«شرطة الذاكرة»... كيف تمنع تأليف القصص والحكايات؟

اليابانية «أوغاوا» تخترع عالماً لم نعد نمتلكه

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«شرطة الذاكرة»... كيف تمنع تأليف القصص والحكايات؟

غلاف الرواية
غلاف الرواية

في رواية اليابانية يوكو أوغاوا شرطة الذاكرة، «الآداب: 2021» ثمة عالمان متضادان يطرد أحدهما الآخر. عالم رجال الشرطة المطارين للذكريات، وعالم فاقدي الأشياء وذكرياتهم عنها. يمكننا أن نختصر المشهد فنتحدث عن عالمي الذاكرة ونقيضه الأبدي النسيان. أظن أن هذا الاختصار يفيد ويرضي المشتغلين بسرديات التذكر، ولا بأس؛ لكن هذا الاختصار يبعدنا عن عالم الرواية واشتغالاتها المبهرة الخاصة برغبة الفرد الأعزل بمقاومة النسيان، وهو، برأيي، جوهر العالم السردي في الرواية. تفتح الراوية / الكاتبة عينها على عالم أمها الزائل، عالم الأشياء المختفية، يقابله ويوازيه عالم آخر سيأخذ بالتشكِّل لاحقاً. إنه عالم الرواية المتخيل الذي تعكف الكاتبة / الراوية على تشييده أمامنا بصفة مخطوط. العالمان المتخيلان يؤلفان، معاً، الصياغة السردية لمقولة النسيان؛ بالضبط كيف نكتب عن عالم، عالمنا ولا شك، لم نعد قادرين على تذكَّر أشيائه؟

- أي ذاكرة... أي نسيان؟
لكن «شرطة» الذاكرة لا تبني عوالمها باستدعاء أو تذكّر ماضٍ سعيد أو تعيس، إنها رواية عن الفقدان التدريجي للماضي وعوالمه. وهي كذلك رواية عن الأشياء المختفية، عن ذلك الفقدان المفاجئ والمؤلم لموجودات العالم المحيط بنا. والمفارقة أن الرواية يصلنا عالمها السردي عبر «راوية: لا نعرف اسمها» لا تتصل سيرتها الشخصية بتاريخ الأشياء المختفية. نتحدث، هنا، في الأقل، عما ورثته «الراوية» من حكايات عن أمها تخصّ أشياء اختفت من الجزيرة، فضلاً عن أشياء شهدت، هي نفسها، اختفاءها. لا ماضٍ، إذن، ولا تاريخ عظيم الشأن أو خلافه تحيل إليه الرواية سوى تاريخ زوال أشياء المشهد العام. فهل هذا الزوال / الاختفاء هو عالم الرواية؟ وهل يمكن لـ«السردية» أن تتحقق من دون عناية «كبرى» بماضي الأشياء وتاريخها؛ أليس هذا شأن الرواية «السرديات عامة» في مجمل تاريخ نصوصها، وبمختلف اللغات، إنها حكاية متخيلة عن «ماضٍ» فردي ذي سمة شخصية خالصة، أو جماعي ذي سمات بطولية؟. هل نتحدث، من ثمّ، عن رواية تختصر عالمها السردي بما نلمسه من «مقاومة» تبديها الراوية، ومن قبلها أمها النحاتة وجدها ثم ناشرها «ر» إزاء النسيان؟ لا أظن أن ذلك هو جوهر التأويل السردي في الرواية؛ فالأم التي تفتح الرواية عالمها بكلامها تؤكد للراوية، ابنتها، وهي تعرض عليها نسخاً مخبأة من أشياء «اختفت» من الجزيرة «من الذاكرة والتداول الحكائي»، أن الاختفاء هو الأصل، هكذا أخبرتها أمها، جدة الراوية، وهي مثل سواها لا تملك جواباً، ولا تعرف متى بدأ الاختفاء، ولا الأشياء الأولى التي اختفت من الجزيرة. ثم إن الناس، مواطني الراوية وأمها على الجزيرة، لا يملكون القدرة على الاحتفاظ بقيمة الأشياء المختفية في قلوبهم. ربما نكون، هنا، إزاء قيمة مضادة لمقولة ماركيز الشهيرة: «التذكر سهل للذين لديهم ذاكرة، والنسيان صعب للذين لديهم قلب»؛ فالناس، هنا، لا يقاومون فعل الاختفاء القسري للأشياء، وهذه حقيقة تؤكدها لنا الراوية في أماكن مختلفة من الرواية: والأم في مطلع الرواية، وفي خاتمتها. نقرأ ونشهد أسف الراوية من عدم اكتراث الناس بموت الأشياء وإزالتها من الذاكرة والاستعمال اليومي. وهو ذاته المعنى الذي شرحته الأم لابنتها عما يحدثه الاختفاء في النفس من خوف وذعر. وستكون الإجابة منسجمة، بل ومتمثِّلة للمشهد العام بعدم الاكتراث والإحساس بفقدان الأشياء؛ فالفقدان / الاختفاء «لا هو بالمؤلم ولا بالمحزن. تفتحين عينيك صباحاً في سريرك، فيكون ثمة شيء قد اختفى، من غير أن تلحظي اختفاءه». أمثولة الاختفاء وكتابة تاريخ موجز له، هي، باختصار، جوهر التمثيل السردي في الرواية. ألا يعيدنا هذا الاختصار لجدل التذكَّر ومقاومة النسيان؛ لا سيما أن سلطة مخصوصة ومسماة بـ«شرطة» هي التي تفرض الاختفاء؟ ربما؛ لكن الكلام هنا ليس عن ماضٍ مكتمل تختص وقائعه وحكاياته بأشخاص محددين ومعروفين في الرواية، إنما عن فعل الإخفاء القسري للأشياء حتى يصل إلى إخفاء / محو الجسد ذاته أو أجزاء رئيسية منه.

