ذكريات : قصة لقائي بالبروفسور ألفريد لويس دو بريمار

ألفريد لويس دو بريمار
ألفريد لويس دو بريمار
TT

ذكريات : قصة لقائي بالبروفسور ألفريد لويس دو بريمار

ألفريد لويس دو بريمار
ألفريد لويس دو بريمار

كان ذلك قبل حوالي العشرين عاماً. كنت على موعد مع البروفسور ألفريد لويس دو بريمار، الأستاذ في جامعة إيكس آن بروفنس، قسم الدراسات العربية والإسلامية، وصاحب كتاب «تأسيس الإسلام بين الكتابة والتاريخ» الصادر بترجمته العربية عن دار الساقي عام 2009. كنت على موعد معه من أجل مناقشته حول هذا الكتاب وحول نظريته العامة عن التراث. بالمناسبة أنا مترجم هذا الكتاب المهم وليس الاسم المستعار الموضوع عليه: عيسى محاسبي. هذا سر أفشيه هنا للمرة الأولى. لقد تسرع الأستاذ جورج طرابيشي رحمه الله، ووضع هذا الاسم الوهمي عليه بعد أن وجدني متردداً أو متخوفاً قليلاً من التصريح باسمي الشخصي. كنا لا نزال آنذاك مرعوبين من الأصولية والأصوليين. ولماذا نكون مرعوبين والكتاب أكاديمي صرف من أعلى المستويات؟ والله مصيبة. أقسم بالله مصيبة. التراث المسيحي في الغرب يحظى بآلاف الدراسات النقدية التجديدية الحديثة ولا أحد يخاف عليه منها. بل إنه يزداد بعدها تألقاً وسطوعاً. أما نحن فممنوع منعاً باتاً أن تقول كلمة واحدة عن التراث، ما عدا تلك التي يقولها عنه التقليديون الذين أكل عليهم الدهر وشرب. كيف يمكن أن نتحلحل، أن نتقدم، في مثل هذا الجو؟ هل كتب علينا الجمود والخمود إلى أبد الدهر؟ هل كتب علينا التكرار والاجترار إلى ما لا نهاية؟ هنا يكمن الانسداد التاريخي الأعظم للعرب. لهذا السبب انخرطنا في دراسات تنويرية عن التراث، وعشنا لحظات غليان ثقافي حقيقي في بدايات هذا القرن. كان ذلك أيام «المؤسسة العربية للتحديث الفكري» التي أسسها محمد عبد المطلب الهوني وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وبقية أقطاب التنوير العربي الإسلامي. ولا ننسى العفيف الأخضر الذي اعتنق فلسفة الأنوار، ولم ينبطح أمام موجة الإسلام السياسي أو المسيس حتى عندما كانت في أوج صعودها وجبروتها. وهي المؤسسة التي حاولت فك الانسداد التاريخي أو فتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود. ولأجل ذلك فقد عقدت مؤتمراً ضخماً للمثقفين العرب في بيروت عام 2004، وحققت بعض الإنجازات التي لا يستهان بها ترجمة وكتابة بعد أن تحولت إلى ما يدعى بـ«رابطة العقلانيين العرب» على يد طرابيشي ورجاء بن سلامة والدكتور الهوني ذاته إلخ. كانت تلك لحظة إشراقية رائعة في بحر من الظلمات. وقد استغرقت مني ترجمة هذا الكتاب الأكاديمي مدة سنتين تقريباً. وكنت على تواصل مستمر مع البروفسور دو بريمار، حيث ساعدني بنصائحه وإرشاداته ووثائقه التراثية على إكمالها على أفضل وجه ممكن.
لكن بعد هذه الديباجة المستفيضة دعونا ندخل في صلب الموضوع. بعد أن استقبلني المستشرق الكبير في محطة آفينيون للقطارات، وهي محطة فاجأتني بحداثتها الصارخة أنا القادم من باريس ذهبنا للغداء في مطعم ضائع وسط الحقول... آه، ما أجمل أن تكون بعيداً عن باريس مديراً ظهرك لضجيج العواصم! كنا وحدنا في مطعم كبير يتسم بالعراقة الفرنسية ويتسع لمائة شخص على الأقل. كنا اثنين فقط وحولنا حشد من المضيفين والمضيفات الذين يهتمون بنا ويحرصون على راحتنا. كيف يمكن أن تجد مثل هذه التبجيل والتعظيم في باريس؟ مستحيل. بالكاد يخدمونك، أو يشعرون بوجودك. وحولك يخيم الهدوء المريح وظلال الأشجار العملاقة العتيقة وسكينة الريف الفرنسي. قلت للبروفسور دوبريمار: الناس لا يعيشون في باريس، الناس ينهبون الحياة نهباً، أو قل إن الحياة تنهبهم وتستهلكهم وتستنفدهم. الناس يتسابقون تحت الأرض وفوق الأرض كالنمل. هل هذه حياة؟

