بعد أسابيع من الجدل بين الأحزاب السياسية في ألمانيا، مرّر أخيراً البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) قانوناً يدعو الحكومة لتصدير أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا، لتمكينها من الدفاع عن نفسها في حربها مع روسيا.
ورغم تردد الحزب الاشتراكي الحاكم في الموافقة على دعم هكذا اقتراح، فإن موافقته أخيراً وتوحد الأحزاب الثلاثة الحاكمة مع حزب المعارضة الرئيسي الذي قادته المستشارة السابقة أنغيلا ميركل لـ20 عاما، شكّلا خطوة مهمّة أثبتت فعلاً مدى التغيير العميق الذي لحق بالأحزاب السياسية في ألمانيا منذ بدء الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي.
والتغيير الحاصل واضح في كل الأحزاب الكبيرة والمتوسطة، باستثناء الحزبين المتطرفين «البديل لألمانيا» اليميني و«دي لينكا» اليساري. كلاهما رفض التصويت لصالح القانون، الأول لأسباب سياسية والآخر لأسباب تاريخية.
ويتخذ الحزبان المقربان من روسيا موقفاً موحداً برفض تقديم الدعم العسكري لكييف بحجّة أنه قد يشعل الحرب أكثر. ويعد حزب «البديل لألمانيا» مقرّباً من روسيا منذ صعوده إلى السلطة ودخوله البرلمان للمرة الأولى عام 2017، وقد قام عدد من نوابه في السنوات الماضية بزيارات متكررة إلى موسكو التي تقدم الدعم للحزب في المقابل. أما حزب «دي لينكا» الذي تم تشكيله من بقايا الحزب الاشتراكي في ألمانيا الشرقية التي حكمها السوفيات بعد الحرب العالمية الثانية، فهو ما زال مرتبطاً سياسياً بروسيا ويحافظ على علاقات مقربة معها من هذا المنطلق.
ولكن باستثناء هذين الحزبين الصغيرين، فإن تغييرات جوهرية لحقت بالأحزاب الأخرى منذ بدء الحرب في أوكرانيا. وقد يكون التغيير الأكبر هو ذاك الذي شهده حزب الخضر، الشريك الأساسي في الحكومة اليوم، الذي يمسك بوزارتي الخارجية والاقتصاد من بين غيرهما.
عندما دخل حزب الخضر للمرة الأولى إلى «البوندستاغ» عام 1983 بـ28 نائباً، بدا نوابه أشبه بأعضاء فرقة موسيقية وليس أعضاء مجلس نواب. الصور الأرشيفية لأعضاء البرلمان في ذلك العام، تظهر نواب الخضر جالسين وسط المجلس يرتدون صنادل وأحذية رياضية ولباساً غير رسمي. الرجال منهم كانوا ملتحين بشعور الطويلة منسدلة على أكتافهم، والنساء بشعور قصيرة وثياب فضفاضة. كانوا حينها أقرب لدعاة السلام حالمين من كونهم حزباً سياسياً. حتى هم كانوا يعتبرون أنفسهم ممثلين «لشرائح اجتماعية وليس لأحزاب سياسية». كانوا يعارضون الحروب والمشاركات العسكرية وأي نوع من التوسع الدفاعي لألمانيا.
التباين بين حزب الخضر آنذاك وما بات عليه اليوم لا يمكن أن يكون أكبر. فالحزب تحوّل الآن إلى الصوت الأعلى داخل الحكومة الذي يدعو إلى تسليح أوكرانيا وتقديم أكبر دعم عسكري ممكن لها في حربها ضد روسيا. ونجح حزب الخضر في تحريك الحزب الاشتراكي الذي يقود الحكومة، وإقناعه بدعم القانون الذي تم تمريره يوم أمس في «البوندستاغ» بأغلبية كبيرة والذي يدعو لإرسال أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا. وباتت وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك التي كانت زعيمة «الخضر» قبل دخولها الحكومة، من أعلى الأصوات المنتقدة لروسيا، والوزيرة الأكثر شعبية.
ورغم أن التغييرات التي شهدها «الخضر» كانت تدريجية منذ عام 1983، فإن تخليه عن الدور «المسالم» الرافض للتدخلات العسكرية لم يحصل إلا بعد الحرب في أوكرانيا. فطوال السنوات الماضية، ظل الحزب يصوّت ضد تمديد المهام العسكرية للجيش الألماني في أفغانستان ومالي وغيرهما. وبقي كذلك رافضاً لمد دول تشارك في نزاعات بالأسلحة. ولكنه اليوم، بات من أكثر الأحزاب التي تروج لزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا وزيادة تمكين الجيش الألماني الهرم بفضل سنوات من سياسات تخفيض ميزانيته، حرصاً على إبقائه ضعيفاً عمداً لتفادي أخطاء الماضي. وحتى الجناح «المسالم» داخل «الخضر» اليوم، لم يعارض سياسات تسليح أوكرانيا وزيادة الدعم العسكري للجيش الألماني.
