رسالة حب إلى الكلمة المطبوعة

اكتسب الكتاب دلالة مساوية للحياة أو الموت في المعركة بين الليبرالية والشمولية

رسالة حب إلى الكلمة المطبوعة
TT

رسالة حب إلى الكلمة المطبوعة

رسالة حب إلى الكلمة المطبوعة

عُرفت إيما سمث، من حيث هي متخصصة في شكسبير، من خلال اشتغالها على المطوية الأولى (folio) من أعماله، وهي نسخة اكتشفت حديثاً قامت سمث بتحقيقها عام 2016، غير أنها عرفت على نطاق أوسع حين نشرت كتابها «هذا هو شكسبير» (2019) الذي أمتع غير المختصين بما تضمنه من نظرات مرهفة، ولكن غير المجاملة، إلى المسرحيات. تأسس ذلك الكتاب على سلسلة محاضرات/بودكاست، وتعود جذوره إلى الحيوية التي تمتع بها الصوت الأدبي السهل المتناول.
وتتضح موهبتها في التعبير عن المسائل المعقدة بنثر عادي يتسم بعدم التوقير أحياناً في كتاب «السحر المحمول» الذي يحوّل مجالاً أكاديمياً كالببليوغرافيا إلى عالم مدهش. إنه رغم العنوان الجانبي ليس بالتاريخ التقليدي، حيث السرد التسلسلي. هو بدلاً من ذلك سلسلة من المقالات المتتابعة المتأسسة على دراسة حالات متعينة تستكشف فيها سمث ما تسميه «الكتابية»: وهو مفهوم يتركز على الثقافة المحسوسة للكتاب، بينما هو يوضح كيف تشتبك مع رغبة الإنسان وتطلعاته وقدرته.
مساحة الإحالات هائلة. نحن مرة في كوريا، حيث طباعة الكتب بنماذج معدنية متحركة سبقت طباعة غوتنبرغ للكتاب المقدس بزمن طويل. ثم نحن بعد ذلك في مكتبة إزلنغتن العامة (في لندن) حيث تعرض بتباهٍ المجلدات التي شوهتها إضافات دون سوريالية تركها في ستينات القرن الماضي الكاتب المسرحي جو أورتُن وصديقه كينيث هولويل بوصفها كنوزاً فنية – وكانا قد سجنا وقتها نتيجة لمحاولاتهما.
في قضية أورتون حكم القاضي بأن التدخلات اللعوبة التي قام بها المتهمان – التي تضمنت إلصاق صورة قرد على وردة في كتيب للبستنة – «كارثية». اعتقاد كهذا بحرمة الكتاب تعطي مصداقية لما عبر عنه أحد الأفارقة حين قال إن الكتب هي «صنم الرجل الأبيض». لا يمكنك أن تقلل من أهمية القوة التي يمتلكها الكتاب في الثقافة الغربية. بعد أن رسخت أهميته المسيحية، اكتسب دلالة مساوية للحياة أو الموت في المعركة بين الليبرالية والشمولية في القرن العشرين. ومع ذلك فإن الكلمتين اللاتينيتين «ليبِر» (liber أي كتاب) و«ليبِر» (liber أي حر) صديقتان غير مخلصتين للأسف، على الأقل من حيث جذور الكلمات.
«ليست الكتب أشياء ميتة تماماً وإنما تحمل داخلها طاقة للحياة» بتعبير الشاعر الإنجليزي ملتون في كتابه «أريوباجيتيكا» (1644). بالنسبة لسمث «تقع تلك الحياة في شكل الكتب كما في مضمونها الميتافيزيقي». تذكرنا بأن قراءة كتاب تجربة حسية حميمة، وليست النقل المجرد للمعلومات إلى عقولنا. نمسك الكتاب، نلمسه، أحياناً نشمه (طوّر أمناء المكتبات جدول روائح لتصنيف الخصائص الشميّة للكتب العتيقة). تسير الكتب والأجساد معاً.
«الأعمدة الفقرية» للكتب، الشبيهة بما لدى الإنسان، تجعلها تبدو كما لو كانت توأماً لنا، لكن أعمارها الطويلة يمكن لها أن تبرز – وتهدم – أعمارنا. في القرن الثامن وضع كتاب في تابوت القديس كثبرت أوف لندسفارن: كانت نسخة جميلة باللاتينية من الكتاب المقدس خطها كاتب بيده، وجدلت بجلد الماعز الأحمر المشغول باليد، وهي الآن في المكتبة البريطانية. صورة مقابلة ومثيرة للشفقة نجدها لدى شخص يسمى السيد جون أندروود: وضع جثمانه مع عدة كتب عام 1733 ومن بينها كتاب «بنتلي عن هوراس تحت مؤخرته».