- متحف المفقودات
تشرح الأم / النحاتة لابنتها في قبو البيت ماذا يعني اختفاء شيء، أو ماذا يحدث بعد اختفاء شيء ما؟ لا شيء؛ سوى أن اضطراباً يحدث للناس فيتجمعون ليحكوا لبعض قصصاً وحكاياتٍ عما اختفى، ثم يعمدون لحرق «الأشياء» المختفية، أو دفنها، أو رميها في النهر، ثم ينسى الجميع تفاصيل ذلك الشيء المختفي بعد أيام قليلة. لكن الأم لا تكتفي بمشهد الفرجة لجمهور يفقد «قصصـ»ـه أشياءهم على مهل و«ينسا»ـها، بل تسعى لأن تترك خلفها صواناً «متحفاً» يتضمن نسخاً من الأشياء المختفية. نشدِّد، هنا، على موضوعة المتحف وسردياته لأهميتها القصوى في رواية تبني عالمها السردي على الموت / الإخفاء التدرجي لأشياء الواقع وقصصه؛ إذ سنعرف لاحقاً أن هذه الأشياء المخفية قد «أخفتها» الأم في منحوتات وخبأتها بعيداً عن البيت وقبوه. ولكن لماذا تحظى سردية المتحف بهذه الأهمية؟ هل لأنها المقابل السردي لدلالة القمع والمطاردة المعلنة عبر العنوان الرئيسي للرواية / «الشرطة» المكلَّفة بمطاردة «المتذكرين»؟ لنتذكر مرة أخرى أن «أوغاوا» تفتتح روايتها بمحتويات الصوان / المتحف، وتكاد تختمها بها؛ وكأن «القصة» كلها تكمن في سردية «الإخفاء / الاختفاء» وتاريخها، فيما تعمل الصياغات الأخرى بصفتها عوامل «ساندة» للتاريخ السردي المقترح للمتحف.
ربما لأجل هذا لا تشرح لنا الراوية لماذا علينا أن ننسى؛ أو ما الداعي لوجود «شرطة الذاكرة»؛ وهل يقتصر عملها على حدود الجزيرة، أم يشمل باقي الجزر اليابانية؛ وهل نحن في سياق سردية الديكتاتور أو الأخ الأكبر؟ نعرف عبر إشارات متفرقة لا يجري التركيز عليها كثيراً أن «الشرطة» تحافظ على صفتها «القهرية» الدَّالة على القمع والضبط البوليسي كما يحيل إليها العنوان؛ ثمة أناس يجري اعتقالهم وتعريض حياتهم للخطر. النحاتة، أم الراوية، تُعتقل ثم تموت بعدها، مشاهد رعب عامة تتضمن اعتقالات أشخاص لا يلتزمون بقوانين شرطة الذاكرة، ومثلها مصير الجد / عامل العبارة الذي سيعتقل ثمّ يموت في الشارع، ليس بعيداً عن مكان العبارة التي غرقت «اختفت». أحداث أخرى تستعملها الرواية تضعنا في السياق السردي لرواية الأخ الكبير / الديكتاتور وتشدِّد، من طرف خفي، على مركزية «الإخفاء» بصفته مدخلاً سردياً للمتحف وتحولاته؛ ذلك أن «أولى مهام شرطة الذاكرة، الحرص على إرساء الاختفاءات»، ومنع الناس، من ثمّ، من استعادتها، بل واستخدامها في تأليف «اختراع» قصة ما.