أما الحزب الاشتراكي الحاكم، أقدم الأحزاب الألمانية، فهو أيضاً عاش تقلبات سياسية كبيرة، وإن كانت ارتداداتها الداخلية ما زالت تتفاعل بين أعضائه. فالمستشار أولاف شولتز الذي ينتمي للحزب الاشتراكي، اتّخذ قرارات وصفت بالتاريخية، بعيد بدء العملية العسكرية الروسية من زيادة الدعم العسكري للجيش ورفع الإنفاق الدفاعي إلى 2 في المائة من الناتج الإجمالي العام، إلى إرسال أسلحة دفاعية إلى أوكرانيا. فالحزب الاشتراكي عارض كل هذه السياسات لسنوات، ودعم فيها حزب ميركل، الحزب المسيحي الديمقراطي، طوال سنوات مشاركته في الحكومات المتعاقبة التي أدارتها المستشارة السابقة.
ولكن على خلاف حزب الخضر، ورغم التغيير العميق في سياساته، فقد اصطدم الحزب الاشتراكي بعوامل مختلفة تدفعه للتردد في اعتماد سياسة أكثر تشدداً مع روسيا ودعماً لأوكرانيا. وظهر هذا التردد جلياً في الجدل الذي استمر أسابيع حول نوع الأسلحة التي يريد إرسالها إلى أوكرانيا. ولكن العقبة الكبرى أمامه الآن تتمثل بالعلاقات الاقتصادية التي هندسها الحزب طوال العقود الماضية مع روسيا، والتي بنيت انطلاقاً من سياسة الـ«أوستبوليتيك» أو سياسة «التقارب مع الشرق» التي بدأها المستشار الأسبق غيرهارد شرودر عندما كان في السلطة بين عامي 1998 و2005.
خلال هذه السنوات، نجح شرودر في رسم علاقات اقتصادية قوية مع روسيا، خصوصاً في مجال الطاقة، تمثّلت ببناء خط أنابيب غاز «نوردستريم 1» الذي يصل الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، ومهدت لكي تصبح ألمانيا من أكبر مستوردي الغاز الروسي، إذ تعتمد برلين اليوم في غازها بنسبة 65 في المائة على الغاز الروسي. وبعد خروجه من السلطة، رسم شرودر علاقات شخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي عينه في مناصب إدارية في شركات الغاز والنفط الروسية، وحوّل المستشار الألماني الأسبق إلى أكبر داعميه والمروجين لسياسات التقارب مع روسيا في ألمانيا. ومهد الطريق لمشروع «نوردستريم 2» الذي كان سيضاعف الغاز الروسي المباشر إلى ألمانيا، وأعلن شولتز عن تعليقه مع بداية الحرب في أوكرانيا.
وشرودر الذي ما زال مصراً على مواصلة علاقته بالكرملين، ليس الوحيد داخل الحزب الاشتراكي الذي يحظى بشبكة علاقات واسعة في روسيا. فالرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير هو أيضاً يتمتع بهكذا علاقات، رغم أنه لا يستفيد مالياً منها حالياً كونه ما زال يحتفظ بموقع رسمي. ولكن رفض أوكرانيا استقباله في كييف قبل أسابيع، يدل على أن الاشتراكيين ما زالوا يرفضون قطع علاقة التقارب مع روسيا بشكل كلي. وهذه السياسة تحديداً هي التي تمنع شولتز من دعم الدول الأوروبية الأخرى في قرار وقف استيراد النفط والغاز الروسي فوراً.
ومع ذلك، فإن خطة حكومة شولتز بوقف الاعتماد على الغاز الروسي خلال عامين بعد تعليقه مشروع «نوردستريم 2»، ما زالت نقطة تحول كبيرة في سياسات حزب آمن لعقود بسياسة التقارب مع روسيا، وما زال يجد صعوبة في الابتعاد عنها.
كذلك شهد حزب ميركل الذي بات في المعارضة، تغييرات كبيرة منذ الحرب مع أوكرانيا. وصدرت تصريحات من سياسيين داخل الحزب، منهم وزيرة الدفاع السابقة أنغريت كرامب كارنباور، تحدثت عن «سذاجة» داخل الحزب في مقاربة السياسة مع روسيا طوال السنوات الماضية.
ورغم هذه التغييرات الكبيرة التي لحقت بالأحزاب، فإن الوضع الاقتصادي يبدو أنه يقيّد قرارات الحكومة الألمانية، أو تحديداً الحزب الاشتراكي الذي يرأسها، ويمنعه من فرض عقوبات اقتصادية أقسى على روسيا، قد يكون وقعها على ألمانيا أشد. ويبرر الحزب الاشتراكي تردده بوقف الغاز الروسي فعلاً بأرقام التضخم في ألمانيا التي وصلت إلى مستويات قياسية في الأسابيع الماضية، وبلغت في مارس (آذار) الماضي 7.3 في المائة، وهي النسبة الأعلى منذ عام 1981.
ومع استمرار التوقعات بأن ترتفع نسبة التضخم أكثر، تطارد ألمانيا ذكريات الأزمة الاقتصادية التي لفت البلاد بعد الحرب العالمية الأولى، وأدّت إلى تضخم مفرط أسهم بوصول الحزب النازي إلى السلطة عام 1933، هذا وحده، يبرر التردد باتخاذ مواقف أكثر تشدداً من روسيا. ولكن المؤكد أن سياسة ألمانيا بالتقارب غير المحدود مع موسكو والمسالمة غير المحسوب حسابها، باتت سياسات من الماضي.
حرب أوكرانيا غيّرت عقيدة برلين العسكرية وأولوياتها السياسية
خلافات داخلية وتحديات اقتصادية تحول دون دعم ألمانيا للعقوبات على قطاع الطاقة الروسي
حرب أوكرانيا غيّرت عقيدة برلين العسكرية وأولوياتها السياسية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة