هل طردت الذكورة المرأة من جنة الفلسفة؟

فيلسوفات كثيرات عبر التاريخ لم يصل نتاجهن إلينا

حنا أرندت
حنا أرندت
TT

هل طردت الذكورة المرأة من جنة الفلسفة؟

حنا أرندت
حنا أرندت

يا ترى أين هن الفيلسوفات-النساء في تاريخ البشرية الفكري العريق؟ هكذا باغتني السؤال الجارح وأنا في أثينا أتأمل عن قرب تفاصيل السامبوزيوم، وأكاد أسمع أصوات المحاوِرات والمحاورين تسكن المكان الجميل وتحاصره من الجهات الأربع... أينهن؟ أين اختفت آثارهن؟ وقبل ذلك هذه تيانو Théano الفيلسوفة، كيف التحقق من آثارها وهي التي عاصرت فيثاغورس في القرن السادس ق.م بأثينا، وكانت من جلساء حلقاته الأوائل ومن مريديه والمقربين إليه حتى ظن البعض أنها زوجته. ولأهمية حضورها وتميزها في نقاشاتها وطرق طرح أفكارها قيل إنها سليلة الفيلسوف برونتينوس Prontinos. في كل الأحوال إنه من الصعب التغاضي عما أضافته تيانو لجلساء فيثاغورس في فن المحاورة وطقوس الحلقة الفكرية، لكن مع الأسف ليست هناك من مادة غزيرة ملموسة ومكتوبة تؤكد ذلك، بل حتى النصوص القليلة التي عبرت الزمن ما زالت مشكوك في صحتها وتوثيقها، ثم ليس هذا فحسب؛ إذ إن اسم «تيانو» لم يعد يحيل عليها وحدها، بعد أن ورد كثيراً للدلالة على نساء فيلسوفات أخريات جئن بعدها، وساهمن بدورهن في إثراء المناخ الفلسفي منذ القرن السادس ق.م وما بعده. قد نفهم من ذلك أن هذا مؤشر على القيمة الفلسفية والتاريخية لما أبدعته تيانو ولم يصل إلينا، وقد يدل أيضاً على وجود نوعي وعددي لفيلسوفات أخريات كثيرات لمعن بحضورهن الفكري ومحاوراتهن في المجالس الفلسفية المختلفة إلا أن إقصاء أسمائهن كان مقصوداً، فأُهملت أسماؤهن وتسربت أفكارهن إلى كتب زملائهن، فأُطلق عليهن جميعهن اسم تيانو. أُلحقن بها. ربما تجنباً للتعدد. لم تكن أحسن حظاً منهن. كلّهُن في واحدة وواحدة في كلّهِن... فوُضعن جميعهن في سلة واحدة هي «تيانو» لتمثل «الفلسفة النسوية»، أو ما يشبه الأدب النسوي... فـ«تيانو» واحدة تكفي...

مدام دي ستايل

أين الفيلسوفات... أين كتاباتهن؟ وهل من الحتمي أن يكتبن لكي يوجدن في الذاكرة الإنسانية الجماعية؟ فهذا سقراط لم يخطّ حرفاً، ولا بوذا ولا أبيكتيتوس Epictète... إلا أن «الحظ» ساق مَن جاء بعدهم ليكتبوا لهم وعنهم، وليدوّنوا فلسفتهم. ماذا لو أن الفيلسوف سقراط (470 - 399 ق.م)، لو أن أبا الفلسفة هذا كتب شيئاً بنفسه. لو أنه ترك أثراً مباشراً، بدلاً من أن يفعل ذلك تلميذه أفلاطون عنه من بعده، أفلاطون الذي يحطّ من قيمة النساء؟ مَن يدري ربما كان سقراط قد حدّثنا عن تلك الفيلسوفة التي عاصرته فملأت الدنيا وشغلته، وشغلت الناس بذكائها وفطنتها وحديثها وأفكارها، إنها أسباسيا Aspasia. لو أن سقراط، على الرغم من موقفه الغريب ذاك -حين طلب أن تفرغ قاعة تنفيذ محاكمته من النساء- وقد تعددت القراءات لأمره ذاك، لو أنه أرّخ لحياته بنفسه، وترك أثراً مباشراً، لربما كان أبلغنا عن إعجابه الشديد بعقل أسباسيا، وأخبرنا عن حضوره وحواراته ونقاشاته بمجلسها العامر أو «صالون» أسباسيا الفلسفي بمصطلحنا المعاصر، أسباسيا، تلك الفيلسوفة، لم تكن محطّ إعجاب سقراط فقط بل أيضاً محطّ إعجاب الوسط العالم آنذاك كله. لم يكن الفيلسوف سقراط يُخْفي دهشته بعقلها النيّر وثقافتها ومحادثاتها، بل أكثر من ذلك كان يفضّلها على محاوريه ومريديه في جلساته الفلسفية الحوارية العلنية الشهيرة. كانت أسباسيا تنعم بحب عارم وباحترام من طرف زوجها بيريكلس Périclès، الرجل القوي في عصر كان اليونان فيه قوياً. بريكليس الذي تزعم هو أيضاً الحياة الثقافية والسياسية وحاذى كبارها من سقراط إلى هيرودوت إلى سوفوكلس... لكن أين ذهبت أفكار أسباسيا وآراؤها وعصارة تفكيرها؟
لم يكتب سقراط شيئاً، إلا أن أفلاطون، إلى جانب غسينوفون Xénophon وأوكليد دي ميغار Euclide de Mégare وآخرين، كان أكثرهم اهتماما بكتابة أثر معلمهم سقراط بعد أن أُعدم بجرعة السم بسبب آرائه. لكنّ أفلاطون وقد وصل الإنسان في زمنه إلى درجة التجريد العقلي، كيف جاءته الفكرة أن يمحو من الأثر أصوات هؤلاء النساء، ويطمس وجودهن وعلى رأسهن أسباسيا، ومحا أثر هؤلاء اللواتي كن يناقشن ويسائلن في ماهية علاقة الإنسان بالأشياء، وعلاقة الأشياء القائمة فيما بينها، ويناقشن الأفكار بل ويبدعن أخرى؟ كيف طاوعه عقله أن يتجاهل ما أثرين به المحاورات بذكاء عالٍ وفطنة ودقة وخصوصية؟ لم يعد يجدي أن نعاتب أفلاطون، ولا معاتبة تلميذه أرسطو الذي ذهب أبعد من معلمه في التقليل من قيمة عقل المرأة، ولم يتردد في تصريحه الأبعد بأن النساء هن أقل شأناً من الرجال وهن أقرب إلى الأطفال أو الدواب. وتتدحرج الفكرة لتصل إلى ملبرانش Malbranche، مريد آخر للفيلسوف ديكارت، ليزيد الطين بلة، فلا يتردد في محاولته البرهان على أن عقل المرأة الذي يتفتق ذكاءً عندما يتعلق الأمر بالأحاسيس إلا أنه لا يمكنه أن يُنتج الفلسفة بسبب عدم قدرته على استيعاب كل ما هو مجرد!
ربما لم يخطر على بال الفيلسوف نكولا مالبرانش، أن نابليون الذي سيأتي بعد رحيله بأربعة وأربعين عاماً وسيكون أقوى الأقوياء، ستشكّل له سيدة فيلسوفة هوساً حقيقياً. إنها مدام دي ستايل، وسيطاردها ويدفع بها للهجرة والاغتراب، ويجعل السبل تضيق بها... كل ذلك من أجل أن يتخلص من أفكارها وكتاباتها. ما جعله يصرح بأنه يعدّها عدوة له، بل واحدة من أعدائه الأربعة اللدودين: روسيا وبروسيا وإنجلترا ومدام دي ستايل... نعم إنها مدام دي ستايل. امرأة عقلُها سبق دوركايم وكامو في كثير من الأطروحات الفلسفية، ويجري على الألسن أيضاً ما يخبرنا بأن نيتشه غرَف كثيراً في أفكاره من نبعها. إنها مدام دي ستايل قوة الضعف! هي المرأة الفيلسوفة الروائية. المرأة التي تفكر وتتساءل وتكتب وتصنع التاريخ. ليس من العدل أن تحضر في التاريخ البشري أسماء مقاومات وثائرات وأديبات ومغنيات... ثم لا تحتفظ الذاكرة الفلسفية لأوروبا وتاريخها الفكري إلا ببعض أسماء قليلة لفيلسوفات مثل: سيمون دي بوفوار Simone de Beauvoir، وآنا آرندت Hannah Arendt، وسيمون فاي Simone Veil، وثلاثتهن من قرن واحد وزمن واحد.

