سوريا كتعبير مجازي عن الجنس البشري

في مقدمة المجموعة الشعرية «بحار هالكة»، يروي لنا الشاعر حسام الدين محمد «لغزاً سورياً» يستخدم فيه المواجهة التي جمعت أوديب مع أبي الهول الأسطوري. يجيب أوديب بشكل صحيح على اللغز الذي يطرحه أبو الهول، ليُنقذ بذلك مدينة طيبة. عاش أوديب في زمن كان فيه عالم البحر الأبيض المتوسط موحداً، بيد أن الشاعر ليس كذلك: «بالنسبة لسوري مثلي، كان الطريق بأكمله إلى بلدي، وسيبقى دائماً، محفوفاً بالألغاز القاتلة والكلمات الخطيرة».
توفر قراءة المقدمة المهمة للكتاب مدخلاً لفهم القصائد السبعة عشرة التالية، إذ يعود الوجود الجغرافي والتاريخي للأرض إلى عصور قديمة. أطلق عليها الإغريق اسم «سوريا» لكن حين فتحها المسلمون وصولاً إلى سيطرة العثمانيين على جنوب شرقي أوروبا وعلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كان اسمها «بلاد الشام». وخلال فترة من الزمن، أثناء الحرب العالمية الأولى، قسمت القوى الاستعمارية، متمثلة في بريطانيا وفرنسا، وبمساعدة من روسيا، أراضي الدولة العثمانية، عاد اسم بلاد الشام ليصبح «سوريا».
يدعو الشاعر هذه الفترة التاريخية بداية «نهاية العالم»، «أصبحت إقامة هذه الدول سبب ومسرح العديد من الحروب، والحروب الأهلية واضطرابات سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية متواصلة، مؤدية إلى عواقب مأساوية هائلة في المنطقة وفي العالم بأسره».
ومن أجل استيعاب العواقب المأساوية للعالم يكفي النظر إلى سوريا، التي يعتبرها الشاعر: «تعبيراً مجازياً عن الجنس البشري»، ففي نهاية المطاف، بدأت الحضارة بهجرة البشر. أصبحوا مهاجرين. وتاجروا مع بعضهم البعض عبر المناطق الجغرافية. واليوم، يهاجر الناس الذين يواجهون الفقر وقلة الغذاء والإرهاب والحكومات الاستبدادية والتغير المناخي. يكتب الشاعر: «يستجيب بعضنا بأن يصبح عنصرياً كارهاً للأجانب، بينما يبني آخرون جدراناً ضخمة لمنع الآخرين من القدوم، ويقوم البعض الآخر بتدمير الأرض الأم».
لا يرغب الشاعر بكتابة الشعر الذي يتناول المشكلات التي أوقعنا أنفسنا فيها، نحن سكان الأرض. من المخطئ؟ من الذي انتصر؟ من الذي خسر؟ ماذا الآن؟ فهذه الأسئلة العامة حول حالة العالم لا يمكن معالجتها في هذه القصائد السبعة عشرة؛ وربما لا يمكن الإجابة عنها بصورة وافية، وإن حاول العديدون ذلك. إذ اختار الشاعر درباً مختلفاً. فبدلاً من الكتابة بشكل عام عن مشكلات العالم، يحصر شعره في وطنه الأم سوريا وشعبها، الذي يواجه الحرب منذ عام 2011، وقسم من هذا الشعب لا يستطيع الفرار من الحرب، بينما هناك من هرب منها، كلاجئ.
من بين إحدى عشرة قصيدة تدور حول الحرب السورية في المجموعة الشعرية «بحار هالكة»، توضحُ قصيدة «العشاء الأخير للجندي» صوت الشاعر. يغلب اليأس على مزاج هذه القصيدة؛ الصوت هو صوت الشاعر؛ والموضوع هو الحرب؛ والشخصية هي سوريا. وتتألف القصيدة من اثني عشر مقطعاً شعرياً، بيد أن مزاج المقاطع الأربعة الأولى ليس مزاج المقاطع الثمانية المتبقية نفسه. وبينما يتأملُ القراء تطور القصيدة، تصادفهم سردية خارجية تدور حول «هذه الحرب اللعينة»، وسردية داخلية تتعلقُ ببواطن الحرب: تتابع الحربُ تدميرها للجميع.
