آمال جنبلاط وسعيد عقل... «المركب» الزوجي الذي أغرقته حمولته الزائدة

هل كان انتحارها المأساوي ثمرة تصدعاتها النفسية أم رهاناتها الخاسرة؟

زفاف سعيد عقل وآمال جنبلاط عام 1982
زفاف سعيد عقل وآمال جنبلاط عام 1982
TT

آمال جنبلاط وسعيد عقل... «المركب» الزوجي الذي أغرقته حمولته الزائدة

زفاف سعيد عقل وآمال جنبلاط عام 1982
زفاف سعيد عقل وآمال جنبلاط عام 1982

قد تكون العلاقة الزوجية القصيرة التي عاشها كل من سعيد عقل وآمال جنبلاط في مطالع الثمانينات من القرن المنصرم، إحدى أكثر العلاقات بين المبدعين غرابة ومأساوية. صحيح أن تلك التجربة الغامضة لم تدم أكثر من خمسين يوماً من الزمن، قبل أن تبلغ خاتمتها الصادمة بانتحار الزوجة الشابة، ولكن الصحيح أيضاً أنها لا تزال تبدو أقرب إلى الأحجية الشائكة والملابسات المحيرة منها إلى أي شيء آخر. ولعل هذه الملابسات بالذات، هي ما استوقف العديد من القراء والمهتمين، وأثار فضولهم لاستجلاء ما خفي من وجوه تلك العلاقة الملغزة، وفي طليعة هؤلاء محمود زيباوي وعبده وازن ومحمد الحجيري.
والواقع أن أي استدعاء راهن لمشهديتي الزفاف والانتحار، لا يمكن أن يغض الطرف عن الأبعاد الدلالية لذلك الارتباط الدراماتيكي الذي يبدو منتزعاً من إحدى مسرحيات لوركا، أو من أحشاء الأسطورة التي كان سعيد عقل شغوفاً باعتناقها أو اختراعها. ومع أن كلا المشهديتين المتقاربتين في الزمن قد تم تناولهما بالدراسة والتحليل من قبل العديد من النقاد والمهتمين، فإن الحدث المؤثر كان يمكنه أن يحظى باهتمام أكبر لو لم يتمكن الغبار الكثيف الذي أثاره الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية في يونيو (حزيران) عام 1982 من صرف الأنظار باتجاه مأساته الأشمل وهوله الأشد وطأة. وإذا كانت المسافة الفاصلة بين الطلقتين اللتين سددهما كل من آمال جنبلاط وخليل حاوي نحو رأسيهما المثخنين بالكوابيس لا تتجاوز الأيام المعدودة، فإن كلاً منهما كان يعبر على طريقته عن احتجاجه الصارخ على بؤس العالم وفساده وانسداد أفقه.
على أن أي قراءة معمقة للعلاقة بين الطرفين، لا بد أن تسبقها وقفة سريعة عند صورة المرأة في نتاج سعيد عقل الشعري. فالمرأة عند عقل لا تحضر بوصفها كينونة إنسانية واقعية، تتشكل من لحم الحياة ودمها الفعليين، بل بوصفها كائناً أثيرياً يشكل تغييبه الواقعي الشرط الأهم لاستدراجه إلى خانة التخييل. لا بل ليس ثمة من حاجة عنده إلى المرأة الواقعية، ما دام هو الذي يتكفل باختراعها من عندياته، بدءاً من الاسم نفسه ووصولاً إلى مواصفاتها الأثيرية. فليس بالضرورة أن تكون دلزى ومركيان وجلنار وتيانار ونلارا، أسماء لنساء حقيقيات، ما دامت امرأة عقل هي السراب بعينه كما في قوله:
أجمل ما يؤثر عن أرضنا أوهامها أنكِ زرتِ الوجودْ
وحتى لو قدر لامرأة سعيد عقل أن تنزل من عالمها السديمي لتلامس الأرض، فهي أقرب إلى الفكرة الفلسفية منها إلى الكائن الحي ذي الملامح المحسوسة، كما يظهر من البيت الشهير واللافت في دلالاته الذهنية المجردة:
لوقعكِ فوق السرير مهيبٌ كوقع الهنيهة في المطلقِ