سيمون دو بوفوار

أين هن الفيلسوفات في سجل الحضارات الإنسانية المختلفة والمتعاقبة؟ لا بأس، أغلب الظن أنهن كثيرات، فعلى سبيل المثال هذه الباحثة ريجين بيترا Régine Pietra أحصت بعضهن في كتابها «النساء الفيلسوفات في العصور القديمة الإغريقية الرومانية» فذكرت ستة وأربعين اسماً لنساء فيلسوفات ومن مدارس مختلفة لفيثاغورس أو أبيقور أو غيرهما، كما أحصى الباحث جيل ميناج Gilles Ménage في كتابه «تاريخ النساء الفيلسوفات» ستة وخمسين اسماً مؤثراً ولامعاً.
أين الفيلسوفات إذن؟ أين فكرهن وكتاباتهن التي كنّ يبهرن بها الخطباء والمحدّثين والجُلساء من الفلاسفة في أرقى المجالس المتنوعة؟ هل استولى عليها الذكور من «الفلاسفة» أو طمسها «الذكور» من مؤرخي الفلسفة؟ أو هل تم إلحاقها وضمّها وتأميمها داخل مؤلفات الأسماء الذكورية؟ هل سرقوا منهن أفكارهن ثم سلّموا أسماءهن وتاريخهن بالكامل للنسيان؟ هل هي عادة عنصرية «جنساوية» عُرفت منذ أقدم العصور، وتعمّقت وانتشرت مع الزمن والمتمثلة في: السخرية من عقل المرأة، واستصغار ما تقوله وما تكتبه وما تقوم به، والإصرار على نعتها بالعقم الفكري حتى يسهل على الآخر «المذكر» الاستيلاء على أفكارها بكل يسر ودون محاكمة تاريخية ولا فضائح؟ أليست الفلسفة في جوهرها تقوم على محاربة اللاعدل، فكيف لا يسجّل أن رفيقة أينشتاين كانت ذكية جداً وساعدته كثيراً، وأن إيميلي دو شاتلي Emilie de châtelet ذات العقل النير قد استقى من نبع أفكارها الفيلسوف الألماني إمانويل كانط، حد التشابه، وذلك فيما توصلت إليه حول مساهمات نظرية الفيزياء في الفلسفة؟ أين نتاج عقول الفيلسوفات من النساء؟ هل نبحث عنه في كتب الفلاسفة من الرجال؟!

* كاتبة جزائرية



«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد
TT

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر»... مختارات لأفضال أحمد سيد

«اخترعت الشعر» عنوان لافت لمختارات نقلها عن الأردية المترجم هاني السعيد للشاعر الباكستاني أفضال أحمد سيد الذي يُعد أحد رواد قصيدة النثر في باكستان. وصدر الكتاب حديثاً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «آفاق عالمية» بالقاهرة.

يقول الشاعر، في كلمته التي كتبها خصوصاً بمناسبة صدور هذه الترجمة العربية الأولى لقصائده، إن «هذا الحدث المبهج» أعاد إلى ذاكرته تلك الأيام التي تعرف فيها للمرة الأولى إلى الشعراء العرب فصار أسيراً لسحرهم ومغامراتهم الشعرية مثل امرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي... وغيرهم.

ويذكر أفضال أن لمسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية علاقة خاصة باللغة والثقافة العربيتين، وهذا هو السبب في أن الترجمات الأردية للشعراء والكتّاب العرب تحظى بشعبية كبيرة لدى القراء الباكستانيين وخاصة الأسماء المشهورة مثل أدونيس ومحمود درويش ونزار قباني وفدوى طوقان، فضلاً عن الروائيين نجيب محفوظ والطيب صالح ويوسف زيدان.

وأشار إلى أنه حين كان طالباً في الجامعة الأميركية ببيروت في الفترة من سنة 1974 إلى 1976، أتيحت له فرصة ثمينة للتعرف المباشر إلى الثقافة العربية التي وصفها بـ«العظيمة»، وهو ما تعزز حين سافر إلى مصر مرتين فأقام بالقاهرة والإسكندرية والسويس ودمياط، حيث لا يمكن له أن ينسى مشهداً ساحراً وهو التقاء النيل بالبحر المتوسط في منطقة اللسان بمدينة رأس البر التابعة لدمياط. وضمن سياق القصيدة التي تحمل عنوان الكتاب يقول الشاعر في مستهل مختاراته:

«اخترع المغاربة الورق

الفينيقيون الحروف

واخترعت أنا الشعر

اخترع الحب القلب

صنع القلب الخيمة والمراكب

وطوى أقاصي البقاع

بعت أنا الشعر كله

واشتريت النار

وأحرقت يد القهر».

