«الأصولية العلمانية» في أوروبا والولايات المتحدة.. آيديولوجية تطرف متزايدة

تعزيز العنصرية ورفض «الآخر» يزيد من مخاطر التطرف

«الأصولية العلمانية» في أوروبا والولايات المتحدة.. آيديولوجية تطرف متزايدة
TT

«الأصولية العلمانية» في أوروبا والولايات المتحدة.. آيديولوجية تطرف متزايدة

«الأصولية العلمانية» في أوروبا والولايات المتحدة.. آيديولوجية تطرف متزايدة

في الوقت الذي تتعالى فيه الصيحات حول العالم منددة بالإرهاب كمنتج للأصوليات الدينية، أيًا كانت تلك الأديان، يبقى هناك خطر آخر متزايد، يتمثل في الإغراق في العلمانية، إلى الدرجة التي معها اكتسب المشهد تعبيرا جديدا: «الأصول العلمانية»، والتي باتت مخاطرها لا تقل ضراوة عن الأصوليات الأخرى. هل من تعريف أولي مبدئي لهذا الطرح الجديد من الطروحات الفكرية التي باتت ولا شك فيها تؤثر على سلامة الحالة الذهنية والنفسية للكثير من شعوب العالم؟
يحتاج الحديث عن الأصولية العلمانية إلى مباحث قائمة بذاتها فلسفيًا لا سيما وأن هناك تناقضا شكليا وجوهريا في المصطلح، فالأصولية عكس العلمانية، ذلك أن الأصوليين ينظرون للنسبي على أنه مطلق، بينما العلمانيون يقيسون النسبي بنسبيته وليس بمطلقيته.
ويعرف قاموس «اربن» الأصولية العلمانية بأنها: «التمسك بأيديولوجية معادية للدين، تسخر، وتزدري وتهجو فكرة وجود إله أو آلهة، أو الدين، ولا تهتم بمشاعر التزمت والتعصب والكراهية والاضطهاد التي يشعر بها الأتباع نتيجة ذلك».
ويمكننا القول إن العلمانية تنقسم إلى جزءين، علمانية كلية شاملة، وأخرى جزئية، ولأن الأوروبيين على نحو خاص قد عانوا من النار والمرار والدمار بعد الحرب العالمية الثانية، وفقدوا الكثير من قناعاتهم بالمطلقات وفي مقدمتها الأديان، لذا تسرب «فيروس» العلمانية الكلية إلى كافة منحنيات حياتهم لنصل إلى المشهد الحالي أوروبيًا.
على أن علامة الاستفهام في هذا المقام: «هل الإغراق في هذا الشكل من أشكال الأصولية العلمانية هو الطريق إلى مجابهة ومكافحة التطرف والإرهاب الأسود حول العالم؟».
لقد ارتفع هذا السؤال إلى عنان السماوات الأوروبية وعلى نحو خاص بعد حادثة «شارلي إبيدو» في فرنسا، بداية العام الحالي. وبعض الدوائر العلمانية المتشددة قد وجدت في المشهد المؤلم آنذاك فرصة تاريخية للربط بين الأصولية والإسلام بشكل كامل، وقد نسي أو وتناسى هؤلاء أن الأصولية الفاشية، والنازية كانتا السبب الأكبر في قتل نحو ستين مليون إنسان في الحرب الكونية الثانية فقط، دون الأولى، ودون بقية الحروب المشابهة.
ومؤخرًا تحدثت أستاذة العلوم السياسية في جامعة هوفسترا كارولين دوديك إلى موقع «ميدل إيست آي» عن شكل الأخطار، محللة المشهد، وموضحة إلى أي حد ومد يمثل هذا المنحى قنبلة موقوتة ومؤلا بل يعد مستودعا يستمد منه الإرهابيون الحقيقيون أعضاءه الجدد.
ترى البروفسور دوديك أن التعاطي مع الأقليات المسلمة في أوروبا بنظرة علمانية جافة مسطحة، بوصفهم مختلفين في الشكل ويتحدثون لغات مختلفة وينظر إليهم على أنهم غرباء، أمر يجعلهم مثل الثمار الناضجة التي يقطفها تنظيم داعش أو ما يشابهه. وهنا يقيم هؤلاء الشباب مجتمعهم على شبكة الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي، ويشعر بعض الشباب بأنه جزء من هذا المجتمع الإلكتروني ولا يشعرون بأنه جزء من المجتمع في فرنسا.
بتحليل دقيق للمشهد يمكن أن، يخرج المرء بنتيجة موضوعية مثيرة، ففي مواجهة القائلين بتهديد «الأصولية الإسلامية» للديمقراطيات والحريات الغربية، يبدو أن الأصولية العلمانية تقود إلى نفس المشهد، ولو بطريق آخر، عبر تعزيز العنصرية، وتعميق الأفكار العرقية، وتوسيع الشروخ الثقافية، والمذهبية، مما يجعل من الأديان والتدين في نهاية المشهد عوائق تحول دون التقدم البشري، عوضا عن أن تكون جسورًا للتواصل والتعارف بين الأمم والشعوب.
هل فرض العلمانية فرضًا عبر القوانين المشددة والرقابة الاستخباراتية تمثل الحل الأفضل في مواجهة الإرهاب الذي بات الجميع يخشاه؟
يبدو أن ذلك ليس هو الطريق الأكثر صوابًا، والعهدة هنا على العالم السياسي الفرنسي والمتخصص في الشؤون الإسلامية، أوليفييه روي صاحب مؤلف «الجهل المقدس»، والذي يرى أن «اللائكية الصلبة الاستبدادية» ليست الحل، بل ضرورة إعادة الثقافة إلى المدرسة وطرح نقاشات عقلانية في الصفوف المدرسية، فالعلمانية ليست الرد على الإرهاب.
ويبدو أن رؤية روي تتجاوز النقاش الجاري، إلى حال فئة من الشباب المسلم الذين ساروا نحو العدمية، وهؤلاء في تقديره لم تكن معضلتهم مع «الدين الإسلامي السمح»، بل مشكلة اجتماعية تتجاوز الدين، وعليه يجب تقديم نماذج مضادة. وهذا هو التحدي الذي تواجهه العلمانية في الغرب والأصولية في الشرق، مما يحتاج إلى الجهد المدرسي الأولي من بداية المشهد، فكما أن الخطاب الديني التقليدي ربما بات في حاجة ماسة للمراجعة، هكذا أيضا العلمانية السلطوية.
البعض يتساءل حول إذا كان المشهد العلماني المتطرف في الولايات المتحدة يختلف كثيرًا عن نظيره في «القارة العجوز» على حد تعبير وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالدر رامسفيلد. المعروف تاريخيًا أن الولايات المتحدة دولة علمانية الهوية، وبها فصل كامل بين السلطات المدنية، والقيادات الروحية، غير أن الحقيقة تتمثل في أن الولايات المتحدة دولة مغرقة في الهوى الديني، ومرد ذلك ومرجعه أن المهاجرين الأوائل الذين أطلقوا على أنفسهم «البيوريتايين» أو المتطهرين، قد اعتبروا تلك الأراضي الجديدة المكتشفة في الغرب بمثابة «أرض كنعان الجديدة» للهاربين من عبودية الأصولية الدينية في القرون الوسطى في أوروبا.
في أوائل الشهر الحالي نشر مركز «بيو للأبحاث» في واشنطن، وهو أحد أهم مراكز الأبحاث، نتائج أحدث استطلاع رأي يتناول أحوال الأديان والعلمانية في الولايات المتحدة. وقد جاءت النتائج مثيرة جدًا، فبعد حالة المد الديني اليميني الأصولي التي عرفتها الولايات المتحدة بعد عام 1967 وبشكل خاص بعد حرب الأيام الست مع العرب، نرى حالة من الارتداد إلى العلمانية مع تبعاتها واستحقاقاتها السلبية على اتباع الأديان التوحيدية بشكل عام.
للذكرى والتاريخ، تصاعد التيار الديني المسيحي المتهود أو المتصهين، وإن كان البعض يطلق عليه خطأ المسيحية الصهيونية (لأنهما ضدان لا يجتمعان)، بعد حرب يونيو (حزيران) 1967، في حين كان الأميركيون يعانون الويلات في مستنقع فيتنام، ولهذا قالوا إن «يد الرب» مع إسرائيل و«روح الرب» قد فارقت بلادهم.
ومع عصر الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، صار الصراع بين معسكري الخير والشر على أشده، فقد وجد رجال من أمثال القس جاري فالويل وروبرت باتسون المغرقين في أصوليتهما الدينية واللذين صورا ريغان بأنه المنقذ والمخلص للعالم من شر الاتحاد السوفياتي والشيوعية البغيضة. وعليه بدأت الإدارة الأميركية حملة «حرب النجوم أو الكواكب». وقد وصل التجلي الأكبر لهذه النهضة الأصولية المسيحية في زمن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، الذي ربط بين الدين والسياسة وتحدث عن «الحروب الصليبية» تزامنا مع غزو العراق.
وتشير نتائج استطلاع «بيو» هذا الشهر إلى أن نسبة الأميركيين الذين يعتبرون أنفسهم مسيحيين في قد انخفضت بمعدل 8 نقاط مئوية خلال سبع سنوات، ووصلت هذه النسبة الآن إلى نحو 71 في المائة، وارتفع تعداد غير المنتمين للأديان من 16 في المائة إلى 23 في المائة خلال نفس الفترة الزمنية.
حكمًا، تؤشر النتائج لاتجاه خطير ذلك أن ما يعرف بجيل الألفية (أي المولودين بين عامي 1981 – 1989) باتوا أقل ارتباطا بالتدين عن أجيال الستينات، وأجيال الحرب العالمية الثانية.
النتيجة الثانية والمباشرة لحالة «الانفلات العلماني» التي انتقل فيروسها من أوروبا هي أن عدد الملحدين وغير المنتمين للأديان، بات يتجاوز طوائف دينية شديدة الأهمية في الترتيب الديني الأميركي مثل الكاثوليك، فالملحدون صاروا يمثلون 23 في المائة، أما الكاثوليك 21 في المائة.
غير أن الأرقام السابقة تحتاج إلى تدقيق أكثر، ذلك أن أولئك الذين يظهرون عدم ارتباط بالأديان، قد لا يكونون ملحدين بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنهم يرون أن الدين وإن كان حقيقة بالنسبة لهم إلا أن مدى الارتباط الوجداني والعاطفي، وتأثيره على طرائق تفكيرهم، ومناحي حياتهم ضعيفة وتكاد تتلاشى. وعلى هذا الأساس هم مغرقون في علمانية أشد، ويعد الأميركيون البيض أكثر عرضة للقول إنهم لا دينيون بنسبة 24 في المائة مقارنة مع 20 في المائة من الأميركيين من أصل لاتيني، و18 في المائة من ذوي الأصول الأفريقية.
وقد يدفع المسلمون في الولايات المتحدة ثمنا لهذا التغير في المعادلة الدينية الأميركية، تحت ستار يربط بين العلمانية والحريات، ويخفي في ثناياه أصولية علمانية رافضة للآخر، لا تقل عن أصولية الفكر المتطرف الديني. على سبيل، هناك المثال الدور الذي تقوم به بعض المؤسسات الأميركية المغرقة في كراهتها للمسلمين تحت دعاوى الحرية الزائفة، ومنها ما يعرف بمبادرة «الدفاع عن الحرية الأميركية»، والتي لا هم ولا شاغل لها سوى تشويه صورة المسلمين في أميركا الشمالية. إذ إنها تروج بين الأميركيين لفكرة الخيانة التي يرتكبها المسؤولون الحكوميون على المستوى الوطني المحلي، وفي الولايات، ووسائل الإعلام، وغيرهم، في الاستسلام – على حد قولها – لحركة «الجهاد العالمي والتفوق الإسلامي».
ولعل تطرف مثل هذه المؤسسات هو ما دفع بمات دس المحلل السياسي السابق في مركز التقدم الأميركي، والرئيس الحالي لمؤسسة السلام في الشرق الأوسط إلى أن يصرح «بالتأكيد أصبح تشويه صورة المسلمين صناعة مربحة للمتعصبين ضد المسلمين حيث يتم إنفاق عشرات الملايين من الدولارات في هذه الصناعة»، والحديث عن هذه الجماعات أمر مستقل قائم بذاته ولنا معه عودة.
قد تكون الأصولية العلمانية هي اعتداء على الحرية الشخصية بنفس قدر انتهاك الأصولية الدينية لكرامة الإنسان، فالأصولي العلماني صاحب رؤية أحادية نسبية، يريد لها أن تنسحب على الجميع، حتى ولو كان العالم متعدد الأقطاب والمشارب وليس أحادي اللون.
ورغم أن الأصولية العلمانية لا علاقة لها بالنصوص المقدسة ولا تقرأها بعين التشدد والتعصب كالأصولية الدينية، فإنها تقع في الفخ نفسه عندما تتعاطى مع تراث التنوير الإنساني على أنه قوالب مقدسة وما عداها لا يعتد به.
وفي كتابه «الأنوار التي تعمي» يصل المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه، إلى الوصفة السحرية: «لا نريد عقلانية أو علمانية جافة مسطحة تستبعد الدين كليًا بحجة أنه ظلاميات وفي ذات الوقت لا نبغي أصولية متعصبة تكفر الآخرين وتدعو إلى ذبحهم». هل من طريق إلى الحسنيين؟



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.