وإذا حدث للمرأة أن تجسدت في شكلٍ وقوامٍ وملامح بعينها، فإن جسدها لا يتشكل في أغلب الأحيان في نصاب جمالي مكتمل، بل يحضر عبر أجزاء مستقلة وقائمة بذاتها، بحيث يتناول الشاعر عيني حبيبته وفمها وشعرها وقدميها، كلاً على حدة. وهو إذ يفعل ذلك يؤكد من خلال رؤية للأنوثة مثالية وشبه أفلاطونية، أن للمرأة حضوراً طيفياً ينبغي أن يحض الشعراء على الكتابة ويرفدهم بعوامل الإلهام، وأن ما تملكه الأنوثة من جمال خلاب، يجب أن يكون غير قابل اللمس، وأن يظل قيد المخيلة والوجد والشغف الخالص، كمثل قوله:
وقربكِ لي معبدٌ لا يُمس يُزار ويُعبد من شاسعِ
ولعل هذا الإعلاء الشعري المفرط للمرأة، كان يجد مكوناته الأولى في طفولة سعيد عقل المبكرة، وهو الذي التحق في صباه بمدرسة الإخوة المريميين، كما جرت تنشئته من قبل أسرته وفق التقاليد المسيحية المحافظة التي كانت تسود مدينته زحلة في العقود الأولى من القرن العشرين. وقد بدت دراسته للاهوت المسيحي، ومن ثم تدريسه له في وقت لاحق، بمثابة ترجمة فعلية لتشربه تعاليم ذلك اللاهوت والافتتان بالشخصيتين النسائيتين الأكثر بروزاً في الديانة المسيحية، وهما مريم العذراء، ذات الجسد الأثيري المجرد من الشهوات، ومريم المجدلية التي زودته بتصور ملتبس عن المرأة يتراوح بين الحسية الإيروتيكية وبين الإلحاح المضني على طلب الغفران. وإذا كانت أغوار الشاعر قد ظلت محل تنازع قاس بين الصورتين، فإن «التسوية» التي عقدها مع نفسه بدت وكأنها تقضي بتحويل شعره إلى منمنمات جمالية وبلورية لجسد المرأة «المتحفي»، وبإعلاء الجسد الأمومي للمرأة الذي يتقمص صورة «الحبل بلا دنس» من خلال مريم العذراء، أو صورة «الدنس» الطهور في حدوده اللازمة للإنجاب، كما هو حال أمه أديل يزبك.
ولما كان عقل قد أعلن في إحدى المناسبات أن المرأتين الوحيدتين اللتين أحبهما بكل جوارحه هما مريم العذراء وأمه، فإن من حقنا أن نقيم رابطاً ما بين هذا الإعلان الصريح وبين نزوع الشاعر إلى أسطرة المرأة وتنزيهها عن الشهوات، بما يبدو وكأنه ذريعته المثلى لتلافي البعد الجسدي في علاقته بالنساء اللواتي أحبهن. وإذا لم يكن زعم البعض بأن الشاعر كان يعاني من الوهن الجنسي، بسبب مرض ألم به في صباه، بالأمر الذي لا يمكن تأكيده على نحو قاطع، إلا أن من المحتمل أن يكون «تعفف» الشاعر الجنسي مرتبطاً برؤيته المثالية إلى أمه، وبصورتها المنزهة عن أي شبهة شهوانية، بما شكل عائقاً نفسياً بينه وبين الاتصال الجسدي بنساء حياته، تماماً كما كان الحال مع بطل نجيب محفوظ في رواية «السراب».
ومع أن العلاقة الشائكة والمعقدة مع المرأة، لم تمنع سعيد عقل من إعلان خطوبته على سعاد أبي صالح، ابنة الصحافي اللبناني يوسف أبي صالح عام 1952 إلا أن فسخ تلك الخطوبة بعد سنتين اثنتين من إعلانها، لا بد أن يؤكد من جديد مثل ذلك التساؤل الإشكالي. صحيح أن لعزوف عقل الطويل عن الزواج أسباباً جوهرية تتصل بتفرغه للكتابة وحماية صورة المرأة الأثيرية من التشظي، فالأرجح أن من بين هذه الأسباب ما يمكن أن نسميه «رهاب» الاقتراب المفرط من النساء الحقيقيات، كما يتراءين على أرض الواقع السافر، أو فوق أسرة الشهوات.