ما يقلق أكثر من غيره هو فصل من كتاب سمث حول تجليد الكتب بالجلد البشري الذي كان يُظن من قبل أنه مزيف، انسجاماً مع التخيلات القوطية. غير أن تحاليل حديثة لـ«دي إن أيه» (DNA) أثبتت أن العديد من النماذج المعروفة حقيقية فعلاً، ومن تلك كتاب مدرسي أميركي في الأمراض النسوية عليه تجليد من فخذ ميري لنتش، وهي مهاجرة آيرلندية فقيرة توفيت في التاسعة والعشرين من عمرها بمرض السل. حين تبدأ سمث بالبحث في مسألة العرق يتسلط المزيد من الضوء على الإيحاءات المقلقة أخلاقياً.
في عام 1932، وهو تاريخ قريب، أعلنت نسخة من السيرة التي كتبها ديل كارنيغي لأبراهام لنكون على ظهر الكتاب أنها مزينة بقطعة من «جلد مأخوذ من مقدمة ساق زنجي في مستشفى بالتيمور دبغته شركة جيوِل بيلتنغ». إن من الصعب تخيل الكيفية التي يمكن لك بها أن تجعل الفكرة أكثر إثارة للاشمئزاز، باستثناء ما أضيف من إعلان عن الماركة.
جزآن من أعمال الشاعرة الأميركية (السوداء) فيليس ويتلي، من القرن الثامن عشر، موجودان حالياً في مكتبات سنسِناتي (بولاية أوهايو)، مجلدان بجلد بشري. وليس السبب واضحاً وراء ذلك – المالك الأصلي للمجلدين ذُكر أنه أبيض وحريص على جمع الأدب الأميركي الأسود. غير أن العنصرية، لا سيما إن كانت غير مقصودة، تهبط إلى أعماق لا عقلانية وتتخذ صوراً متعددة. ربما نميل إلى النظر إلى ثقافة الكتب على أنها متفوقة أخلاقياً وعقلانياً لكن جذورها معقدة على كل المستويات.
بعض الفصول المتميزة في كتاب سمث تستكشف التاريخ النشري لكتاب «كفاحي». الطبعة الأولى المنشورة في جزأين ما بين 1925 و1926 حققت مبيعات بطيئة، ورغم وجود الصليب المعقوف على ظهر الكتاب، فقد عرض بطريقة متواضعة بعنوان تقليدي مزخرف مناسب لتلك الفترة. وحين تولى النازيون السلطة ظهرت نسخة للتسويق الجماهيري، وإن جاءت بصورة أكثر فخامة، مجلدة بنوعين من الجلد مع حروف مذهبة بالخط القوطي على الواجهة، وتقدم هدية زواج مجانية تحت نظر الرايخ الثالث. وإلى جانب المساحة الخالية لإضافة اسمي الزوجين السعيدين، كان مع النسخة علبة لحفظها، مثلما هو كتاب الصلاة.
ثم في عام 1941 تَقرَّر فجأة أن الخط القوطي، الذي زُين به الكتاب في السابق، كان في الحقيقة اختراعاً يهودياً، لذا قرروا تغيير الخط. في فترتنا الحالية، أعيدت طباعة «كفاحي» طبعة أكاديمية محاطة بهوامش توضيحية وتعليق. هل أدى وضعه في ذلك السياق، الذي قصد به تحييد الكتاب، إلى منحه سلطة مخادعة دون قصد؟
من الواضح أن سمث محبة متحمسة للكتب، وأن الكتب تعني لها أكثر مما تحتويه، لكن «السحر المحمول» بعيد عن أن يكون رسالة حب غير عاطفية إلى الكتاب.
معرفة سمث العلمية تجعلها تدرك أن الكتاب يمكن أن يكون خطراً بقدر ما هو خيّر. في كتاب «هذا هو شكسبير» أكدت قدرة الشاعر الكبير الخارقة على ما سمته «الفجواتية»، وما سمّاه كيتس «الاستطاعة السلبية» – أي القدرة على التعايش مع الشكوك وألوان الغموض والشعور كم هو مهم ذلك لفهم واقع وضعنا الإنساني.
تكمن عبقرية سمث بوصفها وبوضوح عاشقة للكتب في مساءلتها لكل تناقض كما في إدراك قيمة ذلك وتسجيله – وفي جعلك، أيها القارئ، تفكر دون حتى أن يخطر ببالك أنك تفكر. تحفظي الوحيد هو على أن حماستها التي تصيب بالعدوى تجعل حججها – التي تشتغل عبر ربط الأفكار – تبدو وكأنها تلهث، ربما نتيجة للفقرات الأطول من المعتاد.

* المصدر: ذا كرتيك The Critic word/-printed-the-to-letter-2022/love-https://thecritic.co.uk/issues/may



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!