رشاد العليمي... الرئيس الآتي من أعماق الدولة اليمنية

قائد «مجلس التوافق» للسلم والحرب

رشاد العليمي... الرئيس الآتي من أعماق الدولة اليمنية
TT

رشاد العليمي... الرئيس الآتي من أعماق الدولة اليمنية

رشاد العليمي... الرئيس الآتي من أعماق الدولة اليمنية

واجه الدكتور رشاد العليمي الموت في انفجار دار الرئاسة، وغلبه. وعندما ضُمّدت جراحه الجسدية والنفسية، وجد الشجاعة الكافية لمغادرة «مؤتمر» علي عبد الله صالح، الذي كاد يهوي بحياته معه بتفجير دار الرئاسة عام 2011. وذات يوم، صار العليمي عنواناً عريضاً وحلاً لتعقيدات السياسة اليمنية ومماحكات لاعبيها. لم يحالفه الحظ في تمرير قانون يمنع حمل السلاح في اليمن، لكنه مرر قانوناً يمنع حمله في الأماكن العامة عام 2006. بعدها اختارته التعقيدات وزكّاه الفرقاء رئيساً لمجلس القيادة الرئاسي، بعد عشرة أيام من «مشاورات الرياض» التي توّجها إعلان رئاسي مطلع أبريل (نيسان) 2022. وضرب العليمي نموذجاً توافقياً بقيادته التحالف الوطني للأحزاب والقوى السياسية الذي يضم 17 حزباً يمنياً مناهضاً للانقلاب الحوثي على رأسهم «المؤتمر الشعبي العام» و«التجمع اليمني للإصلاح» عام 2019.
يقول مقربون، إن الدكتور رشاد العليمي، رئيس مجلس القيادة الرئاسي في اليمن، تعالج من آثار تفجر دار الرئاسة الإرهابي في السعودية 6 أشهر وقضى 6 أشهر أخرى في ألمانيا، واستطاع تجاوز الألم العضوي سريعاً لهمّته وانتظامه في تنفيذ نصائح الأطباء. كما أنه استطاع تجاوز التأثير النفسي الذي عادة ًيؤثر في مثل هذه الحوادث، «بل واستطاع التأثير الإيجابي على زملائه المصابين بتجاوز هذه التأثيرات».
توسد الرئاسة، وهو أول حكام اليمن آخر 30 سنة من خارج الإطار العسكري البحت، ووصل آتياً من أعماق دهاليز الدولة اليمنية وفسيفساء تركيبتها الاجتماعية والمؤسساتية وأبعادها الأكاديمية.

الفرصة الأخيرة للبناء
يقول الدكتور محمد عسكر وزير حقوق الإنسان اليمني السابق «أعتقد أن تولي الدكتور العليمي دفة القيادة في هذه المرحلة يشكّل الفرصة الأخيرة لبناء دولة في هذه المرحلة من تاريخ اليمن. لكن نجاحه يتطلب شروطاً موضوعية وذاتية لخلق تحالف داخلي صلب ذي رؤية، ومشروع واضح يواجه تحديات بناء المؤسسات، وتوفير الخدمات باعتبارها أبرز تحديات السلام، كما يواجه تحديات الحرب في مواجهة الانقلاب الحوثي». ويضيف «إن نجاحه والمجلس يتطلبان أيضاً دعماً قوياً اقتصادياً وسياسياً من الأشقاء في التحالف بقيادة السعودية والإمارات، ومن الإقليم والمجتمع الدولي».