لكل ما تقدم فإن من حق القارئ المهتم أن يتساءل عن «القطب المخفية» التي حدت بسعيد عقل، وهو في السبعين من عمره، إلى تجاوز مخاوفه المزمنة من الارتباط الزوجي، وصولاً إلى عقد قرانه على الشاعرة الشابة آمال جنبلاط، في الثاني من أبريل (نيسان) 1982، أما من جهة آمال جنبلاط فثمة ما يثير الحيرة في إقدامها على اقترانها بعقل، رغم أن المطبات التي كانت تواجه مثل تلك المجازفة، لا تتصل بفارق السن الشاسع وحده، ولا بالتباينات الدينية والسياسية والاجتماعية فحسب، بل باختلاف الأمزجة الشخصية والرؤية إلى الجسد والنظرة إلى الحياة، في الوقت ذاته.
وإذا لم يكن من الإنصاف أن ننفي دور الإعجاب المتبادل والانجذاب الشخصي، في الإقدام على تلك الخطوة، ولو بعد سنوات عديدة من لقاءات الطرفين الأولى، والتي اعترفت جنبلاط لاحقاً أنها هي من بادر إلى وقفها تحاشيا لتبعاتها المرهِقة، فالأرجح أن هذا الزواج لم يكن مجرد استجابة تلقائية لنداءات القلبين، بقدر ما كان حصيلة رهانات متباينة الأهداف، سرعان ما انكشفت هشاشتها حين لم يتطابق حساب الزوج المزهو بقدرته على الإغواء، مع حساب الزوجة الباحثة عبر الشاعر النجم عن خشبة خلاص أخيرة، تدرأ عنها شعورها الممض بفراغ العالم وخوائه وبهتانه. فآمال الشابة والشاعرة المرهفة، والمنتمية إلى أسرة لبنانية سياسية وشديدة العراقة، والخارجة من زواج تقليدي فاشل، رأت في سعيد عقل النموذج الأكثر بهاء لـ«الفحولة» الشعرية التي يتيح اقترانها به ترميماً لروحها المتصدعة، وانعتاقاً رمزياً من الزمن اللبناني «العنين». وهي تبعاً لذلك، لم تر في فارق العمر الذي يفصلها عن صاحب «المجدلية» ما يُفسد إعجابها به كشاعر متفرد، ورجل وسيم ذي كاريزما شخصية لافتة. إضافة إلى رغبتها العميقة بأن تكون ملهمة صاحب «أجراس الياسمين» وعروسة شعره، وهو الذي خصها عند الزفاف بمقطوعة شعرية، ليست بالقطع بين أفضل نصوصه.
والأرجح أن سعيد عقل كان يرى في ذلك الزواج، إضافة إلى ما تقدم، ما يتخطى العلاقة بين طرفيه المباشرين، ليصبح مصاهرة أوسع بين طائفتي الزوجين، بوصفهما الطائفتين المؤسستين للكيان اللبناني. ولم تكن آمال من جهتها بعيدة عن مثل هذا التصور الفضفاض للعلاقة، كما يبدو من الحوار المطول الذي أجرته الإعلامية ديانا هندي مع كلا الزوجين اللذين بدت عليهما أمارات السعادة، متحدثيْن بنبرة متفائلة عن حبهما المتجدد، وعن رغبتهما في الإنجاب، وصولاً إلى تعويلهما المشترك على تحويل زواجهما العابر للطوائف إلى نموذج للوحدة والانصهار الوطنيين. أما سعيد عقل فلم تقتصر رهاناته الخيالية على الدعوة إلى تعميم ذلك النوع من الزواج المختلط، كسبيل فعال لوقف الاقتتال الأهلي بين اللبنانيين، بل كان يأمل على الصعيد الشخصي بأن تمهد له مصاهرته لإحدى أعرق العائلات الدرزية، طريق الوصول إلى سدة الرئاسة في لبنان، وأن تجعل منه النسخة الجديدة والمعدلة عن فخر الدين المعني الثاني الكبير.
