هل يمكن لحركة متشددة وملتزمة بحمل السلاح مثل طالبان أن تخوض مفاوضات سلام مبنية على الجهود الدبلوماسية لوقف حمام الدم في أفغانستان؟ هذا السؤال مطروح أمام المهتمين بالشأن الأفغاني وأمام من يدرس الحركات الأصولية التي تختار السلاح لتنفيذ أجندتها السياسية. المصالح السياسية عادة ما تدفع الآيديولوجيات، ولكن في الوقت نفسه، آيديولوجية طالبان الرافضة أساسا الاعتراف بالنظام السياسي الذي نصبته الولايات المتحدة ودول حلف «الناتو» بعد الحرب التي انطلقت في أكتوبر (تشرين الأول) 2001 للإطاحة بحكم طالبان، قد تجعل الدبلوماسية فاشلة من الأساس. والإجابة عن السؤال يعتمد على سير المفاوضات المتقطعة وغير المباشرة التي ترعاها دولة قطر، وعلى النظر إلى تاريخ حركات أصولية أخرى خاضت مسار المفاوضات بعد طول قتال. الحالة الأفغانية فريدة من حيث الوقائع والتدخل الأجنبي في البلاد، لكنها أيضا مرتبطة بمحيطها والتطورات التي تشهدها المنطقة، خاصة العلاقات الأفغانية - الباكستانية. وستكون المرحلة المقبلة من تاريخ طالبان المتقلب معتمدة على التطورات الأمنية داخل أفغانستان.. وعلاقات الحركة خارج البلاد.
انتعشت الآمال لدى الأفغان لأول مرة بعد أن عقد اجتماع هو الأول من نوعه حيث يجلس ممثلون من حركة طالبان الأفغانية التي تقاتل الحكومة وحلفاءها الغربيين منذ أربعة عشر عاما منذ أن أطيح بها عقب حملة عسكرية قادتها الولايات المتحدة الأميركية نهاية عام 2001. الاجتماع الذي عقد في منطقة الخور بالعاصمة القطرية الدوحة جاء بتنظيم وإشراف من منظمة «بكواش» وهي منظمة تروج للحوارات والتفاوض بين الأطراف المتخاصمة في أنحاء العالم, وقد شارك في هذا الاجتماع نحو ثمانية من قادة طالبان بعضهم تم إطلاق سراحه قريبا من معتقل غوانتانامو الأميركي، وشارك من الجانب الحكومي بصفة غير رسمية نحو عشرين شخصا بعضهم أعضاء في مجلس السلم والمصالحة الذي تم إنشاؤه في عهد الرئيس الأفغاني الأسبق حميد كرزاي عام 2010 من أجل فتح قنوات اتصال مع طالبان والجماعات المسلحة الأخرى لإنهاء حرب في البلاد، غير أن أيا من الجهود الرامية لحل المشكلة بين الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة والغرب وجماعة طالبان التي يعتقد أنها تتخذ من مناطق القبائل الباكستانية مقرا لهجماتها أتت بالثمار وكانت النتيجة مزيدا من الحروب والتصعيد من كلا الطرفين.
ولكن لم يتضح ما إذا كان الحوار الذي تستضيفه قطر حقق أي تقدم تجاه بدء مفاوضات رسمية طال انتظارها لإنهاء الحرب المدمرة في أفغانستان. وخرج المشاركون في الاجتماع الذي عقد في بلدة الخور الساحلية شمال الدوحة من مكان الاجتماع يبتسمون ويضحكون الأحد، ولكنهم رفضوا التحدث إلى الصحافيين.
وقال أفغاني شارك في المحادثات إن طالبان وعدة حركات سياسية أفغانية أخرى تشارك، وإن جميع الأطراف اتفقت على عدم الإدلاء بأي تصريحات لحين الاتفاق على بيان مشترك.