- غرفة «سرية» لإخفاء «المتذكر»
ولكن ما الذي يجمع «مخطوط» الرواية بالغرفة السرية، حيث أخفت الراوية أشياء أمها «المخفية» و«ر» ناشر رواياتها؟ بتصوري إنها سردية المتحف مرة أخرى. يفسر «ر» الأمر للراوية، كاتبة الرواية، عندما يعبر عن دهشته من قدرة «الكلمات»، وهو يثني على مخطوط الكاتبة، على صناعة شيء في «جزيرة» تزول «تختفي» أشياؤها. إنها قوة الحكاية وسحر السرد، أو كما سنقرأ لاحقاً تأكيداً يقترب من يقين النبوءة: «لا أحد سيمحو ذكرى الروايات». هذا اليقين الذي ستنتهي به الرواية لا يغير من هيكلية العالم السردي، ولا يحسم الصراع أبداً؛ إذ ستنهي الكاتبة حوارها مع ناشرها بتساؤل معبر عن حجم الخسارات الحاصلة فيما لو اختفت الكلمات «ما الذي سيحدث؟»؛ لا حكاية، حينئذٍ، ولا عالم متخيل يمكنه مواجهة سلطة الاختفاءات.
ثمة مساران أو خطان ينتظمان مشهدية المتحف: خط يمثله مخطوط الرواية. وخط يشغله مشهد الاختفاءات. عالم المخطوط المتخيل يقابله، إلى حين، عالم متخيل، أيضاً، لكنه عالم رواية شرطة الذاكرة. تجمل الكاتبة قصة روايتها الرابعة بأنها عن «طابعة» على الآلة الكاتبة تفقد صوتها وتستخدم الآلة الكاتبة لتعويض خسارتها. وهي تستعين بمعلمها في معهد الطباعة لاستعادة صوتها، لكنها لا تحصل من «صاحبها» سوى على «حبس» منفرد في «برج»، هو أشبه بالمتاهة، مع وجبات جنس شبه يومية. في البدء، تجهل الكاتبة مصير بطلتها، مثلما نجهل، نحن كذلك، مصير الكاتبة نفسها. لكننا نعرف، في المحصلة، أنهما ينتهيان إلى المصير ذاته: بطلة الرواية محبوسة في متاهة البرج، فيما تنتهي الكاتبة، أو ما تبقى من جسدها بعد أن وصلت ظاهرة الاختفاء لأعضاء الجسد الإنساني، وحيدة في الغرفة السرية بعد أن يغادرها ناشر روايتها، المتذكر الوحيد، بقاياها. ومثلما أن بطلة الرواية تفقد صوتها نجد الكاتبة تفقد قدرتها على الكتابة بعد أن تختفي الروايات. فهل كانت الكاتبة بصدد تأليف سيرة روائية عن نفسها؟ ليس هناك إجابة مفصلة وقاطعة، إنما هناك إشارات واضحة عن «روايات» ثلاث، سبق للكاتبة أن أصدرتها، والروايات الثلاث تتحدث عن شيء ما يختفي. ومثلها الرواية/ المخطوط سبق للكاتبة أن أنجزتها في غرفة أبيها. والروايات كلها لم تكن بحاجة لـ«وثائق وتدوينات»؛ فهي محاولات فاشلة لملء «الفراغ الذي خلفته شرطة الذاكرة». المخطوط، ومن ثمّ سيرة الكاتبة، تظهران أمامنا بصفتهما محاولة أخيرة لكتابة قصة «تقتصد» بأشيائها، فهي «يوميات» الأشياء المختفية، أو إن شئت قل، إنها «شهادة» الكاتبة على عالم يفقد ذاكرته، عفوا أشياءه.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.