لكن الرياح لم تجرِ، لسوء الحظ، وفق ما تشتهي سفن الطرفين. إذ سرعان ما تسبب المسرح الضيق للعلاقة في انكشاف الهوة العميقة التي تفصل بين الزوجة الطافحة بالحيوية، والمتطرفة في تقلبها المزاجي، وبين الزوج المفرط في اعتداده بنفسه، والمحاط بمرايا أناه الشخصية المتفاقمة. إضافة إلى أن نزول المرأة من سماء الأسطورة المتخيلة، باتجاه وجودها الأرضي المتعطش للمس، قد وضعه هو المنهك من أثر السنين، أمام الفجوة الدراماتيكية العميقة التي تشطر السرير الزوجي إلى شطرين شديدي البرودة والتباعد. والأرجح أن الزوج الذي سيج نفسه بمجموعة من الفرضيات المثالية المسبقة عن العالم، لم يصغ جيداً إلى مكابدات الزوجة وقلقها الوجودي وحاجتها الملحة إلى الاحتضان، وهي المصابة وفق الكثير من عارفيها، بنوع حاد من الاكتئاب، يرفعها تارة إلى ذرى السعادة والشغف بالحياة، وينزلها أحياناً أخرى إلى درك الوساوس السوداء والقنوط من الحياة. وإذ كان عقل يحدث أصدقاءه الأقربين عن السخاء غير العادي لزوجته، التي كانت تغمره بمختلف الهدايا، إلا أنه أظهر لبعضهم قلقه الشديد من تعاملها العدائي معه، والذي لم يكن يخلو في حالات الغضب والهياج الشديد من التعبيرات العنفية، لفظاً وسلوكاً، مع تنصله التام من تحمل نصيبه من المسؤولية عما يحدث.
على أن الكتابة عن علاقة آمال جنبلاط بسعيد عقل لا تستقيم، أخيراً، دون التوقف عند التباين الواضح في علاقتهما بالموت، هاجساً وتصوراً وواقعة محتومة. فعند سعيد عقل لا يحضر الموت كهاجس مؤرق أو كوقوع تراجيدي في براثن العدم، بل يحضر، حتى في مراثيه، كحالة لغوية وجمالية بعيدة عن أي ألم عميق أو نبرة فجائعية. أما موته الشخصي فقد ظل، حتى بعد بلوغه المائة، فكرة مستبعدة بالكامل، كما صرح لأحد الصحافيين، مضيفاً بأن الترياق المضاد للفناء الذي يشتغل عليه العلماء لم يعد بعيداً، وأنه سيفيد منه على المستوى الشخصي. أما آمال جنبلاط فقد ظهرت وساوسها المتصلة بالموت على نحو جلي في مجموعتيها الشعريتين «أغنية ليلية» و«الغياب» الصادرتين بالفرنسية عامي 1969 و1974، وقد لاحظ أنسي الحاج في مقالة له، أن نوعاً من الحزن الكاسر كان يخيم على نتاج الشاعرة التي تمتلئ قصائدها بألفاظ الموت وحاشيته، والتي «تعرف أنها لن تعيش، لأنها لا تجد سبباً واحداً يبرهن لها أنها لن تموت».
ومع أن من الصعوبة بمكان، تحاشي السؤال المتعلق بتوقيت الانتحار نفسه، والذي يتعدى من بعض زواياه المصادفة البحتة، فإن صعوبة مماثلة تعترض الباحثين عن إجابة قاطعة عن السؤال المطروح. فهي قد تتمثل في النزوع النفسي الانتحاري للزوجة المأزومة، كما في احتجاجها الصارخ على فساد الأحلام. وقد تكون متصلة بفشل المثال اللغوي «الفحولي» في أن يوفر للشاعرة على أرض الواقع المحسوس، ما يعصمها من السقوط، وهي التي استشعرت مصيرها القاتم في غير نص شعري، وفي قولها على وجه الخصوص:
ماذا أقول عندما ضباب عيني سيحجب النور؟
ماذا أقول عندما الموت يُثقل جفني؟
لقد غنيت الحقول والجداول
وها أخرج من الحياة، لا ذليلة ولا فخورة
ولكنني فقط أُخفض رأسي
وأرجع من حيث أتيت...



هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟
TT

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

هل دليلة الفلسطينية خائنة أم بطلة قومية؟

قلّ أن حملت قصة من قصص الحب ذلك القدر من المفارقات والملابسات الملغزة، كما هي حال القصة التي ربطت بين شمشون اليهودي ودليلة الفلسطينية. ولعل رسوخ تلك القصة في المخيلة الإنسانية الجمعية لا يعود إلى عدِّها جزءاً لا يتجزأ من السردية التوراتية فحسب، خصوصاً أن قصص الحب المتصلة بالخيانة والعشق الشهواني والعلاقات الآثمة في «العهد القديم» أكثر من أن تُحصى، ولكن ما أكسبها طابَعها الشعبي الواسع هو وقوعها على خطوط التماس الفاصلة بين الدين والأسطورة من جهة، وبين الولاء للقلب والولاء للوطن من جهة أخرى.

والواقع أن أي قراءة متأنية لعلاقة شمشون بدليلة لا يمكن أن تتم على أرض العاطفة والحب اللذين تحرص التوراة على استبعادهما عن سياق الأحداث، بل يتضح للقارئ أن الخلفية التي تُروى من خلالها الوقائع هي خلفية المواجهة الضدية بين الخير العبري والشر الفلسطيني. ويكفي أن نعود إلى الجملة التي يستهل بها «سفر القضاة» القصة بقوله: «ثم عاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب فدفعهم الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة»، لكي نقرأ المكتوب من عنوانه، إذ ستكون علاقتا الزواج اللتان ربطتا شمشون بامرأتين فلسطينيتين متتاليتين ترجمة بالغة الدلالة لامتداح الذات الجمعية الفحولية، مقابل تأنيث العدو وتشويه صورته، ولو أن العقاب الإلهي قد توزع مناصفةً بين طرفَي الصراع.

ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن شمشون قد ولد، وفق الرواية التوراتية، بتدخل مباشر من الرب الذي استجاب لرغبة أبيه منوح وأمه العاقر في الحصول على طفل يوفر لهما أسباب السعادة والاستمرار. وبعد تجاوز الفتى سن البلوغ، التقى صدفة بفتاة فلسطينية حازت على إعجابه، فسارع بالطلب من أبيه وأمه أن يأخذاها زوجة له. وعلى الرغم من أن أبويه واجها طلبه باستنكار بالغ، لأن الفلسطينيين في تلك الفترة كانوا «متسلطين على إسرائيل»، فإنهما أذعنا لطلبه في نهاية الأمر. وبينما كان ذاهباً للزواج التقى شمشون بشبلٍ مفترس فشقّه باليد المجردة كما يُشقّ الجدي. على أن عروسه الفلسطينية ما لبثت أن خانته مرتين؛ الأولى حين أطلعت الفلسطينيين على حل الأُحجية التي طرحها عليهم، والثانية حين تركته بغتةً لترقد في أحضان أحد أصدقائه المقربين.

ومع انتقاله إلى غزة تُنبئنا السردية التوراتية بأن شمشون لم يكد يقع في حب امرأة أخرى اسمها دليلة، حتى «صعد إليها أقطاب الفلسطينيين وقالوا لها تملّقيه وانظري بماذا قوته عظيمة»، عارضين عليها مبلغاً مغرياً من المال. على أن شمشون المتوجس من السؤال أعطى دليلة ثلاث إجابات كاذبة حول سر قوته، حتى إذا بالغت في إلحاحها «وضاقت نفسه إلى الموت» أخبرها بأن قوته كامنة في خصل شعره الطويلة، فإن تمّ قصُّها فارقته هذه القوة بالكامل.

وإذ نجحت دليلة في الوقوف على سر بطلها العاشق، أنامته على ركبتيها وطلبت من أحد الرجال قص جدائله السبع، حتى إذا أيقظته وأراد الانقضاض على الفلسطينيين، اكتشف أنه بلا حوْل، وأنه وقع ضحية المرأة المخاتلة التي أسلم لها قلبه. بعد ذلك اقتلع الفلسطينيون عينيه وأوثقوه بالسلاسل وسجنوه، آمرين إياه أن يدير في سجنه حجر رحىً ثقيلاً. وبعد انتشاء الفلسطينيين بالنصر جاءوا بشمشون ليبهجهم بعروضه المسلية في أحد أعيادهم الوثنية، فدعا الأخير الرب ليساعده على الانتقام، وكان شعره قد نما على غفلة من أعدائه، حتى إذا أعاد الرب له قوته هتف من أعماقه «لتمتْ نفسي مع الفلسطينيين» ثم هدم الهيكل على نفسه، وعلى الآلاف الثلاثة من الفلسطينيين الذين لم ينجُ منهم أحد.

ولم تكن مثل هذه القصة الحافلة بالرموز لتسهوَ عن بال الشعراء والكتاب والفنانين، الذين تناولوها عبر التاريخ من زواياهم المختلفة، وأفردوا لها قصائد ولوحات وأعمالاً إبداعية كثيرة. ولم يَفُت منتجي هوليوود ومخرجيها الكبار استثمار هذه القصة المثيرة في المجال السينمائي، فتم استلهامها مرات ثلاثاً بين مطلع القرن الفائت ومنتصفه، إضافة إلى عشرات العروض المسرحية والموسيقية والأوبرالية.

أما في مجال الشعر فقد استند الشاعر الإنجليزي جون ميلتون إلى قصة شمشون ودليلة في عمله الدرامي «سامسون أغونيستس» الذي استلهم من خلاله التراجيديا الملحمية الإغريقية، مبتعداً عن قواعد المسرح الإليزابيثي وأعرافه. ومع أن ميلتون قد آثر الالتزام بالنص التوراتي، فإنه وهو المصاب بالعمى تماهى من نواحٍ عدة مع البطل العبري الذي سمل الفلسطينيون عينيه. على أن أكثر ما يستوقفنا كقراء هو قول دليلة لشمشون الغاضب والرافض للصفح بأن الفلسطينيين «سيمتدحونها عبر الأجيال»، كما لو أن ميلتون كان يستطلع، بحدسه الشعري الثاقب، مآلات الصراع الوجودي الذي لا نهاية له بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