وتمثل هذه الاجتماعات أول بادرة حياة منذ أسابيع في عملية السلام المأمولة لإنهاء أكثر من 13 عاما من الحرب بين حركة طالبان والحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة
وفشلت عدة مبادرات سابقة على مدى أعوام في إنهاء الحرب التي قتل فيها عشرات الآلاف من الأفغان منذ أن أطاحت الولايات المتحدة وحلفاؤها بحكومة طالبان المتشددة من السلطة عام 2001. وجاءت هذه المحادثات غير الرسمية رغم تصاعد القتال في أفغانستان عقب انسحاب معظم القوات الأميركية والقوات المتحالفة معها.
وبدأت طالبان مؤخرا هجوما جديدا ضاريا في شمال أفغانستان جعل مقاتليها على مشارف مدينة قندوز وهي عاصمة الإقليم الذي يحمل الاسم نفسه. المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد قال في رسالة نصية للصحافيين الأفغان بأن الحركة شاركت في اجتماع قطر، وهي تعتقد أن المصالحة الحقيقية يجب أن تتحقق وأن يحل الأمن والسلام في البلاد، لكنه أشار إلى أن الحركة شاركت في الاجتماع لتطرح مواقفها ورؤيتها تجاه الأزمة الأفغانية ولم تشارك لتفاوض ممثلي الحكومة الأفغانية. وكانت طالبان أعلنت مرارا أنها لا تعترف بالإدارة الأفغانية في كابل، وأنها لن تتفاوض مع هذه الإدارة قبل خروج جميع القوات الأجنبية من البلاد، وإجراء تعديلات على الدستور الأفغاني الجديد، إضافة إلى إقامة نظام إسلامي كشروط مسبقة للحوار، بحسب طالبان. وقالت الشخصيات السياسية الفاعلة في الساحة الأفغانية التي شاركت في اجتماع قطر بأنها لاحظت تغييرا جذريا في موقف طالبان تجاه الملف الأفغاني، وأنها لمست رغبة في قيادات طالبان بضرورة مواصلة الحوار والاجتماعات للتوصل إلى صيغة مشتركة تكون مقبولة لدى طرفي الصراع، ويذكر أن خمسة من أعضاء المكتب السياسي للحزب الإسلامي بزعامة حكمتيار، أحد القادة المطاردين، شاركوا في اجتماع الدوحة أيضا، وقد نقل عن وفد الحزب أنه اقترح تشكيل إدارة مؤقتة تمهد لإجراء انتخابات رئاسية جديدة، وهو مطلب قديم يتجدد لدى الحزب الإسلامي بكل مناسبة.
ورفضت طالبان، بشكل واضح، وقف عملياتها في هذا الاجتماع، غير أنها رضيت بإجراء محادثات جديدة أو الاستمرار في مثل هذا الاجتماع في القريب العاجل في الإمارات العربية المتحدة لتذليل مزيد من العقبات التي تقف عائقا أمام المحادثات الأصلية بصورة مباشرة بين طالبان والحكومة الأفغانية.
وكانت التقارير تشير إلى أن هناك خلافات داخلية في حركة طالبان تمنع إحراز تقدم في المحادثات مع كابل بحيث انقسمت قيادة طالبان إلى قسمين: قسم يدعم الحوار ويرغب في التواصل مع الحكومة الأفغانية وقسم آخر يرفض الحوار من أساسه ويشدد على مواصلة الحرب والتصعيد العملياتي ضد القوات الأفغانية. وفي شهر يونيو (حزيران) عام 2013م تم فتح مكتب سياسي لطالبان في قطر ليكون عنوانا رسميا للحركة وتسهيل التواصل مع الحكومة الأفغانية لإجراء ترتيبات الحوار الرسمية، غير أن المكتب تم إغلاقه بعد أيام قليلة من فتحه بطلب من الرئيس الأفغاني السابق كرزاي الذي رفض رفع العلم الطالباني على المكتب، وأن يحمل اسم «الإمارة الإسلامية الأفغانية»، وهو اسم رسمي لحكومة طالبان التي حكمت أربع سنوات ابتداء من عام 1996 إلى نهاية 2001. وتأخذ الأزمة الأفغانية أبعادا إقليمية ودولية ومن الصعب حل المشكلات العالقة في هذا البلد الذي أنهكته الحروب المتوالية، ويرى المراقبون أنه يجب على الحكومة الأفغانية إجراء حوار مباشر مع باكستان بدل طالبان لأن إسلام آباد هي من تقرر ويمكنها الضغط على قيادات طالبان بضرورة الحوار، وإلا فإن مساعي التواصل مع طالبان هي بمثابة مضيعة للوقت، وإن طالبان لن ترضى بإجراء محادثات سلام مع كابل، يقول زبير أحمد، وهو كاتب ومحلل سياسي ومتابع للشأن الأفغاني والحركات الأصولية في المنطقة، بأن طالبان والجماعات الأصولية الأخرى على شاكلتها لا ترضى بالحوار مع الحكومات التي تعتبر أنها تستمد مشروعيتها من الغرب أو أميركا، وإنما تسعى إلى التغلب عليها عبر الحرب وشن الهجمات لإضعافها والسيطرة على البلد من خلال القوة، مشيرا إلى أن مبدأ المفاوضات غير وارد في قواميس الجماعات الأصولية التي تسعى إلى السيطرة على الحكم بقوة السلاح.
لماذا التغيير في مواقف طالبان؟
فيما يقول أحد المشاركين في اجتماعات الدوحة، فضل عدم الكشف عن اسمه، بأنه لاحظ تغييرا كبيرا في موقف طالبان من الحوار ومحادثات السلام، يعزو ذلك إلى عدة أسباب، والتغييرات التي حدثت على المستوى الداخلي في أفغانستان والمنطقة، وهي:
أولا: أن طالبان تدرك جيدا بعد أربعة عشر عاما من الحرب والعمليات أنها لم تعد قادرة على السيطرة على ولاية واحدة، وأن الجيش الأفغاني البالغ عدده نحو 350 ألف عنصر مجهز بما هو كفاية لمواجهة تصعيد طالبان، مضيفا أن الحركة تبحث عن سبل لإنهاء الحرب والانخراط في العمل السياسي، لكن بحفظ ماء الوجه.
ثانيا: ربما أحد أهم الأسباب التي تدعو طالبان إلى التفكير بجدية في الجلوس إلى طاولة الحوار مع الحكومة الأفغانية هو انتشار ظاهرة عناصر تنظيم داعش في جغرافيا أفغانستان وباكستان، وكان بعض قادة طالبان المنشقين عن طالبان باكستان أعلنوا بيعتهم لتنظيم داعش وغيروا راية طالبان إلى راية «داعش» كما أن أبو محمد العدناني المتحدث الرسمي باسم تنظيم داعش أعلن قبل أشهر عدة عن ولاية جديدة تضاف إلى خلافة «داعش» وهي ولاية خراسان الإسلامية التي تشمل أفغانستان وباكستان والهند وحتى إيران ودول آسيا الوسطى التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي السابق، فظهور «داعش» إلى جانب طالبان يعني ببساطة، بالنسبة لحركة طالبان التقليدية التي تعتمد على أسباب تقليدية ومناطق نفوذ قبلية، انتحارا سياسيا لها في هذه المنطقة، وتضاؤل نفوذها مقارنة بتنظيم داعش الذي يملك المال والسلاح المتطور، كما أنه أعلن قبل شهور عدة أن زعيم طالبان لا يملك قدرة سياسية وأنه رجل جاهل لا يتمتع برصيد شعبي، في إشارة من التنظيم إلى أن المواجهة المقبلة هي بين طالبان و«داعش» في جغرافيا أفغانستان وباكستان، وهو القلق الذي يساور كثيرا من قادة طالبان الميدانيين الذين يشهدون يوميا تغيير ولاءات في صفوف مقاتليهم الصغار.
يقول حبيب حكيمي، وهو كاتب سياسي وخبير استراتيجي أفغاني، بأن الحرب المقبلة في أفغانستان والمنطقة هي بين طالبان التي تتمذهب بالمذهب الحنفي ومعظم قادته من المدرسة الديوبندية في شبه القارة الهندية، بينما يعتبر تنظيم داعش تنظيما عالميا يتمتع بقوة جذب واستقطاب كبيرين، كما أنه يملك مصادر تمويل ضخمة، والأهم من ذلك أنه إن أراد التوسع في نفوذه إلى منطقة آسيا الوسطى فإنه سيضطر إلى محاربة طالبان أولا، وفتح الطريق أمامه، وهذه النقطة تدرك قيادة طالبان جيدا أن عليها حل مشكلاتها مع الحكومة الأفغانية، وإلا فإنها في طريقها إلى الزوال، بحسب حكيمي.
ثالثا: السبب الثالث الذي يجعل طالبان تميل إلى الحوار في هذه المرحلة من تاريخ قتالها هو الضغط السياسي الذي يمارس عليها وعلى قياداتها التي تتخذ من باكستان مقرا لها، خصوصا بعد أن شن الجيش الباكستاني عملية «ضرب عضب» وهي مستمرة ضد قادة طالبان ومسلحيها في مناطق القبائل لتمشيطها وفرض السيطرة الحكومية عليها، تفيد المعلومات بأن مئات المقاتلين من طالبان أفغانستان ومعهم مقاتلون من الجنسيات الأجنبية الشيشان والأزبك والطاجيك فروا إلى داخل الأراضي الأفغانية بعد عملية الجيش الباكستاني.
كما أن الحكومة الباكستانية باتت تميل إلى تقريب وجهات النظر بين طالبان والحكومة الأفغانية في كابل، خاصة بعد أن أجرى الرئيس الأفغاني الجديد أشرف غني سلسلة زيارات متوالية إلى إسلام آباد التقى فيها رئيس الوزراء نواز شريف وقائد الجيش الباكستاني الجنرال راحيل شريف، وقد لمست إسلام آباد جدية في حكومة الوحدة الوطنية في كابل وأنها راغبة في إنهاء الأزمة عبر الحوار وإشراك طالبان والجماعات المسلحة الأخرى في الحكم في حال رغبت.
وتبقى عقدة الوجود العسكري الأجنبي في أفغانستان، خصوصا وجود نحو 12500 عسكري أميركي وأطلسي بعد التوقيع على الاتفاق الأمني بين كابل وواشنطن الذي يسمح بإبقاء بضعة آلاف جندي أميركي لمتابعة عمليات تدريب القوات الأفغانية، من الملفات والمشكلات العالقة بين طالبان وحكومة أشرف غني، الرئيس الجديد لأفغانستان. طالبان تطالب برحيل جميع القوات الأجنبية قبل الجلوس إلى طاولة الحوار، بينما تقول الحكومة الأفغانية بأن غالبية القوات الدولية خرجت من البلاد بموجب نقل الصلاحيات الأمنية إلى الجانب الأفغاني، وأن ما بقي من القوات هو لمواصلة تدريب الجيش الأفغاني وفقا للاتفاقية الأمنية.
يقول حسين سادات، وهو خبير أمني، بأن مشكلة الحضور العسكري الأميركي أو حلف شمال الأطلسي ليست من القضايا الملح بحثها في الوقت الحالي، وأن طالبان قد ترضى بوجود بضعة آلاف عسكري أجنبي لكنها تلح حاليا في إزالة أسماء قادتها المدرجين على اللائحة السوداء في الأمم المتحدة ولدى الخارجية الأميركية، فضلا عن وجود ضمانات سياسية وأمنية لها في داخل أفغانستان، مضيفا أن الأوضاع الحالية في المنطقة مواتية لإنجاح الحوار بين طالبان وكابل، خصوصا بعد أن تعرضت باكستان التي كانت تدعم طالبان لسلسلة هجمات عنيفة ودموية، من قبل طالبان باكستان، كما أن الرأي العام في باكستان يميل إلى حل المعضلة الأفغانية تمهيدا لحل مشكلات باكستان الأمنية؛ لأن الملف الأمني في كلا البلدين أصبح مرتبطا بعضه ببعض، ولا يمكن فصل قضية أفغانستان عن التطورات الأمنية التي تشهدها باكستان بين الحين والآخر، بحسب سادات.