قبول إقليمي ودولي
أما حمزة الكمالي، وكيل وزارة الشباب والرياضة اليمني، فيصف العليمي بأنه «لا يكتفي بالحضور الهزيل أو أن يكون مجرد جزء من التركيبة السياسية دون أن يكون فاعلاً»، متابعاً «لديه حس سياسي، وقبول إقليمي ودولي سينعكس حتماً على حضور الدولة اليمنية».
وحقاً، عندما يتحدث اليمنيون عن عمله السياسي، يشعر المستمع أنه أمضى طيلة حياته يضرب بمطرقة التوافقات وإزميل التنافس الحزبي، ولعل فاعليته إبان عضويته في «المؤتمر الشعبي العام»، أو نفسه الطويل قبل تكوين التحالف الوطني للأحزاب والقوى السياسية، خير الأمثلة على ذلك.
وإذا تذكروا عمله الحكومي، فقد تتعجب من منعطفات تركت بصمات الرجل في جل مهامه التي أوكلت إليه.
وإذا حضر الإنجاز الأمني كثرت قصص «الانتشار الأمني» و«مكافحة حمل السلاح» وصولات «مكافحة الإرهاب»، فإن المخيلة الجمعية تصوّر ضابطاً لم يغادر مقر وزارة الداخلية اليمنية في صنعاء قط، أو حتى مبنى الأمن في تعز، المحافظة التي وشت بقدرات الرجل مرتين، الأولى حينما حملت صرخته الأولى مقبلاً للحياة، والأخرى التي سبقت توزيره بإدارة أمن المحافظة.

علاقات اجتماعية جيدة
أما عمله الأكاديمي، فخليط من القانون وعلم الاجتماع وكتب عن حل النزاعات القبلية، بالإضافة إلى فهم عميق لفسيفساء التعقيدات اليمنية.
إلا أن كل الإنجازات قد توضع في كفة، مقدار الاحترام الاجتماعي الذي يتمتع به الرجل داخل اليمن وخارجه قد يوضع في كفة أخرى. فالرجل من السياسيين اليمنيين قلائل الذين يتمتعون بعلاقات اجتماعية جيدة في شمال اليمن مثل جنوبه، وخير استدلال قبول 4 نواب لرئيس المجلس الرئاسي من جنوب اليمن.
ذلك أن لدى العليمي في الخليج والعالم العربي علاقات وطيدة، سواءً نتيجة دراسته في الكويت أو لتمثيله اليمن خلال فترات عمله نائباً لرئيس الوزراء أو وزيراً للداخلية أو الإدارة المحلية.
أما علاقاته الدولية، فهي نتاج عمله في ملفات أمنية كمكافحة الإرهاب، أو سياسية بحتة تمثلت بعد الانقلاب الحوثي في لقاءات لم تنقطع مع سفراء الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، أو سفراء مجموعة أصدقاء اليمن أو ما تعرف بدول (19+).

إدراك مبكّر
الدكتورة ألفت الدبعي، عضو لجنة صياغة الدستور الاتحادي اليمني، كانت معيدة في جامعة تعز عام 1998 وتتذكر العليمي مدير أمن تعز آنذاك والأستاذ المنتدب من جامعة صنعاء، وعنه قالت لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدكتور العليمي لما اتجه إلى العمل بوزارة الداخلية، مثّلت طبيعة دراسته الأكاديمية في علم الاجتماع، بالإضافة إلى خلفيته في العلوم العسكرية في كلية الشرطة وتجربته العملية كوزير داخلية، رصيداً جعله أقرب إلى معرفة المشكلات الرئيسية المعيقة لجذور التحديث في اليمن وبناء دولة المواطنة والمساواة، وهو ما انعكس في تبنيه مشروع قانون حيازة السلاح الذي تقدم به إلى البرلمان عام 2006».
وتضيف الدبعي «كان العليمي يدرك خطورة بقاء السلاح في اليمن بالفوضى وإعاقة أي مشاريع للتحديث، وهو ما كان ينعكس في بقاء مراكز النفوذ التي كان سلاحها يجابه مشاريع الدولة إذا تضاربت المصالح. وهذا ما تم في التصويت على القانون آنذاك بالرفض من قبل القوى (التقليدية) التي أعاقت صدوره، وبالتالي أعاقت أي تقدم لليمن باتجاه التحديث». ورغم عرقلة مساعي إقرار قانون حيازة السلاح، فذلك لم يمنع ظهور العديد من أفكار التحديث التي كان له فضل تمريرها، وذلك أثناء عمله وزيراً للداخلية، من فكرة الشرطة القضائية والشرطة النسائية وغرف العمليات الإلكترونية إلى كتائب مكافحة الإرهاب»، بحسب الدبعي.
لقد كانت تعز مرحلة للنجاح الحكومي. والعليمي، الذي يبلغ اليوم 68 سنة، يتمتع باطلاع واسع ومعرفة في تفاصيل هياكل مؤسسات الدولة. هذا ما يعتقده الدكتور محمد عسكر، وهو وزير حقوق الإنسان اليمني السابق، الذي تحدث لـ«الشرق الأوسط» عن قدرة العليمي على اكتشاف عوائق وإشكاليات البناء المؤسسي اليمني سابقاً وحالياً، وسبل إعادة ذلك البناء وتطويره... وقال معلقاً «لقد تعمّق في دراسة المجتمع اليمني علمياً وعملياً والإشكاليات التاريخية والجغرافية في بنية المجتمع، التي واجهت وما زالت تواجه تماسكه».

رجل المرحلة
وجد اليمن نفسه بعد سبع سنوات من الانقلاب الحوثي والحرب أمام مجلس رئاسي يقوده العليمي وأعضاء سبعة، كل واحد منهم برتبة نائب لرئيس المجلس، ومثلما فرّقتهم السياسة جمّعتهم. ولكن كان الفرق هذه المرة أن العليمي مثّل ميزان إجماع للقوى المناهضة للانقلاب والمشروع الإيراني، وبارقة أمل جادة وجديدة لاستعادة الدولة سلمياً، والدفاع عنها، وتحريرها إذا قضت الضرورية، عسكرياً.
«في ظل التشظّي الذي تعاني منه البلاد والانقسامات على المستوى العسكري والأمني والسياسي، تصبح الحاجة إلى من يعيد تركيب هذا التفكك مطلباً ملحاً. وعملية مثل هذه تحتاج إلى رجل دولة حقيقي يفهم جذور الصراع في اليمن وخلفياته ويساهم في قيادة توافقات عملية باتجاه وحدة القرار والهدف واستعادة مؤسسات الدولة». وتوضح ألفت الدبعي «ما كان يمكن لأي رجل دولة أن يستطيع إنجاز هذه المهمة بما يحقق الاستقرار ويقود البلد للسلام... ما لم يكن يمتلك رؤية عالم الاجتماع في قراءته للمشهد اليمني وجذور الصراع فيه. وهنا يصبح الدكتور رشاد العليمي بحكم امتلاكه هذه الخلفية المعرفية كأستاذ أكاديمي في علم الاجتماع، بالإضافة إلى تجربته العملية كسياسي مخضرم في المؤتمر الشعبي العام، فضلاً عن تقلده مناصب أمنية عديدة، منها عمله وزير داخلية ونائب رئيس وزراء ووزير إدارة محلية، كل ذلك - وفق الدبعي - يجعله أقرب لفهم تعقيدات الصراع في اليمن بكل أبعاده الأمنية والعسكرية والسياسية والاجتماعية، وخطورة المشروع الإيراني في فرض تدخلاته على المشهد اليمني وتأثير ذلك على دول الجوار».
وتتابع الدبعي شرحها، قائلة «خبرته كوزير سابق في الإدارة المحلية تجعله أقرب لمعرفة احتياجات ومعاناة المحليات من مركزية القرارات. وأتوقع سيكون له دوره الفاعل في إيجاد حلول لهذه المعضلة اليمنية المسببة لأحد جذور الصراع الأساسي في اليمن، وهو إشكالية إعادة توزيع السلطة والثروة في اليمن». وتستطرد بالقول، إن «الدكتور العليمي كسياسي يدرك خطر إعادة مشروع الإمامة في اليمن وعلاقته بإيران، ولعل عمله في المجال الأمني كوزير داخلية مكّنه من استيعاب الإبعاد الأمنية لتحركات هذا المشروع من وقت مبكر. ومع استيعابه لذلك إلا أنه يدرك في الوقت نفسه أن تثبيت مشروع دولة المواطنة والمساواة والنظام والقانون يشكل المدخل الوحيد لإضعاف أي مشاريع خارج إطار الدولة... وهو المشروع الذي لم نستطع الوصول إليه حتى اليوم».

مسيرة وتوثب مهني
مرحلة البداية والتكوين المهني بالنسبة للعليمي كانت جادة ومتوثبة. فبعد ثلاث سنوات في كليّة الشرطة بصنعاء بدأت عام 1975، انتقل على امتداد ثلاث سنوات أخرى في إدارة البحث الجنائي بين عامي 1978 و1981.
العام 1989، الذي يسبق الوحدة اليمنية بعام، حمل علامة بارزة في بدايات العليمي المهنية والوظائفية؛ إذ عُين أستاذاً في جامعة صنعاء ومديراً للشؤون القانونية بوزارة الداخلية في الوقت نفسه.
وأمضى العليمي من ثم أربع سنوات قبل أن يُسمّى رئيساً لمصلحة الهجرة والجوازات في العام 1994. ويحسب له إدخال منظومة الإصدار الآلي للجوازات، بحسب الدكتورة الدبعي، ثم أمضى سنتين أخريين، ليعود إلى مدينته تعز مديراً لأمن محافظة تعز في العام 1996.
وبعد ذلك، حملت الألفية الجديدة نقلة نوعية في سجل عمل العليمي الحكومي؛ إذ سُمي وزيراً للداخلية عام 2001، ثم نائباً لرئيس الوزراء وزيراً للداخلية في 2006. وفي العام 2008 صار نائباً لرئيس الوزراء لشؤون الدفاع والأمن، وفي العام نفسه عُيّن نائباً لرئيس الوزراء لشؤون الدفاع والأمن وزيراً للإدارة المحلية.
إلا أن رياح العام 2011 هبّت، بم يسمى لشغل أي منصب حتى عام 2014، لكن في شهر فبراير (شباط)، حين سُمي مستشاراً لرئيس الجمهورية السابق عبد ربه منصور هادي، ثم اختير رئيساً لمجلس قيادة رئاسي يضم سبعة أعضاء نواب للرئيس.



كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
TT

كمال المدّوري... رئيس حكومة تونس الجديد أكاديمي مستقل أولويته «الأمن الاجتماعي»

عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية
عندما اختاره الرئيس سعيّد وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم رئيساً للحكومة يوم 7 أغسطس، أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية

فاجأ الرئيس التونسي قيس سعيّد المراقبين السياسيين داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يتابعون «مستجدات ملفات الانتخابات الرئاسية»، فأعلن قبل أسابيع من الموعد الانتخابي عن تغيير حكومي واسع، وتعيين البروفسور كمال المدّوري، وهو شخصية أكاديمية وإدارية وسياسية مستقلة، على رأس الحكومة الجديدة خلفاً للمستشار القانوني المخضرم أحمد الحشّاني الذي مرت سنة واحدة على تعيينه رئيساً للوزراء. المدّوري ليس غريباً عن قصر رئاسة الحكومة، إذ سبق له أن تولى منصب مستشار قبل تعيينه في مايو (أيار) الماضي وزيراً للشؤون الاجتماعية تتويجاً لمسيرة أكثر من 20 سنة على رأس عدد من المؤسسات الحكومية المكلفة بملفات «الأمن الاجتماعي». والواضح أن الرئيس التونسي عبر تعيينه «صديق النقابيين» والخبير الدولي في التفاوض على رأس الحكومة، استبق محطة 6 أكتوبر (تشرين الأول) الانتخابية التي يريد أن يعبر بها إلى «الدورة الرئاسية الثانية»، وسط تزايد مخاوف المعارضة والنقابات من تسارع «تدهور أوضاع الاجتماعية للطبقات الشعبية بسبب نسب التضخم والبطالة والفقر المرتفعة».