وإذا كانت ثنائية الجمال والموت هي التي حكمت قصائد الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة في ديوانه «أفاعي الفردوس»، فقد بدت قصيدته «شمشون» ذروة الديوان وواسطة عقده الأهم. وإذا كان أبو شبكة قد اكتفى بإعادة تظهير الواقعة كما وردت في التوراة، نائياً بنفسه عن أي بعد قومي أو آيديولوجي، فلأن معاناته القاسية مع المرأة لم تمكنه من أن يرى في دليلة سوى واحدة من الرموز الأنثوية الأكثر دلالة على الخيانة والغدر. وهو إذ يتقمص شخصية شمشون المخدوع، يخاطب دليلة قائلاً:

ملّقيهِ بحسنكِ المأجورِ

وادفعيه للانتقام الكبيرِ

إنما الحسْن يا دليلةُ أفعى

كم سمعنا فحيحها في سرير

ملّقيهِ ففي ملاغمك الحمرِ

مساحيقُ معدنٍ مصهورِ

وارقصي إنما البراكين تغلي

تحت رجليكِ كالجحيم النذيرِ

وبينما يرى الباحث العراقي فاضل الربيعي، الذي يعمل على تفكيك البنية التاريخية للسرديات الدينية والميثولوجية، أن الحادثة برمتها ذات جذور يمنية سبئية، إذ إن اسم شمشون مشتق من الشمس، واسم دليلة مشتق من الليل، وأن الصراع في عمقه الرمزي هو صراع بين التقويمَين الشمسي والقمري، يرى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو القصة القديمة من منظور معاصر، محولاً عمله المسرحي «شمشون ودليلة» إلى مناسبة لوضع التاريخ على سكته الصحيحة. اللافت في عمل بسيسو أن عنوان المسرحية قد ظل غريباً عن سياقاتها حتى فصلها الأخير، حيث تتم على نحو مفاجئ إماطة اللثام عن الحقيقة المُرة. فالفلسطينيون المحشورون في عربة معطلة لم يعودوا يملكون، وقد أسفرت كل إشارات المرور عن لونها الأحمر، سوى قرارهم بإعلان الثورة دفاعاً عن هُويَّتهم المهددة بالامّحاء. أما سكان العربة الذين يتحكم بهم جبروت سائق حاقد ومبهم الملامح، فبينهم الأم والأب وابناهما عاصم مازن وريم، التي لم تستطع أثناء إجبارها على النزوح أن تميز بين طفلها يونس وصرة ثيابها، فتركت الأول وحملت الثانية، لتربي في داخلها مرارة الفقد وشهوة الانتصار على الجلاد.

وسرعان ما نكتشف أن من يمسك بزمام العربة هو شمشون الإسرائيلي الذي لا يكف عن تجديد وجهه الكالح من عصر إلى عصر، والذي يهتف بالفلسطينيين بنبرة هازئة:

هل تنتظرون دليلة؟

تكشف سرّي وتجزُّ ضفائر شَعري

تفقأ عينيَّ وتربطني كالثور أجرُّ الطاحون

عبثاً تنتظرون دليلة

أنتم في راحة كفّي

كلُّ قنابلكم تتفجر في داخل هذي الخوذة

كصواريخ الأطفال

وإذ يتابع النص المسرحي مفاجآته، تتقمص ريم شخصية دليلة الفلسطينية محذرة شمشون من التمادي في بطشه المتغطرس، ومبلغة إياه بأن دليلة الجديدة ستكون أكثر دهاءً من الأولى وأكثر شراسةً في الدفاع عن حقوق شعبها المهدورة. وفيما يُسمع من وراء العربة دوي الانفجارات وأزيز الرصاص، تتماهى ريم مع صورة الأرض نفسها، هاتفة بشمشون:

صار لنا دفتر يومياتٍ آخرُ يا شمشونْ

صرنا يا شمشونُ نوقّع فوق الأربطة البيضاء على الجرحِ،

الأربطةُ البيضاءُ تغطّي الأرض

فوق جبين الزيتونة صار رباطٌ أبيضُ،

والشمس ممرّضةٌ تسعى بين الجرحى