في المقاطع الأربعة الأولى من قصيدة «العشاء الأخير للجندي»، يصف الشاعر المشهد الخارجي لوطنه الأم، ويبدو أن الغرض من ذلك، تحضير قرائه لما سيأتي في المقاطع الثمانية الأخيرة. في المقطع الأول، يشبه الشاعر «روحاً مهزومة» بـ«بلادي المنتهكة». وفي المقطع الثاني، يحمل على ظهره «أرواح أسلافه»، رغم أن الغزاة طاردوا أرواح أسلافه هذه خارج سوريا. في المقطعين الثالث والرابع، يرمي الشاعر نرده، ليخسر، مرة أخرى، أمله، ويربح يأساً، و«أجثو على ركبتين تقرحتا/ وأنثر على جبيني تربة الحرب اللعينة»، «سأذكر بعد أن أموت/ برق الفناء الأبيض/ يفرش/ مثل عنكب/ شبكته الأبدية».
في المقطع الخامس، ينتقل الشاعر من «الحرب اللعينة» الخارجية إلى تجربة «أخوة» مؤلمة للغاية. ليس من الواضح إن كانت أخوة بين أشقاء، أو إن كانت هذه الأخوة، أخوة سورية. إلا أن المقطع الخامس يغير المنظور الذي يرى من خلاله القراء القصيدة بأكملها، ويُدفعون إلى الشعورِ بالعلاقة المؤلمة بين شقيقين يقاتلان بعضهما البعض حتى «يفوز الرئيس في قصر بعيد». ويصبح الأمر أصعب بكثير في المقطع الثامن حين، «على أحدنا أن يندحر/ كي تنتعظ مذيعة الأخبار/ بأخبار المذبحة».
وفي المقطعين التاسع والعاشر، يحث الشاعرُ الشقيقَ على تذكر مناسبات عاطفية جمعتهما معاً في حياتهما: «أتذكر حين أحببنا فتاة الجيران/ ونلنا صفعات أخيها بالتساوي»، ويخبره الشاعر أنهما شقيقان وليسا عدوين.
المقطع الحادي عشر هو صيحة الحزن الأخيرة للشاعر؛ يبدأ بـ:«أنا مرآة أخي الحاقدة» وينتهي بـ:«وأنا غل خطبته البتراء/ ورجفة يده عند الذبح/ وأنا راية جيشه المغروزة على ظهري». وفي المقطع الثاني عشر والأخير، ينبغي على القراء تمييز الغموض: فهل هو نفسه «أخي الحبيب الذي ذبحني/ وتركني طليقاً دون رأس»؟ وهل يعود الشقيقان معاً إلى والدتهما «التي/ مذهولة/ تنتظر ضحكاتنا على العشاء»؟
أما القصائد الستة التي تشكل بقية القصائد السبع عشرة في المجموعة الشعرية، فترتبط بالقصائد الإحدى عشرة المتعلقة بسوريا والحرب. وتتميز واحدة من هذه القصائد الست باعتبارها وسيلة مجازية غنية تحمل القراء إلى عالم آخر، وهي قصيدة «بوذا الحديقة». ففي هذه القصيدة المؤلفة من سبعة مقاطع شعرية، يسلم الشاعر «هشاشته للأرض» ويختفي في التراب. يلعب مع الحلازين، وينام في العشب، ويستيقظ حين يتوهج فحمه. ونقرأ في المقطع الخامس، وهو أحد أجمل المقاطع في القصيدة: «خلعت ثوبي الآدمي/ لبست ثوب الأرض/ حُلت إلى تراب/ تكفلت أمي السقاية والضياء/ فأورق منبتي/ وكبرت في رحم الحديقة كالجنين». وفي المقطع السادس، ينام «في مهرجان الأرض»، وينتهي المقطع الشعري الأخير بـ:«أشرب حبة اليخضور/ كي تحيا الحياة/ وينقلب الوجود على العدم».
إن تحول الشاعر في قصيدة «بوذا الحديقة» يخرجه من اليأس. وتبدو القصيدة متناقضة تماماً مع القصائد الإحدى عشرة الباقية التي يتخذ فيها شاعر عديم القوى موقفاً من عدو، بما في ذلك شقيقه. في هذه القصيدة، تحيا الحياة بينما ينقلب الوجود على العدم.

- رئيسة تحرير موقع «bookcover2book» ومؤسسة «The Write Launch» ترجمة يسرى مرعي