يأتي قرار الرئيس قيس سعيّد تعيين البروفسور كمال المدّوري رئيساً جديداً للحكومة بمثابة «سحب البساط» من تحت معارضيه النقابيين والسياسيين، الذين تضاعفت انتقاداتهم مع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، وتزايد الكلام عن تدهور القدرة الشرائية للعمال والمتقاعدين والفقراء، رغم القرارات الرئاسية الجديدة، ومنها ترفيع جرايات التقاعد ورواتب قطاع من الأجراء.

وبدا واضحاً وجود إرادة سياسية للتأكيد على أن القرارات المركزية للدولة، بما فيها تلك المتعلقة بالأمن الاجتماعي ومستقبل الاقتصاد «تصنع في قصر الرئاسة» في قرطاج ، بصرف النظر عن مآلات انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

مستقل من «حزب الإدارة»

لقد نوّه عدد ممّن عملوا مع المدّوري طوال السنوات العشرين الماضية، في المؤسسات الحكومية والإدارية للدولة، بخبرته في تسيير مفاوضات الحكومة مع نقابات العمال ورجال الأعمال داخلياً، وأيضاً نجاحاته الدولية عبر دوره في مفاوضات تونس مع المفوضية الأوروبية حول «سياسة الجوار الأوروبية» و«وضعية الشريك المميّز».

وفي حين كانت البعثات الأوروبية والدولية المفاوضة في بروكسل وبرشلونة وجنيف تدفع تونس ودول جنوب البحر الأبيض المتوسط - كما هو مألوف - نحو «تحرير» الاقتصاد بتقليص العمالة، وتخفيف «الأعباء الاجتماعية للدولة»، و«خفض نسبة الرواتب في ميزانية الدولة»، صمد المدّوري ومعه الفريق الحكومي التونسي في وجه هذا الدفع. بل مارس هو ورفاقه دفعاً مضاداً ضاغطاً على «الشركاء الأوروبيين» والمؤسسات الدولية من أجل إبعاد تونس عن تجرّع مرارة الاقتطاعات الخدمية المرتجلة والمؤلمة شعبياً التي قد تفجّر اضطرابات أمنية اجتماعية سياسية وأعمال عنف، كالأحداث الدامية والمواجهات التي عرفتها تونس مطلع عامي 1978 و1984، ثم منذ 2010 - 2011.

هذا الرصيد كان على يبدو أحد أسباب اختيار رئيس الدولة لهذا الأكاديمي والإداري المجرّب لترؤّس الحكومة. وبالمناسبة، كان المدّروي أحد طلبة سعيّد في كلية الحقوق والعلوم القانونية والسياسية والاجتماعية، قبل أن ينضم إلى «حزب الإدارة»، أي إلى صفّ «كبار الموظفين في جهاز الدولة» الذين ليست لديهم انتماءات حزبية أو سياسية، بل تميّزوا باستقلاليتهم وحيادهم وولائهم «للوظيفة الحكومية» بصرف النظر عن الحاكم.

ابن «الجهات المهمشة»

من جهة ثانياً، بخلاف معظم رؤساء الحكومات منذ 1955، فإن المدّوري من مواليد «الجهات الزراعية المهمّشة»، وتحديداً مدينة تبرسق الجبلية الصغيرة، الواقعة على مسافة 100 كيلومتر جنوب غربي العاصمة تونس، والغنية بمياهها العذبة ومزارعها الجميلة.