                                                      بترارك
في نهاية الوجبة خطرت على بالي فكرة. كنت أعرف أن بيت الشاعر الكبير رينيه شار موجود في المنطقة، ولكن كنت أخشى أن يكون بعيداً جداً، وأن أكلف مضيفي ما لا طاقة له به. ومع ذلك فقد تجرأت وسألته: أين توجد مدينة ليل سور لاسورغ يا ترى؟ وحكيت له القصة قائلاً بأني كنت أحلم بزيارتها منذ زمن طويل لكي أرى المكان الذي عاش فيه هذا الشاعر الذي هجر باريس كلها من أجله. وكنت بشكل خاص أريد أن أرى نهر السورغ الذي يخترق المدينة، والذي خلده الشاعر الكبير بقصيدة عصماء. وفوجئت بالسيد دوبريمار ينهض فوراً ويقول لي: تعال معي، إنها على مبعدة عشر دقائق فقط بالسيارة. وكانت المفاجأة كبيرة... وهكذا شاهدت المدينة والنهر الجميل الذي يخلع عليها سحرها الفتان. لن أترجم هنا حرفاً واحداً من تلك القصيدة الشهيرة لأنها عمودية مقفاة، وبالتالي فأخشى أن أقتلها إذا ما ترجمتها. لو كانت قصيدة نثر لفعلت ذلك، ولكن المغامرة هنا غير مضمونة العواقب. وربما أثارت الضحك والسخرية. من يستطيع أن يترجم الشعر؟ كان جان بول سارتر يقول: الشعر لا يترجم. انتهى الموضوع.
في طريق العودة إلى البيت، أشار البروفسور دو بريمار بيده من نافذة السيارة إلى إحدى المناطق البعيدة قائلاً لي: هناك يوجد المنتجع الذي كان يختلي فيه شاعر النهضة الإيطالية بيترارك. قلت له: أرجوك، توقف! هل يمكننا أن نزوره؟ ضحك وقال: نعم يمكننا، ثم أردف قائلاً: ما كنت أعرف أنك تحب الطبيعة إلى مثل هذا الحد.
وهكذا عرجنا على تلك المنطقة الفاتنة التي كان يقصدها بيترارك، وكانت أجمل من مدينة رينيه شار. كان جمالها من النوع الذي يخطف الأبصار. وتمنيت لو بقيت هناك دهراً. نهر غزير يرحب بك ويسيل تحت قدميك في منطقة أشجار وغابات وجبال وشلالات. إنه عرس الطبيعة... لا تكاد ترى السماء فوقك. ولكن هناك صخرة معلقة كالقرص المدور في أعلى الجبل أقلقتني. قلت له: ألن تسقط على رأسنا يا ترى إذا ما تابعنا السير في الوادي حتى نصبح تحتها بالضبط؟ فأجاب: على حد علمي فإنها موجودة هنا منذ عشرات القرون ولم تسقط على رأس أحد حتى الآن... ثم أضاف: عندما كانت تصيب بيترارك نوائب الدهر كان يلجأ إلى هنا لكي يتسلى، لكي ينسى، لكي يتعزى:
يغتلي فيهم ارتيابي حتى
تتقراهم يداي بلمس
هنا كان يتذكر «لورا» تلك المرأة الإشعاعية التي لمح وجهها يوماً ما وهي خارجة من الكنيسة في مدينة آفينيون فخر على وجهه صاعقاً مصعوقاً. مبالغات وتهويلات؟ بالكاد. من يعرف متى تسقط عليه صاعقة الحب؟ من يعرف متى يصيبه الحب بالضربة القاضية؟ وهو شيء لا يحصل إلا مرة واحدة في العمر هذا إذا ما حصل. لا تطمعوا بأكثر من ذلك. هيهات! وعندما يحصل تشعر وكأن أبواب الجنة قد فتحت أمامك على مصراعيها... لقد كان حب بيترارك للورا عذرياً خالصاً مثل حب مجنون ليلى أو جميل بثينة أو ذو الرمة ومي، إلخ. وذلك لأنها كانت متزوجة وهو لم يكن يريد منها شيئاً. كان يريد فقط أن يلمحها من وقت لآخر.

                                                             رينيه شار
ثم ماتت لورا وهي في عز الشباب وتحولت إلى أسطورة ملائكية. وظل يناجيها ويكتب لها الأشعار حتى آخر لحظة في حياته. وكان واثقاً أنه سيلقاها في العالم الآخر، حيث لا منغصات ولا تعقيدات، حيث الأبدية والخلود:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم
في موقف الحشر نلقاكم وتلقونا
صاحبكم المسكين التعيس ابن زيدون ما غيره! هو الآخر أيضاً كان مفجوعاً ويحلم برؤية ولادة يوم القيامة بعد أن كانت قد لوعته ومسحت به الأرض مسحاً... ولكن يقال بأنها غيرت موقفها وندمت على ما فات بدليل قولها هذين البيتين:
أغار عليك من نفسي ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني وضعتك في جفوني
إلى يوم القيامة ما كفاني
في الواقع أن بيترارك كان شخصية خصبة تعج بالمتناقضات. فهو قد ولد عام 1304 ومات عام 1379: أي في فترة متذبذبة لم تكن فيها العصور الوسطى قد ماتت بعد، ولا العصور الحديثة قد ولدت بعد. وهي فترات تنجب عادة شخصيات متمزقة ومنقسمة على نفسها تماماً كالعصر العربي الإسلامي الذي نعيشه نحن اليوم. إنه عصر انتقال وقطيعة ونزيف داخلي حاد. لقد كان بيترارك متمزقاً بين الماضي والحاضر، بين المسيحية والوثنية، بين المتع الحسية والزهد الناسك، بين الشعر والنثر... كان شرهاً منخرطاً في شهوات هذا العالم إلى أقصى الحدود في بدايات شبابه الأول، وذلك قبل أن تصيبه الأزمة النفسية التي حولته فيما بعد إلى زاهد، ناسك، متوحد. وكان ناشطاً سياسياً لا يتردد في لعب الأدوار الخطرة وأداء المهمات السرية التي توكل إليه من قبل الأمراء والبابوات والملوك. كان محاطاً بالأصدقاء والمعجبين، وكان بيته دائماً مليئاً يعج بالبشر. ومع ذلك فكان يشعر بالوحدة أو الوحشة التي تكتسحه من الداخل اكتساحاً. كان يقول هذه العبارة الرائعة التي شفتني وعالجتني: أشعر دائماً بعطش في قلبي! ما كان يستطيع التوفيق بسهولة بين إيمانه الديني العميق من جهة، وبين شغفه بالحضارة اليونانية - الرومانية الوثنية السابقة على المسيحية من جهة أخرى. باختصار شديد: كان قلبه في جهة، وعقله في جهة أخرى. رفقاً بالأرواح الحائرة، بالأجنحة المتكسرة!



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.