فيلم «النبي» يستلهم حياة جبران خليل جبران و«الربيع العربي»

مأخوذ عن كتابه الأشهر ومصنوع برهافة فنية عالية

الميترا وكاملة في فيلم «النبي»، و مصطفى في طريقه إلى الميناء
الميترا وكاملة في فيلم «النبي»، و مصطفى في طريقه إلى الميناء
TT

فيلم «النبي» يستلهم حياة جبران خليل جبران و«الربيع العربي»

الميترا وكاملة في فيلم «النبي»، و مصطفى في طريقه إلى الميناء
الميترا وكاملة في فيلم «النبي»، و مصطفى في طريقه إلى الميناء

وسط صخب الأفلام التجارية العملاقة، يبدو فيلم «النبي» المأخوذ عن الكتاب الشهير لجبران خليل جبران، وأطلقته الممثلة سلمى حايك من بيروت نهاية الشهر الماضي، وكأنه لا يشبه أفلاما أخرى غيره؛ فهو ليس روائيًا طويلاً، ولا يحاول أن يتشبه بسواه من أفلام الرسوم المتحركة العنفية، أحيانا، التي تصنع لتجتذب أكبر عدد ممكن من المتفرجين. يبدو هذا العمل، في صيغته والجمهور الذي يستهدفه، وكأنما أنتج ليبقى طويلاً، وليشاهده الصغار والكبار، بروح تناسب، من حيث رومانسيتها وإنسانيتها الشفافة، الكتاب الذي أخذ عنه. هكذا أريد للفيلم أن يعيش إلى جانب الكتاب، حياة تهم التواقين إلى السمو بالنفس والفكر وفتح نوافذ التأمل، بعيدًا عن البهرجة والضخامة، قريبًا من الشغل الفني المتقن.
مع عشرة مخرجين على رأسهم المشرف الأساسي وكاتب السيناريو رودجرز الرز، الذي سبق له أن أخرج «الأسد الملك»، وبتمويل تسعة من المنتجين بينهم سلمى حايك، وكاتب الموسيقى التصويرية البديع غابريل يارد، وفريق عمل فني كبير، يعيش المتفرج 84 دقيقة من المتعة الإبداعية.
الميترا التي كانت في الكتاب، هي العرافة وأول من سعى إلى المصطفى، نراها في الفيلم طفلة بريئة، ذات ملامح لطيفة ومحببة، ترافقه وتسعى لمساعدته، مع أنها تعاني صعوبة في النطق لا تتغلب عليها إلا في اللحظات الأخيرة.
والدة الميترا، كاملة في الفيلم، مستوحى اسمها وشخصيتها من والدة جبران خليل جبران، وتعمل مثلها في خدمة البيوت، وتنطق بصوت سلمى حايك. وهي شخصية دخيلة على النص الأصلي، لكنها أدخلت على الموضوع حيوية سينمائية يفتقدها كتاب جبران الشاعري، ولها ملامح والدة جبران التي رحلت مع أولادها الأربعة إلى أميركا وأعالتهم من عرق جبينها.
مصطفى بطل الكتاب، تماما كما جبران، رسام وأديب وصاحب حكمة في كلماته، مطرود من رحمة السلطة، في أورفاليس (المدينة المتخيلة عند جبران) التي يزورها وتدور فيها أحداث الكتاب - الفيلم، وتهمته الأساسية أنه شاعر وأفكاره تثير الفوضى.
مصطفى سجين، مع بداية الفيلم، يطلق سراحه للتو، بعد سبع سنوات من الأسر، ويساق إلى الميناء لنفيه من هناك وإعادته إلى بلاده.
ما بين المنزل الذي سجن فيه مصطفى وأطلق سراحه منه والميناء الذي سيغادر من شواطئه، تدور كل الأحداث. المصطفى يمشي مع سجانيه، وأهل أورفاليس يتجمعون حوله، يحاولون استمهاله للإفادة من حكمته والتحدث إليه، وهو يجيب برحابة ومحبة، فيما تحاول الميترا إعاقة المسير صوب الميناء وتأخيره قدر الممكن، مرة بإلهاء الحرس، ومرة أخرى بافتعال المشكلات أو تدبير المقالب. وما بين النص الرفيع لكتاب «النبي» الذي اشترطت «لجنة جبران خليل جبران» على منتجي الفيلم عدم المساس به، وتوظيفه كما هو من دون تعديل أو تبديل - وحسنًا فعلت - وتلك التعديلات الإضافية على الشخصيات، والقفشات الظريفة والطريفة التي أضيفت إلى القصة، يجمع الفيلم ما بين الأدب والطرفة والواقعية.
الكتاب الذي طبع منذ عام 1923 في أميركا وترجم إلى 40 لغة، وبيعت ملايين النسخ منه لغاية اليوم، تتحدث مقاطعه الـ26 عن المحبة، والحرية، والصداقة، والموت، والدين، والجمال، واللذة، وغيرها، بجمل بات بعضها مأثورًا لكثرة تردادها على ألسن الناس، لا سيما تلك التي تتطرق إلى العمل والزواج والأبناء. المصطفى في الفيلم الذي أطلق سراحه وأمر بترحيله، يطلب إليه الأهالي وهو يمر بين الناس، في أورفاليس، أن يقدم نصائحه، فنراه يلقي أقواله المنثورة في الكتاب في مناسبات عدة، إحداها حفلة عرس، اللطيف فيها لأن أجواءها لبنانية. ربما أنها المرة الأولى التي نرى فيها البيئة اللبنانية في فيلم تحريك، والمائدة بتنويعاتها، وأكلة «مقادم الغنم» الشعبية التي يسيل لها اللعاب، والموسيقى والرقص العربيين. الملامح شرقية، والمكان يتحدث عن ذاته، من دون أن يعطي له اسما جغرافيا محددا. إننا في أورفاليس المدينة التي ابتكرتها مخيلة جبران، وأضيفت عليها اللمسات السينمائية لتزيدها شبها بلبنان. فمرة نرى الجبال والوديان، وكأننا في مكان مشابه لبلدة بشري التي ولد فيها جبران، ومرة أخرى نرى مصطفى في أسواق لا تختلف كثيرا عن تلك الضيقة الشعبية التي يمكن أن نزورها في أي مدينة عربية، وتارة ثالثة هو في بيت محتوياته شرقية كأي بيت عربي، وهناك المآذن، والغسيل المنشور على الحبال والآثار الرومانية التي تذكر ببعلبك. ملامح الشخصيات التي يقابلها جبران هي طالعة من هذه البيئة أيضًا. حين يبدأ، في كل مرة، المصطفى يجيب سائليه، تتحول الشاشة إلى مكان لعرض رسومات فنية، تتناسب وطبيعة النص.
وعلى الرغم من صعوبة توظيف هذه النصوص الجميلة والشاعرية، في فيلم تحريك، فإن المخرجين العشرة بقيادة رودجرز الرز، قاموا بعمل بديع بحيث يتزاوج كل مقطع من المقاطع برسوم ذات طابع خاص بها، وكأنما نحن أمام عوالم مختلفة في كل مرة، لكنها تبقى جميعها تدور في إطار شرقي روحاني، وكثيرًا ما نراها تستعير من لوحات جبران بعض ملامحها أو من الموزاييك الإسلامي روحها. وقد تمكن غابريال يارد بموسيقاه التي تمزج الشرقي بالغربي، من ابتكار مقطوعات مذهلة حقًا في تناغمها مع المشاهد، على الرغم من أنه يقول بأن الموسيقى كتبت حتى قبل رؤيته لهذه اللوحات.
تحقق حلم قديم لسلمى حايك إذن، التي لم يعلق في ذهنها من غرفة جدها الذي توفي وهي صغيرة، سوى صورة كتاب «النبي» الذي كان يحب أن يقرأه إلى جانب سريره. وتمكنت من أن تهدي هذا الجد اللبناني الذي يبدو أنه لم يبق له من وطنه في مهجره المكسيكي البعيد سوى كلمات جبران، فيلمًا فنيًا ومشغولا بحب كبير وتفان واضح. وحايك زوجة الملياردير الفرنسي المعروف فرنسوا بينو، تمكنت من إقناع المشاركين في الفيلم بأن يتقاضوا مبالغ الحد الأدنى كي تتبرع بإرادات الفيلم للأعمال الخيرية، كما تمكنت من جعل منتجين من لبنان وكندا والإمارات وفرنسا وأميركا وقطر، يدخلون في مشروع، تعتبره هي نفسها مغامرة، لكنها، في الوقت نفسه، تستحق أن تخاض.
«النبي» بصيغته السينمائية، يجعل مصطفى رهين دولة ديكتاتورية، وسلطة تفرض عليه أثناء مسيره إلى الميناء، إما التراجع عن أفكاره أو الموت، لكن السلطة وتحت ضغط الجماهير المعتصمة، التي يشبه تجمعها ما نشاهده في ساحات الربيع العربي، تتوصل مع مصطفى إلى صيغة تصالحية تحفظ السلم.
مسير المصطفى في السوق، وصوله إلى الميناء، وداعه لأهالي أورفاليس، كل ذلك يتم في أجواء تشبه إلى حد بعيد ما يمكن أن نراه في مدينة جبيل اللبنانية، أو مدينة متوسطية ساحلية أخرى. إنه فيلم عن الحرية، والدفاع عنها بالكلمة، وتحرر الشعب من الطغيان بالحكمة والمعرفة، وذود الناس المستميت عن شاعرهم، وبمعنى آخر صوت ضميرهم.



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»