هذه المدينة الصغيرة أسّست قبل أكثر من 2000 سنة في عصر «اللوبيين» قرب مدن تاريخية قرطاجنية رومانية ونوميدية شهيرة مثل دقة وباجة والكاف، ناهيك من بلاريجيا، عاصمة «النوميديين»، حسب المؤرخ والمفكر التونسي محمد حسين فنطر. وكان اسمها الأصلي القديم «تبرسوكوم»، أي «سوق الجلود»، باعتبار تلك المنطقة الواقعة شمال غربي تونس غنية فلاحياً، وتنتشر فيها الزراعات الكبرى للحبوب وتربية المواشي. غير أنها صارت مهمشة منذ 70 سنة.

ويبدو أن الرئيس سعيّد - وهو من مواليد تونس العاصمة، لكن أصوله تعود إلى الأرياف الزراعية بمحافظة نابل (100 كيلومتر شرق العاصمة) - أراد باختيار تلميذه السابق توجيه رسالة ردّ اعتبار لأبناء الجهات الفقيرة والمهمّشة. وهي الرسالة ذاتها التي ربما أراد توجيهها عندما عيّن هشام المشيشي ابن بلدة بوسالم، في محافظة جندوبة الحدودية مع الجزائر، وزيراً للداخلية ثم رئيساً للحكومة في 2020 و2021.

«تكنوقراط» وسياسي

في أي حال، منذ الإعلان عن تعيين المدّوري رئيساً للحكومة تفاوتت التقييمات لشخصيته ومؤهلاته. إذ انتقد بعض الساسة والكتّاب، بينهم وزير التربية السابق وعالم الاجتماع سالم الأبيض، تعيين شخصية «غير سياسية» على رأس الحكومة. وقال الأبيض إن تعلّم السياسة «ليس أمراً يسيراً بالنسبة لتكنوقراطي» يخلو رصيده من تجارب مع الأحزاب والحركات السياسية القانونية وغير القانونية وأخرى مع مؤسسات المجتمع المدني.

ولكن، في المقابل، ثمّن آخرون «ثراء تجربة» رئيس الحكومة الجديد، ولا سيما كونه طوال أكثر من 20 سنة من أبرز كوادر الإدارة والدولة الذين تفاوضوا مع قيادات نقابات العمال ورجال الأعمال والمزارعين وهيئات صناديق «الضمان الاجتماعي والتقاعد» التي تهم ملايين الموظفين والمتقاعدين في القطاعين العام والخاص في البلاد. وللعلم، شملت تلك المفاوضات الملفات «السياسية والاجتماعية الحارقة»، بينها القضايا الخلافية التي كانت تتسبب في تنظيم آلاف الإضرابات العمالية وغلق مئات الشركات أو نقل جانب من أنشطتها خارج تونس.

وبناءً عليه، عندما وقع عليه اختيار الرئيس سعيّد يوم 25 مايو (أيار) الماضي وزيراً للشؤون الاجتماعية، ثم يوم 7 أغسطس (آب) رئيساً للحكومة، فإنه لا بد أنه أخذ في الحساب خلفيته الإدارية وخبرته الطويلة في الملفات النقابية والسياسية. ثم إن تعيين المدّوري الآن يؤكد تزايد البُعد السياسي الاستراتيجي لقطاع «الأمن الاجتماعي»، وأيضاً اعتماد «نظام رئاسي مركزي» منذ 2021.

خلفيات أكاديمية وصلات خارجية

أكاديمياً، تخرّج المدّوري أولاً في الجامعة التونسية، وتحديداً في كلية الحقوق والعلوم السياسية والقانونية بتونس، التي كانت مناهجها الأقرب إلى مناهج الجامعات الفرنسية. وفي الوقت نفسه، تابع دراساته العليا في جامعات أوروبية، وحصل على شهادة «دكتوراه الحلقة الثالثة» في قانون المجموعة الأوروبية والعلاقات المغاربية الأوروبية. وأهّلته هذه الشهادة الجامعية الأوروبية لاحقاً للعب دور بارز خلال مفاوضات تونس مع الاتحاد الأوروبي ومع الدول المغاربية حول «المنطقة الحرة الأورو متوسطية» والشراكة الاقتصادية وبرامج «سياسة الجوار».