وفي قصيدة بعنوان «الهبوط من تل الزعتر»، يرسم الشاعر صورة مثيرة للحزن والشجن لذاتٍ مُمزّقة تعاني الفقد وانعدام الجذور قائلاً:

«أنا قطعة الغيم

المربوطة بحجر

والملقاة للغرق

ليس لي قبر عائلي

من أسرة مرتزقة

عادتها الموت

بعيداً عن الوطن».

ويصف تجليات الحرب مع الذات والآخرين في نص آخر بعنوان «لم يتم منحي حياة بكل هذه الوفرة»، قائلاً:

«وصلتني أنهاري عبر صفوف الأعداء

فشربت دائماً بقايا حثالات الآخرين

اضطررت إلى التخلي عن موسم فارغ للأمطار

من ترك وصية لي

لأعرف ما إذا كان

هو نفسه الذي كانت تحمله امرأة بين ذراعيها وهي تتوسل إلى الخيالة

والتي بقيت طوال حياتها

تحاول حماية وجهها

من البخار المتصاعد من خياشيم الخيل

لا أعرف ما إذا كان

هو نفسه

الذي ربطته أمه في المهد».

وتتجلى أجواء السجن، نفسياً ومادياً، والتوق إلى الحرية بمعناها الإنساني الشامل في قصيدة «إن استطاع أحد أن يتذكرني»؛ حيث يقول الشاعر:

«حل الشتاء

صدر مجدداً الإعلان

عن صرف بطاطين صوف للمساجين

تغير طول الليالي

وعرضها ووزنها

لكنّ ثمة حُلماً يراودني كل ليلة

أنه يتم ضبطي وأنا أهرب من بين القضبان

أثناء تغير الفصول

في الوقت الذي لا يمكن أسره بمقياس

أقرأ أنا قصيدة».

وأفضال أحمد سيد شاعر ومترجم باكستاني معاصر، ولد في 26 سبتمبر (أيلول) 1946 في غازي بور التابعة لمقاطعة أتربرديش بالهند، قبل تقسيم الهند وباكستان وبنغلاديش؛ حيث بدأ فيها أيضاً حياته المهنية بالعمل في وزارة الزراعة الائتلافية هناك وعند تقسيم باكستان وبنغلاديش 1971، انتقل مع أسرته إلى مدينة كراتشي الباكستانية.

بدأ أفضال كتابة الشعر 1976 وأصدر 5 مجموعات شعرية هي «تاريخ منتحل» 1984، «خيمة سوداء» 1986، «الإعدام في لغتين» 1990، «الروكوكو وعوالم أخرى» 2000، ثم أصدرها مجمعة باعتبارها أعماله الشعرية الكاملة 2009 بعنوان «منجم الطين»، كما أصدر في مطلع 2020 كتاباً يضم قصائده الأولى في الغزل.

وتمثل أغلب قصائده طفرة نوعية في قصيدة النثر الأردية التي ما زالت تعاني من الرفض والتهميش إلى حد كبير لحساب فن الغزل بمفهومه الفارسي والأردي التقليدي الذي ما زال مهيمناً بقوة في شبه القارة الهندية.

ترجم أفضال أعمالاً عن الإنجليزية والفارسية وهو من أوائل من ترجموا لغابرييل غارثيا ماركيز وجان جينيه، كما أصدر في مطلع 2020 ترجمته لمختارات من الشعر الفارسي.

درس أفضال أحمد سيد ماجستير في علم الحشرات بالجامعة الأميركية ببيروت بين عامي 1974 و1976، وذلك في بعثة علمية من الحكومة الائتلافية الباكستانية، فشهد الحرب الأهلية اللبنانية في أثناء إقامته هناك.

يعمل حالياً أستاذاً مساعداً في جامعة حبيب بكراتشي، وهو متزوج من الشاعرة الباكستانية البارزة تنوير أنجم.