«غرنيكا» بيكاسو... من ذكرى الحرب والدمار إلى أيقونة للبهجة

محاكاة الغرنيكا في لوحة «فرحة العيد» للفنانة غادة الربيع
محاكاة الغرنيكا في لوحة «فرحة العيد» للفنانة غادة الربيع
TT

«غرنيكا» بيكاسو... من ذكرى الحرب والدمار إلى أيقونة للبهجة

محاكاة الغرنيكا في لوحة «فرحة العيد» للفنانة غادة الربيع
محاكاة الغرنيكا في لوحة «فرحة العيد» للفنانة غادة الربيع

لطالما ارتبطت لوحة الفنان الإسباني بابلو بيكاسو «غرنيكا» بالحرب والدمار، وهي واحدة من أشهر اللوحات في العالم، خلد فيها بيكاسو ذكرى ضحايا بلدة غرنيكا الذين ماتوا جراء قصف الطائرات الألمانية عام 1937، إلا أن هذه اللوحة المليئة بالألم حولتها الفنانة السعودية غادة الربيع إلى أيقونة للبهجة، عبر عملين يحاكيان تحفة بيكاسو، قدمتهما في معرض «عيد وتهاويد» بمركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) في الظهران.
إسباغ البهجة على اللوحة الشاهدة على الكارثة لم يكن تقليدياً بالألوان والفرشاة، حيث عمدت غادة الربيع لاستخدام أغلفة الحلوى والشوكولاته وكل ما يرتبط بالفرح واللحظات الحلوة، وهو اتجاه فني ابتكرته الفنانة، واستطاعت من خلاله صناعة الدهشة في عين المتلقي، حيث يتسمر أمام أعمالها المليئة بالمكونات غير المألوفة في عالم الفن التشكيلي.
تتحدث الربيع لـ«الشرق الأوسط» قائلة، «كثير من أعمالي هي تحوير للوحات العالمية الشهيرة، بحيث أجعلها أعمالاً عربية بفلسفتي الخاصة». وتضيف: «المآسي والحروب والمجاعات كثيرة في العالم، وهذا الشيء أثر بي، خصوصاً بعد مشاهدتي للوحة بيكاسو (غرنيكا)، حيث تأملتها، وشعرت أن العالم ما زال ممتلئاً بما فيها، فمنذ أيام بيكاسو وحتى الآن لم يتغير شيء، رغم التطور العالمي الهائل على كافة الأصعدة، فإلى الآن ما زال هناك فقر وجوع وحروب». وترى الربيع أن أعمالها هي بمثابة حلم الفنان بأن تنتهي هذه الكوارث من العالم في يوم ما، ويتحول هذا كله من التعاسة إلى فرح وأعياد، مبينة أنها حاكت لوحة «غرنيكا» في عملين؛ الأول عن عيد الفطر وسمته «فرحة العيد» والثاني حول عيد الأضحى وسمته «لبيك»، وتشير إلى أن هذان العملين استغرقا منها نحو عام كامل
تتجه الربيع فنياً لاستخدام أغلفة الحلوى في كافة أعمالها، من النايلون والقصدير والكرتون وغيرها، فعند الاقتراب من لوحاتها يلحظ المتلقي أغلفة علك المستكة و«كت كات» و«كادبوري» و«جالكسي» وكثيراً من مخلفات الحلوى التي اعتاد المستهلك على رميها في سلة المهملات، إلا أن الربيع جعلتها مكونات رئيسية لأعمالها، قائلة «أنا ابتكرت الرسم بأغلفة الحلويات والشوكولاته».
ولا تفضل الفنانة السعودية إطلاق مسمى «كولاج» على هذه الأعمال، قائلة «سميت هذا الفن (كوغا)، لأن (الكولاج) ارتبط بورق المجلات، وهو فن سهل يعتمد كله على الورق، بينما تكمن صعوبة (الكوغا) في كون هذه الخامات مختلفة عن بعضها والتعامل معها ليس سهلاً»، مشيرة إلى أن عدداً من طلاب الماجستير والدكتوراه أجروا أبحاثهم ورسائلهم على أعمالها، بالنظر لفرادتها فنياً.
يأتي السؤال: من أين استلهمت غادة الربيع فكرة تحويل أغلفة الحلوى لأعمال فنية؟ توضح أن بدايتها فنانةً تشكيليةً كانت تقليدية، وعام 2010 كانت في زيارة لحدث فني كبير في دبي، رأت خلاله أنماطاً فنية متعددة وحديثة، قائلة «وجدت حينها أن الناس تجاوزوا الألوان الزيتية، وعدتُ بتغذية بصرية كبيرة، وتداخلت الأفكار في رأسي بشكل يلح علي؛ لعمل شيء جديد».
بعد ذلك، قدمت الربيع عملها الأول الذي ذهب لأميركا، ثم عرضت عملها الثاني الذي لم يلق قبولاً كبيراً بين الناس لكون الفكرة لم تبد مفهومة لديهم، قائلة، «كانت تعد تجربة ناجحة في نظري، لأنها ضاعفت من خبرتي».
ثم توالت تجارب غادة الربيع، لتصل مرحلة النضج الفني بعد توجهها لـ«غاليري أثر» بجدة. وعام 2013 كانت نقطة تحول في حياة الفنانة غادة الربيع، حيث عرضت أعمالها لأول مرة في معرض «غاليري أثر» السنوي «الفنانون السعوديون الشباب»، وعام 2014 شاركت في معرض «المعلقات» الافتتاحي للطبعة الأولى من 21.39 «فن جدة». كما شاركت في معارض دولية في الكويت ودبي وروسيا وأميركا، وتم اقتناء العديد من أعمالها محلياً ودولياً.
لم تكن «غرنيكا» بيكاسو هي الوحيدة التي استوقفت غادة الربيع، حيث سبقتها سلسلة لوحات كلاسيكية عالمية، إذ حاكت «موناليزا» دافنشي التي ألبستها الزي الحجازي القديم «المحرمة والمدورة»، وحاكت «ليلة النجوم» لفان غوخ، و«الفتاة ذات القرط اللؤلؤي» ليوهانس فيرمير، وألبست فريدا كاهلو زي العروس لأهل المدينة المنورة، لتحويل بؤسها إلى سعادة، قائلة، «أنا أبحث عن الجانب المبهج في هذه الأعمال، وأحاول أن أجعل الناس تبتسم حين تشاهدها».

- عيد وتهاويد
لوحتا الفنانة غادة الربيع المستوحتان من «غرنيكا» بيكاسو، عرضتهما في معرض «عيد وتهاويد»، الذي يعد معرضاً بحثياً، ضمن قائمة من البرامج الشيقة قدمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي (إثراء) بالظهران خلال احتفالات العيد، وحظيت بحضور كبير من زوار المركز الذين وجدوا فيها فرصة ثمينة لتغذية ذائقتهم الفنية والابتهاج بالعيد بشكل مبتكر.
والفنانة غادة الربيع التي تطمح لأن تعرض إحدى لوحاتها في متحف اللوفر بباريس، تقول عن هذه المشاركة: «(إثراء) بُني بأيدٍ سعودية، وعلى أرض سعودية، وكان بالأمس حلماً بعيد المنال بالنسبة لي، إلا أن إتاحة الفرصة لي بعرض أعمالي فيه هو دليل على أني أسير على الطريق الصحيح، وكي أصل إلى العالمية يجب أن أثبت نفسي في وطني أولاً».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».