بالتوازي، يُعد الرجل من جيل «المخضرمين» كونه حصل أيضاً على شهادات عُليا من مؤسسات جامعية خاصة بكبار الكوادر السياسية للدولة، بينها شهادة ختم الدراسات بالمرحلة العليا في «المدرسة الوطنية للإدارة» في تونس، وأخرى من معهد الدفاع الوطني. ولقد مكّنته هذه الشهادات والخبرة من التدريس في جامعات إدارية مدنية وأمنية وعسكرية، منها المدرسة العليا لقوات الأمن الداخلي. وأيضاً، ساعدته هذه الخبرة المزدوجة الإدارية السياسية الأمنية العسكرية كي يكون «مفاوضاً دولياً»، بما في ذلك مع مؤسسات «مكتب العمل الدولي» في سويسرا ومكاتب العمل وصناديق التنمية العربية والإقليمية وغيرها من المؤسسات التي تجمع في الوقت عيّنه ممثلي الحكومات ومنظمات رجال الأعمال ونقابات العمال.

وبحكم خصوصية الشراكة بين تونس مع ليبيا والجزائر والمغرب، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً، ساهم المدّوري مطولاً في المفاوضات مع الشركاء المغاربيين حول ملفات «الأمن الاجتماعي».

مسؤوليات

من جانب آخر، نظراً لما تشكو منه آلاف المؤسسات العمومية والخاصة في تونس منذ عهد الرئيس زين العابدين بن علي من صعوبات مالية وعجز عن تسديد مساهماتها في «الصناديق الاجتماعية»، عيّن كمال المدّوري خلال العقدين الماضيين الماضية ليرأس «الإدارة العامة للضمان الاجتماعي» في وزارة الشؤون الاجتماعية ثم مؤسسات صناديق التقاعد والتأمين على المرض. وكانت مهمته سياسية بامتياز: إبرام اتفاقات بين الحكومة والقطاع الخاص والنقابات وتجنيب البلاد مزيداً من الإضرابات والاضطرابات، ثم إنقاذ الصناديق الاجتماعية من سيناريوهات الإفلاس والعجز عن دفع مستحقاتها لملايين العمال والموظفين والمتقاعدين.

وفعلاً أبرمت الصناديق الاجتماعية والنقابات والحكومة بفضل تلك الجهود، قبل سنوات، اتفاقيات أثمرت «إصلاحات جذرية» تخلّت الدولة بفضلها عن «الحلول السهلة»، وبينها سياسة «التداين من البنوك التونسية» بصفة دورية بهدف تسديد رواتب الموظفين وجرايات المتقاعدين.

صعوبات وأوراق سياسية

في المقابل، لا يختلف اثنان على حجم المخاطر الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الأمنية التي ستواجهها الحكومة الجديدة ورئيسها، في مرحلة تعمقت فيها التناقضات بين النقابات والمعارضات والسلطات المركزية، وتوشك أن تزداد عمقاً بعد انتخابات 6 أكتوبر.

ولا شك أن الرئيس سعيّد أدرك ذلك، ولذا أبعد شخصيات «مثيرة للجدل» من قصري قرطاج والقصبة، وغيّر أكثر من ثلثي الفريق الحكومي. وفي المقابل، اختار مزيداً من «التكنوقراط» الذين ليست لهم «صفة آيديولوجية وحزبية»، وطالبهم بالانسجام في الحكومة الجديدة. وبالفعل، أسفر «التعديل الحكومي الأول» الذي أجراه سعيّد ورئيس حكومته الجديد قبل أيام عن إبعاد مزيد من رموز المشهد السياسي والآيديولوجي القديم، وتعيين مزيد من «الخبراء المستقلين» الأكثر انسجاماً مع «دستور 2022»، الذي نصّ على كون مهمة رئيس الحكومة وكامل الفريق الحكومي «مساعدة رئيس الجمهورية» على إنجاز برامجه وسياسته، لا العكس.