب الروسية، جنبا إلى جانب تنسيقه الحالي للتحركات العسكرية والعقوبات على روسيا.
وخارج دائرة الاتحاد الأوروبي نجد أن مهمة بنك إنجلترا المركزي في التعامل مع الأزمة الراهنة أصعب في ظل إصرار وزير الخزانة البريطاني ريشي سوناك على زيادة الضرائب، بدلا من تخفيفها. بالطبع لن يكون الأمر جيدا بالنسبة للبنك المركزي البريطاني عندما يقرر زيادة سعر الفائدة للمرة الرابعة على التوالي في الوقت الذي يحذر فيه من تزايد مخاطر ركود الاقتصاد. فالاعتماد على زيادة أسعار الفائدة فقط يمكن أن يؤدي إلى اشتداد حدة ارتفاع نفقات المعيشة، وهو ما أدى إلى تزايد الانقسام بين أعضاء لجنة السياسة النقدية، حيث يرى بعضهم أولوية الحاجة إلى الحد من التضخم، في حين يرى البعض الآخر مخاطر الانكماش المالي للحكومة.
وتصم الحكومة البريطانية آذانها عن دعوات خبراء المالية من أجل تخفيف حدة التراجع القادم في مستويات المعيشة. ومع المؤشرات على تراجع رغبة بنك إنجلترا المركزي في التعامل مع أزمة ارتفاع أسعار المستهلك والكساد المتوقع، يشعر المتعاملون في أسواق المال والمستثمرون بقلق متزايد مفهوم بشأن الأصول المقومة بالجنيه الإسترليني، بحسب أشوورث الذي عمل مؤخرا مديرا لتخطيط الأسواق في شركة هايتونغ سيكيوريتز في لندن.
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي لا يرى مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأميركي عقبات أمام تشديد السياسة النقدية وبوتيرة متسارعة. وسيؤدي هذا إلى تزايد التباين في أسعار الفائدة بين العملة الأميركية والعملات الرئيسية الأخرى، وهو ما يدفع بالدولار إلى المزيد من الارتفاع ويسبب الفوضى في سوق الصرف، وبخاصة في الاقتصادات الصاعدة.
ولكن ليس أمام البنك المركزي الأميركي خيارات كثيرة غير التخلص من حزم التحفيز الحكومية الضخمة. كما تواجه الولايات المتحدة شبح الشلل السياسي بعد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس وسيطرة المعارضة الجمهورية المتوقعة على الأغلبية مما يزيد من مصاعب إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن.
ويسعى مجلس الاحتياط الاتحادي وبنك إنجلترا المركزي إلى تهدئة وتيرة النشاط الاقتصادي وكبح جماح الطلب الاستهلاكي من خلال تشديد السياسة النقدية. لكن هذا لا يخاطر فقط بإهدار تريليونات الدولارات التي تم إنفاقها على جهود التعافي الاقتصادي بعد جائحة «كورونا»، وإنما يهدد أيضا بخروج الأمور كلها عن السيطرة. وفي هذه الحالة يمكن أن يكون العلاج الذي يلجأ إليه البنكان المركزيان أسوأ من المرض نفسه، مع تآكل الثقة المتراجعة بالفعل في قدرة البنوك المركزية على القيام بواجباتها.
ويرى أشوورث أنه لا أحد يريد عودة سلطة السياسيين على صناعة السياسة النقدية وتحديد أسعار الفائدة. لذلك يجب إدراك حدود ما يمكن أن تحققه السياسة النقدية بمفردها، عندما تعرض العالم لإجراءات إغلاق شامل ثم إعادة الفتح مرة أخرى في ظل اضطراب سلاسل الإمداد العالمية وأزمة الطاقة الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا.
ولا تملك البنوك المركزية سيطرة تذكر على جانب العرض في الاقتصاد، لكنها تستطيع بالتأكيد خنق الطلب الذي سعت خلال السنوات السابقة إلى تشجيعه وتحفيزه بسخاء. في المقابل تستطيع الحكومات تشجيع جانب الإنتاج والعرض، لكن عندما يكون ذلك مبررا من الناحية التجارية. وتحتاج مشروعات البنية التحتية والمشروعات العملاقة إلى وقت طويل قبل أن تؤتي ثمارها، لكن هناك الكثير الذي يمكن أن تحققه السياسة المالية في هذا الشأن، بخاصة من خلال خفض الضرائب والحوافز الاستثمارية.
واختتم أشوورث تحليله بالقول إنه حان الوقت الآن لكي تكرر السلطات في العالم النزعة الإبداعية التي أظهرتها أثناء الجائحة. فعلى هذه السلطات التحرك دون تأخير.


مقالات ذات صلة

وسط تنامي المخاوف من تباطؤ عالمي... بنك اليابان قد يبقي الفائدة ثابتة

الاقتصاد أشخاص يلتقطون صوراً مع أشجار أزهار الكرز بمنطقة تشو في طوكيو (أ.ف.ب)

وسط تنامي المخاوف من تباطؤ عالمي... بنك اليابان قد يبقي الفائدة ثابتة

من المرجح على نطاق واسع أن يبقي بنك اليابان على سعر الفائدة عند 0.5 % في اجتماعه يومي الثلاثاء والأربعاء وسط مخاوف زائدة من تباطؤ الاقتصاد العالمي.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
الاقتصاد متداولو العملات يتابعون مؤشر «كوسبي» وسعر الصرف بين الدولار والوون في مقر بنك «هانا» بسيول (أ.ب)

الأسواق الآسيوية ترتفع ترقباً لقرارات «الفيدرالي» وبنك اليابان

سجّلت معظم الأسواق الآسيوية ارتفاعاً يوم الثلاثاء، مستمدة دعمها من موجة الصعود الجديدة في «وول ستريت» التي عزّزت ثقة المستثمرين.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
الاقتصاد أوراق نقدية من الدولار الأميركي (رويترز)

مخاوف التوترات التجارية تُضعف الدولار... والأنظار على «الفيدرالي»

حافظ الدولار الأميركي على استقراره فوق أدنى مستوياته في 5 أشهر مقابل العملات الرئيسية، يوم الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
الاقتصاد سبائك ذهب بأحجام مختلفة محفوظة في قبو ببافاريا (د.ب.أ)

الذهب يتخطى 3 آلاف دولار مجدداً

بلغ سعر الذهب ذروته التاريخية الثلاثاء، مواصلاً مسيرته التاريخية متجاوزاً مستوى 3 آلاف دولار، حيث تفاقمت حالة عدم اليقين العالمية مع تصاعد التوترات التجارية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد ترمب في حلقة نقاشية على قناة «فوكس نيوز» بغرينفيل بساوث كارولاينا فبراير 2024 (رويترز)

منظمة التعاون الاقتصادي: رسوم ترمب تُبطئ النمو وترفع التضخم

توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الاثنين أن تؤدي الزيادات في الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى تباطؤ النمو بكندا والمكسيك

«الشرق الأوسط» (باريس)

الذهب يسجل أعلى مستوى قياسي جديد وسط ترقب لقرار «الفيدرالي»

واجهة متجر لبيع الذهب في المدينة القديمة بالرباط (إ.ب.أ)
واجهة متجر لبيع الذهب في المدينة القديمة بالرباط (إ.ب.أ)
TT

الذهب يسجل أعلى مستوى قياسي جديد وسط ترقب لقرار «الفيدرالي»

واجهة متجر لبيع الذهب في المدينة القديمة بالرباط (إ.ب.أ)
واجهة متجر لبيع الذهب في المدينة القديمة بالرباط (إ.ب.أ)

ارتفع الذهب مسجلاً أعلى مستوى قياسي يوم الأربعاء؛ حيث عززت التوترات في الشرق الأوسط وعدم اليقين التجاري جاذبية المعدن الأصفر، بينما يترقب المتداولون قرار «الاحتياطي الفيدرالي» في وقت لاحق من اليوم.

واستقر سعر الذهب الفوري عند 3035.12 دولار للأونصة، بدءاً من الساعة 04:15 بتوقيت غرينتش، بعد أن سجل أعلى مستوى له على الإطلاق عند 3038.90 دولار في وقت سابق من الجلسة. وارتفعت العقود الآجلة للذهب في الولايات المتحدة بنسبة 0.1 في المائة لتصل إلى 3042.20 دولار.

وقال تيم ووترر، كبير محللي السوق في شركة «كي سي إم» للتجارة: «ينظر المتداولون إلى الذهب بوصفه أصلاً مُجهَّزاً جيداً للتعامل مع حالة عدم اليقين الاقتصادي المرتبطة بالرسوم الجمركية»، مُضيفاً أن بيئة التداول الحالية التي يسودها عدم الاستقرار، تُعزز قوة الذهب بوصفه أداة تحوُّط من عدم اليقين.

ويشعر المستثمرون بالقلق من تباطؤ اقتصادي وارتفاع مخاطر الركود الاقتصادي، بسبب الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها قد تُفاقم التضخم.

وأججت الرسوم الجمركية التوترات التجارية، وتشمل فرض ضريبة ثابتة بنسبة 25 في المائة على الصلب والألمنيوم، والتي دخلت حيز التنفيذ في فبراير (شباط)، ورسوماً جمركية متبادلة وقطاعية ستُفرض في 2 أبريل (نيسان).

ومن المتوقع أن يُبقي بنك الاحتياطي الفيدرالي الذي سيختتم اجتماعه الذي يستمر يومين لمناقشة السياسات في وقت لاحق من اليوم، على سعر الفائدة القياسي ثابتاً عند نطاق 4.25 في المائة- 4.50 في المائة.

ويزدهر الذهب غير المُدرِّ للعائد، وهو أداة تحوُّط من حالة عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي، في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة.

وقال ووترر: «إذا اتخذ اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة نبرة حذرة، استجابة لازدياد حالة عدم اليقين بشأن تأثير الرسوم الجمركية على النمو، فقد يُقدم ذلك دعماً إضافياً لسعر الذهب... وقد يكون بمثابة ضوء أخضر للذهب للارتفاع فوق 3050 دولاراً».

وتنتظر الأسواق أيضاً خطاب رئيس «الاحتياطي الفيدرالي» بأول، الساعة 18:30 بتوقيت غرينتش، لاستخلاص مزيد من المؤشرات حول آفاق السياسة النقدية.

وفي سياقٍ آخر، قصفت الغارات الجوية الإسرائيلية غزة، وأسفرت عن مقتل أكثر من 400 شخص يوم الثلاثاء، وفقاً للسلطات الصحية الفلسطينية، ما أنهى نحو شهرين من الهدوء النسبي منذ بدء وقف إطلاق النار؛ حيث حذَّرت إسرائيل من أن الهجوم «مجرد البداية».

وانخفض سعر الفضة الفوري بنسبة 0.2 في المائة إلى 33.97 دولار للأوقية، وخسر البلاتين 0.4 في المائة إلى 992.85 دولار، وانخفض البلاديوم بنسبة 0.1 في المائة إلى 966.24 دولار.